الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 2

غالب محسن

2011 / 7 / 13
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 19


" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فإنكما إن أقررتما بالإسلام ولًيتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن مُلككما زائل ، وخيلٌ تحل بساحتكما ، وتظهر نبوءتي على ملككما ". من كتاب الرسول الى ملك عمان جيفر وأخيه عبد ابني الجلندي .

العنف في الفكر أولاً

في الجزء 1 من هذه التاملات كتبتُ " بدون البحث في المسببات والموجبات و" الحكمة الألهية " فأن الأديان السماوية الثلاث الكبرى قد رسّخت العنف وجعلته مطلقاً ، بعد أن حولته الى واجبٍ مقدسٍ ، بعدما كان نسبياً ، مقيداً بالحاجة للعيش لدى الأنسان البدائي . " . وبقدر مايتعلق الأمر ببلداننا العربية الأسلامية حيث يتآلف الدين مع الشعب والدولة يُبين تأريخ الدعوة كيف يتم حل الأختلاف مع الآخر (الغير مسلم ) وأن كان بعيداً في المسافات والتأريخ والثقافة بعد أن تم حسم هذا الأختلاف داخلياً (تطرقت له في مناسبات سابقة) .

فالكتاب ( الفكر) الذي لا ريب فيه لا يترك خياراً للآخر . أن كل الكتب والرسائل التي بعثها المصطفى للقبائل والملوك عادة ما تبدأ بالتذكير برسالة النبي وأنه رسول الله " من محمد بن عبد الله ورسوله ..." وأن من يخاطبهم ليسوا على طريق الهدى " سلام على من أتبع الهدى ....." ، ثم التهديد والترغيب أو العصا والجزرة " .... فأسلِم تسلَم ويبقى المُلك لك ... " أنظر رسائله الى كسرى ملك الفرس ، هرقل ملك الرومان ، النجاشي (ليس النجاشي الأول) ، صاحب اليمامة ، حاكم البحرين وغيرهم .

هكذا كان تراثنا الذي نحافظ عليه بأمانة !


العنف الفكري غالباً ما يترجم الى عنف جسدي حالما يصل صاحبها للسلطة . وهذا ليس حكراً لأحد بل لكل فكر شمولي . الأمثلة كثيرة ، هذه بعضاً منها :

من التأريخ الأسلامي يمكننا تذكر ما يسمى بحروب الخوارج أو الردة ثم " الفتوحات " بعدها . عندما فتح العرب المسلمون البلدان كانوا يحملون في يد القرآن (الفكر) وفي الثانية السيف . كما كانت رسائل صاحب الدعوة .

ومن المسيحية يمكن تذكر العنف الذي صاحب حملات الكنيسة في العصور الوسطى وأتهامها لكل رأي مختلف معها بالهرطقة وحتى عالم رصين مثل غاليلو لم يسلم من هذه التهمة .

أما من التأريخ الحديث نرى هذا العنف الفكري الذي ينتهي بتصفية الخصم التامة مثلا في تجربة الأتحاد السوفييتي عموماً وفي زمن ستالين خصوصاً ، كذلك في الصين زمن ماو عموماُ لكن فترة الثورة الثقافية خصوصاً. وفي أكثر التجارب شراسة يمكن أن يتحول الأرهاب الفكري الى أرهاب جسدي حتى قبل تَمَكّن هذا الفكر من السلطة (النازيين ، الفاشيين , جماعة الألوية الحمراء ، الطالبانيين) . ولا بد من التذكير من أنني في الجزء 1 قد ميّزته عن العنف الدفاعي الذي يضطر له صاحبه بما فيها حروب الدفاع أو التحرير والمقاومة .

وفي مختلف البلدان ، أذا تباينت هذه الممارسة في شدة بريق سيوفها ، فأنها في العراق الأشد بريقاً !

اللعنة مرتين على أنظمة الفساد

لم نعاني فقط من ظلم أنظمة العنف والأضطهاد و الفساد بل وفرضت هذه الأنظمة ، وهي تلفظ أنفاسها ، على البدائل التي قامت على أنقاضها ، بعضاً من " بركات " ثقافتها كأنها تردد مع ماركس مقولة " الميت يمسك بجلابيب الحي " .

