الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورات الحرية العربية وخريطة القوى الكبرى

أحمد حمدي سبح
كاتب ومستشار في العلاقات الدولية واستراتيجيات التنمية المجتمعية .

(Ahmad Hamdy Sabbah)

2011 / 7 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


من المتوقع أن تؤثر ثورات الحرية التي تجتاح عالمنا العربي الآن تغييرآ متوقعآ في خريطة تأثير القوى الكبرى في المنطقة ، لتتغير الاوضاع التي كانت مستقرة على مدار عقود طويلة ، فثورات الكرامة والحرية ليس مت المتوقع أن ينحصر تأثيرها على تغيير البنية المؤسساتية للدول العربية نحو مزيد من الانفتاح والديموقراطية بل انه من المتوقع أن يمتد تأثيرها الى البنية التأثيرية للقوى الكبرى في عالمنا العربي وحدود فعلها من واقع أمرين أساسيين :

أولآ- سعي الثورات العربية وهو ماعبرت عنه الشعارات الثورية المرفوعة في الميادين والشوارع برغبة الشارع العربي بانهاء عقود التبعية للقوى الغربية والتخلص من ممثليها وأتباعها في مراكز صنع واتخاذ القرار والمحسوبين على أبناء الوطن سواء كانوا حكامآ أو وزراء ومسؤولين كبار في دوائر الحكم ، وتحميل هؤلاء جميعآ وتبعيتهم للغرب ومؤسساته الدولية التي يسيطر عليها وخاصة كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي السبب في انهيار مستويات المعيشة وتدهور الخدمات وارتفاع الأسعار ودعم الديكتاتوريات الحاكمة .

وهو ما يشي بالرغبة المكنونة لدى جماهير الشعوب العربية الى قطع الصلة بهذه العقلية الفكرية والنمط الفعلي الحاكمي لأسس الفعل والتأثير وشكل ومضمون الخطوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية السابقة ، نحو فكر وأسلوب عمل جديد يعمل على تحقيق كرامة المواطن العربي ورفع مستويات معيشته وبناء حريته السياسية والفكرية بعيدآ عن أساليب القمع والوصاية والترهيب الرسمية التي كانت تمارسها أجهزة الدولة القمعية العنيفة ممتمثلة في أجهزة الأمن أو العاصفة فكريآ منها والمتمثلة في أجهزة الاعلام الحكومي والخاص المحسوب على الأنظمة الديكتاتورية البائدة .

وبالتالي فان الأنظمة الحاكمة الجديدة القادمة من ميادين وشوارع الثورة ستسعى الى بناء واقع جديد في عالم سياساتها الخارجية ، ليس بالضرورة ان يكون متخاصمآ مع القوى الغربية التقليدية خاصة وان منها ما كان داعمآ للثورات العربية ومؤيدآ لها بل وحاميآ لها كما هو الحال مع الثورة الليبية العظيمة بصرف النظر عن الدوافع الحقيقية والصدقية الفعلية لهذا التأييد أو ذاك ولكنها تظل في نهاية الأمر مواقف قوية متميزة اذا ما قورنت بمثيلاتها الروسية والصينية والتي تعطل حتى اتخاذ قرار قوي من مجلس الامن يدين النظام السوري جراء مجازره الشنيعة التي يرتكبها في حق شعبه وكذلك موقفهم السلبي ازاء بقية الثورات العربية .

وبالطبع فان المواقف الغربية في هذا الخصوص لا يمكن أن تعني تقديم صك تسليم مطلق ومفتوح التبعية من قبل الأنظمة الديموقراطية العربية الوليدة لصالح هذه القوى الغربية كما كانت تفعل سالفاتها العربية الديكتاتورية ، فقد ثبت بيقين الفعل أن مصدر الشرعية والحماية الحقيقية تأتي من الشعب لا من الغرب ، وأن الأنظمة العربية الجديدة التي ستأتي عبر صناديق اقتراع نزيهة ستسعى الى اعادة انتخابها عبر تحقيق متطلبات شعوبها وقطع صلتها بالعقلية والطريقة التنفيذية التي كانت تدار بها الأمور في الأنظمة الاستبدادية التي أسقطتها وستسقطها شعوبها الحرة .

وبالتالي فاننا نتحدث عن شكل جديد من الأشكال الحاكمة لطبيعة العلاقات الخارجية والدولية بين دولنا العربية الجديدة والدول الغربية بل ودول العالم كافة قائم على الاحترام المتبادل لا الانبطاح الخانع ، قائم على تبادل المصالح الحقيقية المكرسة والمعززة لرفاهية ومصالح الشعوب لا مصالح الخلود في الحكم وتوريثه حتى في الأنظمة المفترض أنها جمهورية كما كان الحال في سوريا ومصر وليبيا .

ثانيآ – ان الدول والأنظمة التقليدية التي لم تصل اليها النسائم العطرة لثورات الحرية مثلما هو الحال في دول الخليج ولازالت تتسم بالديكتاتورية المطلقة في ادارة شؤون البلاد واحتكار الثروات والسلطات تعمل على مواجهة الثورات العربية ومنع وصول رياحها وآمالها الى شواطئهم عن طريق :

أ- تعطيل ومنع محاكمات رموز الفساد والطغيان السابقين الذين تم طردهم من شعوبهم كالديكتاتوريين السابقين بن علي ومبارك ، برفض تسليم بن علي الهارب هو وزوجته في السعودية لمحاكمتهما على جرائمهما التي ارتكباها ضد الشعب التونسي على مدار عقدين من الزمن ، وكذلك ممارسة ضغوط على السلطات الانتقالية في مصر لمنع محاكمة مبارك وأسرته على فظائعهم التي ارتكبوها من سلب ونهب وقتل الشعب المصري على مدار ثلاثة عقود .

مع تمويل وافر ودعم وفير بشكل خيالي لجماعات دينية متشددة ورموز دينية متطرفة (كالعادة تتدعي الوسطية والاعتدال) تصول وتجول الآن في مصر وتونس وغيرهما من البلاد العربية والاسلامية لتروج الفكر الوهابي المكرس للخنوع للسلطة الحاكمة مهما كانت غاشمة وظالمة والمحرم تمامآ للخروج عنها ، وساعين للوصول الى السلطة لتحويل تلك البلاد المحررة أخيرآ من الجب الأثير للاستبداد والظلم بالقائها الى جحيم فتن طائفية ومظاهر شكلية وافكار بدوية متطرفة ودولة دينية وهابية لا ترى في كل معارض الا وجهآ للشيطان فلا يجب الا تعذيبه واعدامه قربانآ منهم لمعتقداتهم الدينية الخاصة والتي يعتبرونها الدين الحقيقي والوسطي (وفقآ لخيالاتهم وأوهامهم معتقداتهم الذاتية ) والا اعتُبر رفضهم لتعذيبه واعدامه بمثابة تقصير ديني وخروج عن الدين يستوجب التوبة والاستغفار وهم بذلك أبعد من أن يدركوا المكنون الحقيقي والقيمة العليا للدين الاسلامي الحنيف وسائر الاديان السماوية العظيمة ، وبالتالي تصبح جميع الدول الاسلامية نموذجآ مستنسخآ من السعودية وافغانستان فيأمن ما يسميه رموز الطغيان شرور الحرية والديموقراطية أن تنتقل اليهم من دول أضحت تابعة لهم بعد أن سيطر عليها أتباعهم وتابعيهم .

ب – رفع درجات الحظر المستمر والمنع المتواصل لأي شكل من أشكال المظاهرات السلمية التي تعبر عن رغبات ومطالب شعوبها في الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة ومواجهة البطالة وغيرها من المطالب السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية للفئات الأقل حظآ ورعاية كالبدون في الكويت والشيعة في السعودية والبحرين والتي تم قمعها بوحشية يندى لها الجبين بمعاونة من الأنظمة المثيلة للنظام البحريني والساعية الى الحفاظ على مكتسباتها الخاصة ومنع انتقال عدوى الديموقراطية الى عروشها .

خاصة وأن تحولآ ديموقراطيآ حقيقيآ في البحرين حتى نحو ملكية دستورية يعني أن نظامآ شبيهآ بأشقائه الخليجيين قد سقط وبالتالي فان ذلك يعد اعترافآ حياتيآ واقعيآ بان لا أحد يمكن ان يسلم من رياح التغيير خاصة وان الشعوب لا تسعى فقط الى المال ومستويات المعيشة المرتفعة بل تسعى الى الرفاهية الحقيقية والتي لا تتحقق الا بالكرامة والعدالة والمساواة في الحقوق وامكانية الوصول الى الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة وانهاء سيطرة عائلة او عوائل محددة على الحكم والثروة في البلاد .

ومع ذلك فان رياح التغيير قد وصلت الى عقلية رموز الحكم في هذه الدول مع تغير ايمانهم بأن الدول الغربية وقواعدها العسكرية على اراضيهم لن تحمي عروشهم ولا تمثل حائط صد قوي يعتمد عليه في مواجهة ثقافة التغيير وعصرها وانه لابد لهم من انتهاج مقاربة جديدة تتناسب مع العصر ومع سعيهم الى الحفاظ على عروشهم وثرواتهم ومكتسباتهم ، وهو ما يمكن ان يتحقق وفقآ لهم لا عن طريق الشروع الفعلي في احداث اصلاحات جذرية وحقيقية فأغلب اصلاحاتهم ما هي الا محض اصلاحات شكلية لمجالس شورى لا وزن لها في الحياة السايسية الفعلية يقدمون بها أنفسهم عبر وسائل اعلامهم على أنهم رموز الديموقراطية الحقيقية الحديثة والاسلامية الاصيلة وغيرها من الشعارات الدينية لا تلك الغربية الكافرة كما يوصمون معارضيهم الذين يسعون الى بناء منظومة ديموقراطية حقيقية ونظام فعال وفاعل يعتمد معايير حقيقية للشفافية والمسؤولية والمحاسبة .