تشهد منطقتنا وبقاع عديدة من العالم هذه الأيام نهوضاً جماهيراً مثيراً للأعجاب وربما بعض الحيرة . أن تأريخاً جديداً ، مشرقاَ ، بدأت تظهر ملامحه تدريجياً ، لكن ليس من دون خوف وقلق لحياة جديدة تُذَكِّر بثورات العبييد . أن هذه الأنتفاضات قامت ضد أنظمة عفنة أنتشر الفساد فيها ليشمل ليس فقط مؤسسات الدولة ورجالاتها بل تغلغل لكل مفاصل الحياة وغدا ثقافة شاملة في المجتمع كله . لم تكتفي هذه الأنظمة بسياسة النهب والترويع والدجل والقتل ومصادرة حقوق الأنسان بل وأبقت على تخلف مجتمعاتها وأمعنت في أغراقه في الجهل وزادت عليه بأن أصبغت عليه صفة القدسية والمشيئة الألهية . هكذا وجدت هذه الأنظمة حمايتها ليس فقط في العنف وحده بل وفي تحالف الجهل والأيمان . أن هذه الحقيقة مروعة في جانبها الآخر أيضاً. فالبدائل الثائرة قد لا تكون بمنأى عن حاضنتها وأن هي أرادت العفة . لننتظر ونرى فالحجة على أصحاب هذه البدائل .

بمعنى آخر فبسبب تخلف هذه المجتمعات سياسياً (وفي مقدمتها غياب الثقافة والتقاليد الديمقراطية) وأقتصادياً وأنتشار الخوف والجهل والخرافة والفساد فأن بدائل هذه الثورات والأنتفاضات ليست كلاسيكية تماماً . وبغض النظر عن المسميات فأن العراق خير مثال . فمعارضة الأمس للظلم والفساد هي ذاتها من تحكم اليوم وهي من تنهب ثروات البلاد وهي من تسن القوانين لشرعنة النهب والفساد . أن تجربة العراق الحالية ستُردد كثيراً في كتب التأريخ باعتبارها من أسوأ تجارب الديمقراطية .

الله وأكبر صيحة حرب

لست في معرض كتابة مقالة سياسية تحليلية للأحداث فهذه لها فرسانها وهم ما شاء الله ( هناك كم هائل في الأنترنت لمن يرغب بالتعمق ) . غير ان ما أود التنويه له في هذا السياق هي أن نداءات الله وأكبر في هذه المظاهرات والأحتجاجات لذو دلالة بالغة . فالجموع المنتفضة و الغاضبة تهتف بأسم الجلالة ، تقابلها من الجهة المقابلة هتافات مماثلة من كتائب العقداء وقوات بن صالح وهجانة جلالة الملك . ما أشبه الليلة بالبارحة . فهذه الصيحات عمرها أكثر من أربعة عشر قرناً عندما بدأت الرسالة في تثبيت أقدامها وفي التوسع ضد الكفار أولاً ثم في مقاتلة الأصحاب .

في البدء كان المسلمون الأوائل يتظاهرون ، سلمياً ، في دروب مكة وهم يكّبرون " الله أكبر " ، بخشوع وبعيون دامعة من شدة الأيمان . ثم غزوا ، بعد أن أستقر لهم المُلك ، بلدان العالم وهم يكّبرون " الله واكبر " وبالسيف يضربون ، وبه لله يتقربون ، وزادوا فذبح المؤمنون منهم خير رجالاتهم ، بذات السيف ، وهم يكّبرون " الله واكبر " . هكذا فعل الحجاج بالصحابي سعيد بن جبير وهكذا يفعل فرسان اليوم رغم أختلاف الزمان .