وانما ستسعى أنظمة الحكم الخليجية الى انتهاج مقاربة جديدة في مجال العلاقات الدولية تعمل على تحقيق مزيد من التقارب مع الدول التي أثبت في تجربة الثورات العربية أنها أبعد ما تكون عن مباركة انتفاضات الحرية العربية متمثلة في الصين وروسيا فستسعى أنظمة الحكم في دول الخليج لاحقآ الى دعم علاقاتها مع كلتا الدولتين وفتح سبل جديدة للتواصل وبناء جسور من التعاون عبر الأداتين الملازمتين للأنظمة الخليجية وهما مشاريع الاستثمار الخليجي الخارجي المرتكزة على العقار والترفيه وصفقات الاسلحة التي تكدس حتى تصدأ في المخازن ، مع العمل على تنسيق المواقف عبر اللقاءات الثنائية و المنظمات الأممية حين تستشعر تلك الدول ثمة مخاطر على عروشها .

مع عدم قطع الصلة والروابط بالقوى التقليدية الغربية ، خاصة وأن عاملي البترول والموقع الاستراتيجي المتحكم في شرايين الملاحة العالمية يفرضان على دول الخليج والغرب انتهاج نمط معين ومحسوب من العلاقات البينية ، فالغرب لا يستطيع تصور ان تحل كل من الصين وروسيا محله في هذه المنطقة الاستراتيجية وما يعنيه ذلك من خسائر استراتيجية هائلة للقوى الغربية ومكاسب خيالية لكل من الصين وروسيا في اطار سعيهما الى تحقيق توازن استراتيجي عالمي مع القوى الغربية ، ولا الأنظمة الحاكمة في دول الخليج تستطيع أن تذهب الى مدى بعيد في استعداء الغرب أو الابتعاد عنه مخافة ان يؤثر ذلك على استقرار عروشها بأن يقوم الغرب بتمويل وتعزيز وتوفير غطاء لوجيستي من الدعم السياسي لحركات التحرر وجماعات الضغط الشعبية الخليجية المطالبة بالاستقلال من نير حكم الأسر المالكة في الخليج .

ولكننا سنشهد شكل جديد من أشكال المقاربة الوسطية تأخذ قليلآ كبيرآ من مجال التقاربات والمصالح والعلاقات الخليجية الغربية الى مجال العلاقات الصينية الروسية من جانب ودول الخليج من جانب آخر ، ويتوقف مستوى ودرجة التحول هذه على طبيعة رد الفعل الغربية ومدى انغماسه في مشاكله المالية الخاصة من أزمات ديون وتضخم وعجز كبير متنامي في موازناته الخاصة وما يفرضه ذلك من اتباع أساليب جديدة تبتعد عن المواجهة والدخول في منافسات وصراعات دولية مكلفة لم تعد الميزانيات ولا الشعوب الغربية قادرة على تحملها ، في نفس الوقت الذي تعاني في الصين من نمو مفرط وفوائض هائلة ومساحة أوسع من فرص وامكانيات الفعل والتأثير الدولي ، اضافة الى تمتع روسيا بالامكانيات العسكرية والاستراتيجية الملائمة مدعومة بارتفاعات متوالية في أسعار النفط والغاز ومسائل الترتيبات الامنية في القارة الأوروبية كمشروع الدرع الصاروخية والعلاقات مع النيتو وما يتعلق بكل ذلك من تأثير موازي لعلاقاتها البينية مع أوروبا .

هذا اضافة الى أنه لا يمكن اغفال دور وتأثير التكتيكات التي ستلجأ الى اتباعها قوى المعارضة الخليجية خاصة في أوروبا وأمريكا ومدى الضغط الفعلي الذي ستمارسه بشكل مجتمعي ومؤسساتي في الدول الأوروبية وأمريكا ، ومدى استجابة دوائر الحكم في الدول الغربية الى هذه الضغوط وأساليب التعامل معها ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام سيناريوهات عدة تدفع بمزيد من الحلحلة والغيير مياه العلاقات الغربية الخليجية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة ..هل يستجيب نتنياهو لدعوة غانتس تحديد رؤية واضحة للحرب و


.. وزارة الدفاع الروسية: الجيش يواصل تقدمه ويسيطر على بلدة ستار




.. -الناس جعانة-.. وسط الدمار وتحت وابل القصف.. فلسطيني يصنع ال


.. لقاء أميركي إيراني غير مباشر لتجنب التصعيد.. فهل يمكن إقناع




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - نحو 40 شهيدا في قصف إسرائيلي على غ