أن النموذج الأسلامي في دمج المؤسسة الدينية بالدولة ومؤسساتها قد تجذر ليندمج الأيمان والأنسان في توحد غريب وفريد . هذا الأندماج يظهر وكأنه بديهي وغير قابل للمسائلة . تَوَحِّد جعل ما هو غير مألوف مألوفاً ، والبعيد قريباً ، والرؤى وما وراء الطبيعة " حقائقً " ليست بحاجة لبيان . هذا الدمج أستمر بعون العنف المقدس الذي يزداد عنفاً كلما زادت الشكوك حوله . هكذا تفعل الأنظمة القمعية عندما تهتز الأرض تحت قدميها فلا عجباً بعد ذلك أن تصف هذه الأنظمة كل محاولة للأنقلاب عليها أنما هو هجوم على الأسلام . هكذا أخذ يزعق العقيد عندما أشتد عليه الخناق وهكذا فعل أمثاله وأسلافه . أليس هذا أحد مؤشرات بداية النهاية ؟

الأمل يقبع خلف ساحات التحرير

عندما شعرت الكنيسة بأرتجاف القرار تحت قدميها بفعل أهتزازات المكائن والقاطرة البخارية كان مارتن لوثر قد أعلن بداية النهاية لغطرسة وهيمنة الكنيسة . ورغم أن نواياه كانت حسنة لأنقاذ الكنيسة فقد أنتهت تلك البداية بأستسلام الكنيسة شبه التام لمصلحي عصر النهضة والفلسفة العقلية . تلك النهاية كانت هي ايضاً بداية الديمقراطية الحديثة .

واليوم تهتز الأرض وترتج تحت أقدام القيّمين علي الدين الحنيف من أصحاب العمائم من المدعين أو غيرهم ممن أستبدل العمامة بربطة العنق ، بفعل ضربات شباب الأنترنت ومحركات البحث غوغل و حملات الفيس بوك لتهدم كل جدران المحرمات والممنوعات ولتضع أكثر " قناعاتنا " بداهةً في دائرة الشك والحيرة .
لا يمكن الأدعاء من انني من بين المتفائلين عندما يتعلق الأمر في السياسية عندنا دع عنك موضوعة الأسلام السياسي والتي تناولتها مراراً في مناسبات عديدة ، أقول أنني بدأت أتلمس بصيص أمل منبعه ساحات التحرير والتغيير في أرجاء المعمورة العربية الأسلامية أذا أفترضنا أن أفغانستان وشقيقاتها ليست من ضمن هذا العالم الذي أقصده . هذا الأمل ليس منبعه طبعاً البدائل العفوية أو تلك القوى التي تحاول أن تركب الموجة بل أن هذا الأمل يرنو ببصره الى ما بعد تلك البدائل . الأمل في بديل ديمقراطي ، أنساني وحضاري ( ليست مهمة هذا المقال رسم خارطة طريق له بل هناك الكثيرين ممن شمّر ساعده لهذا الغرض ولهم اجر المحاولة على أية حال أن أختلفنا معهم ) .

وأن بدا هذا الأمل أقرب للتنبأ منه للعِلم ، أذا أفترضنا أن البعض يرى السياسية بين العلوم الأجتماعية ، فلن أدعي النبوة باي حال حتى وأن لم تتحقق هذه الرؤيا ( ليس هناك دليل واحد غير أيماني على أن نبوءات الأنبياء قد تحقق شئ منها طبعاً اذا تخلينا عن التأويلات التي هي في الواقع تشبه محاولات أنقاذ من الغرق ) .

بداية النهاية

لقد بدأت الشكوك تحوم حوال الكثير من القناعات التي كانت تبدو قبل فترة زمنية يسيرة رصينة ومتماسكة . فكما لا يبدو أن الرأسمالية ستنهار حتماً بفعل الأفقار المتزايد للشغيلة ( مع أحترامي الشديد لماركس ) ، لا تبدو لي أيضاً أن أساسات الدين الحنيف العقلية بل وحتى الأيمانية من المتانة لتتحمل كل هذا الضغط المعرفي والمعلوماتي والذي بدا كأنه يدغدغ القلوب بعد أن شدخ العقول . أن صوم رمضان في صيف الشرق الأوسط القاسي وفي ظروف أنقطاع التيار الكهربائي ، ليس في العراق وحده لكنه الأسوء قطعاً ، دفع الكثير من المؤمنيين الى التساؤول عن مغزى الحكمة الألهية وراء هذا " العذاب " . تساؤولات تذكر بسفر أيوب الذي عاتب ربه على عذاباته رغم ايمانه الشديد . وأذا كانت " وساوس الشيطان " هذه ، تاتي في معضمها عفوية فغالباً ما تصاحبها عادة دمدمات " أستغفر الله العظيم " و قبلها " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وربما تتبعها ركعتان أضافيتان ، زيادة في الأحتياط .

حتى من غير الرجوع للمادية التأريخية ، فلن تنجح البدائل الدينية ألا مؤقتاً ، وهي في أغلب الحالات تأتي ، كما هو مفهوم ، في ظل غياب بدائل تقدمية بسبب ضعف هذه الأخيرة من جهة وبسبب سهولة ويسر البديل الديني الذي يعيش معنا ، فكراً وسلوكاً ، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ، نرثه كما الجينات .

ربما سيكون العنف الجسدي هذ المرة أقل دموية بالمعنى الحرفي للكلام . فبداية النهاية للبديل الديني ستكون غير محسوسة في البدء لكن سرعان ما تستشعر قواه بأول الأهتزازات سيظهر العنف أولاً في الميدان الفكري حيث سترد الفتاوى من كل حدب وصوب . ثم سيزداد شراسة وقداسة كلما زادت تلك الأهتزازات الفكرية التي ستتحول شيئاً فشيئاً الى هزائم يقولون عنها كما قال ساستنا عن هزائمهم . فالمطلوب هنا ليس مواجهة الحجة بالحجة بل الكفر مقابل الأيمان وهذا لا يحتاج الى برهان .

وهذه الظاهرة لاتشمل في الواقع الفكر الديني وحده بل ظاهرة تُميز كل فكر غير ديمقراطي . ويكفي أن نتذكر فترة الحرب الباردة وما رافقها من صراعات فكرية ضارية مازال كثير من شضاياها في عقول الكثيرين .

الخلاصة ليس من السخرية بشئ القول أن نهاية المشروع السياسي للبديل الديني الكلاسيكي في عصر الثورة المعلوماتية والأنترنت هو ذاته يوم أستلامها للسلطة . أن الممارسة وحدها من تضع مفاهيم الأيمان موضع شك وريبة طبعاً فضلاَ عن أسباب أخرى كثيرة كتبت عنها في مناسبات سابقة من أكثرها بساطة وتداولاً هو تعمق أزمة الخطاب الديني بما فيها النص المقدس ذاته حيث لا تنفع بعد أية تأويلات لجعله يتماشى مع تطورات العصر ( العلمية خصوصاً ) مما يزيد من حدة تناقضاته من جهة وفي ذات الوقت تتزايد وتتراكم المعرفة وتنشر متجاوزة كل الحدود من جهة أخرى . هذا كله سيواجهه الفكر الديني بشراسة وكأنها معركته الأخيرة وقد تتطلب ، عند الضرورة ، ظهور المنتظر بأعتباره السلاح الأخير في هذه المعركة .

أنها معادلة غير متوازنة . فأحد طرفيها يتزايد بمتوالية عددية أحادية (السنين اوالزمن) بينما طرفها الآخر (المعرفة ) يتزايد بمتوالية هندسية مما يخلق أرتجاجات في البنيان ، تزعزع الأيمان ، للأنسان ن المؤمن الحيران ، مُعَمَماً بالسواد كان ، أم من الرهبان ، لا يهم من أية أديان ، أو ملّة أو شان ، أو بلدان ، صحارى أم خلجان ، أم يجري فيها نهران ، دفاع أم عدوان في ما ملكت الأيمان ، عدل أم طغيان ، مهما كان اللسان ، بأذنه أم بالأحسان ، كله في الميزان .

د . غالب محسن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل