الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا مكان للاعتدال في إدارة بوش

ناجح شاهين

2004 / 11 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


لم نتمكن من التظاهر بالدهشة من الاستغناء عن خدمات كولن باول على الرغم من رغبتنا في ذلك. فالواقع أن المرء يحب بين الفينة والأخرى أن يحس بطعم المفاجأة، على الأقل من باب الرغبة في التخلص من روتين ممل وراكد يهيمن على تفاصيل حياتنا ويجعل الناس يكررون طوال الوقت: لا جديد تحت الشمس. وذلكم على الرغم من أن كل يوم، بل كل ساعة، وكل دقيقة تحمل لنا معشر العرب جديدا وجديداً ندفعه كل مرة من دمائنا بالذات.
هل يمكن لأحد أو جهة التحول نحو الاعتدال عبر الوعظ الكنسي أو عبر تدريب أخلاقي بالاستعانة بحكماء اليوغا أو ما أشبه؟ هل يمكن إقناع الذئاب والأسود بالتوقف عن مطاردة الفرائس الضعيفة واللذيذة من طائفة الغزلان وحمر الوحش؟ يمكن ذلك فقط في الزمن المسياني الذي لم يأت بعد. وربما أن حلماً مسيانياً أرضياً قد انتشر على نطاق واسع بجهود مثقفين أوروبيين أحسوا بالرعب من طاقة قارتهم العجيبة على سفك الدماء دون تورع. من هذا الباب بدأ في القرن التاسع عشر ميل عارم للكلام في الاشتراكية والعدالة والمساواة ورفع الإنسان إلى مستوى المطلق، وإزاحة غاية الربح عن عرشها المقدس بإحلال سعادة الإنسان ومساواته مكان قيم المال والمنفعة المادية. لكن للأسف لم يتمكن المشروع من التحول إلى واقع. وحتى في مستوى الاشتراكية المحققة، اتضح أن ما أنجز كان نوعاً من الدولة البوليسية التي احتوت في داخلها الكثير من خصائص رأسمالية الدولة. غير أن هذا ليس هذا موضوع البحث. فقصدنا أن نقول أن الحقيقة عارية وبسيطة عادت لتكشر في وجوهنا: "لا ملجأ للضعاف." والبقاء هو كما اكتشف عالم التطور العظيم داروين هو للأقوى والأصلح والأقدر على التكيف مع مقتضيات الحياة في الغابة. ومن لا يتمكن من ذلك سوف يتحول إلى طعام للكبار والأقوياء. هذه بكل بساطة وقسوة المعادلة الواقعية، على الرغم من الكلام الكثير الذي يتردد في منابر الكنائس والمعابد والمساجد ومواعظ الحكماء.
أردنا من هذه المقدمات البدهية أن نلتمس العذر لإخوتنا البيض القاطنين في شمال المعمورة، وخصوصاً فرعهم الأنجلوسكسوني الذي يحتل اليوم موقع أصحاب الدم الأنقى بامتياز. هؤلاء يقطنون اليوم أرض القارة الأمريكية التي كانت كحال فلسطين: أرض بلا شعب، إلا قليلا من الوثنيين الذين كان الرب يريد إزاحتهم من الوجود لكي يتمكن شعبه المختار من عبادته بهدوء. هكذا يفكر "الواسب" الوايت أميركان أنجلوساكسون، الذين يهيمنون على مقاليد السياسة والمال في الولايات المتحدة.
ومن باب أن البشرية لم تنجح في إزاحة قواعد مجتمع الغاب، فإن القوي ما زال يحقق قطعة كبرى من الكعكة بالاعتماد على قوته. وكلما ازداد طغيان القوة فإن الحاجة إلى العقلنة والتسويغ أو الأيديولوجيا تصبح أقل. إذ تصبح القوة وحدها كافية للإقناع والإخضاع، فلماذا يرهق القوي نفسه في البحث عن عقلنة لسلوكه. من هنا تأتي عبثية إقناع الأمريكي على سبيل المثال أنه لا يحق له احتلال العراق، أو إقناع الإسرائيلي بأن موافقتنا على حدود عام1967 هي كرم عربي حاتمي، إن لم يكن تنازلاً وتفريطاً من جانبنا بأرض الآباء والأجداد. إذ هيهات أن يرى القوي الأمر بعيون الضحية. إنه يرى نفسه قادراً على التهام كمية أكبر مما التهم بالفعل، فيظنها حقه الشرعي المباح ويهجم على الفريسة لا يلوي على شيء. ووسط صراخ الضحية وضحك المفترسات الجذلانة، لا يعود أحد قادراً على تمييز ما يجري. في هذا السياق مثلاً يأتي الرئيس جورج بوش -الذي أعيد انتخابه منذ أيام- في عز لحظات تدمير مخيم جنين أو ساحاته الرئيسة على الأقل، ليخبرنا بثقة وهو يضع عيونه في مواجهة عيوننا بقوة تامة: "أنا أومن أن أرئيل شارون رجل سلام". نذكر أن أكثر من كاتب إسرائيلي لاحظ في حينه أن شارون نفسه لا يمكن أن يصدق مزحة الرئيس الطريفة. لكن مع تكرار الدعابات من قبل الرئيس الإسكتلندي الأصل، وإعادته القول جهاراً نهاراً بأن مشكلة شارون أنه لا يجد شريكاً للسلام، وأن المشكلة تتلخص في عجز الراحل ياسر عرفات عن الوصول إلى دفع ضريبة السلام النبيل، بدأ الكثيرون التصديق وخصوصاً في أوروبا مهد السلام على الطريقة البيضاء. في تلك الأوقات كان العجوز شمعون بيرس صانع " أوسلو " يهمس لكل من يرغب في الاستماع بأذنين صاغيتين أو مغلقتين: "مشكلتي ليست في شارون،مشكلتي في جورج بوش." والصحيح أن بيرس كان محقاً، فقد بدا في لحظات معينة أن شارون سوف يبدأ في الخوف على نفسه من أن يتحول في عيون أبناء شعبه إلى يساري متطرف بفضل مواقف جورج بوش التي كسرت الميزان السياسي الذي لم يعد قادراً بالفعل على قياسها.
كانت لجنة كاهانا قد قررت مسؤولية شارون عن مجازر صبرا وشاتيلا. ولم يتحمل المجتمع الإسرائيلي في حينه كل تلك الدماء التي تلطخ أيدي الوزير في وضح النهار فطرد من الخدمة. لكنه عاد في زمن آخر ليفعل أشياء أكثر قبحا دون أن يتمكن أحد في إسرائيل أو خارجها من توجيه اللوم إليه، لأن الدنيا تغيرت ورجال البيت الأبيض قرروا أن يزينوا أسوارهم برؤوس الضحايا، وأن يشربوا الدماء في الاحتفالات الدينية دون أن يعترض عليهم معترض. وحتى عندما اعترض مجلس الأمن، اعتبروه ممثلاً لأوربا العجوز التي تسير في طريق الانقراض. وهكذا أصبح لمن يرغب في القتل قدوة "حسنة " اسمها الولايات المتحدة التي ترعى حقوق الأنام في كل العالم من الصين وكوريا الشمالية شرقاً مروراً بسوريا وإيران في الوسط ووصولاً إلى كوبا وفنزويلا في غرب الدنيا. لم تستطع الإدارة الراعية لحقوق الإنسان أن ترى في ما فعل شارون أكثر من دفاع مشروع عن النفس، ولذلك كان لا بد من تغيير الصورة التي كانت قد ألصقت بالرجل ظلما بوصفه جزارا وقاتلاً من الطراز الأول. فجاءت تصريحات الرئيس بوش المتعددة حول أخلاق الرجل واتجاهاته السلمية الأصيلة. لكن ذلك لم يكن على ما يبدو كافياً. كان لا بد من تغيير الملامح الشخصية للرجل الذي طالما ضبط متلبساً باستعمال قبضته حتى وهو في أعلى المناصب. حيث وجد في حالات كثيرة يضرب مزارعاً أو عاملا عربياً بسبب انتهاكات ما، من نوع أنه مر بجوار مزرعته واشتبه بالتخطيط لقطف بعض الثمار من على شجراته. من أجل تغيير صورة الرجل الفظ الذي يبدو بعبعا في مستوى الحياة الشخصية لاحظت السيدة كوندا ليزا رايس عدة مرات اللطف الكبير الذي يتمتع به الرجل مع النساء. وتلك مسألة مهمة في أخلاق الفروسية الأوروبية. وقد نوهت رايس أكثر من مرة كيف تحدث شارون برقة بالغة عن ساقيها الجميلين. ذكرنا سلوك رايس بالمثل العربي: " اللي بحبك بيأكل عنك زلط، واللي يكرهك يقف لك على نقرة غلط". في الواقع في حالتنا الإدارة الأمريكية تقوم باختراع حسنات لإسرائيل بينما تلصق بالعرب وخصوصاً الفلسطينيين كل العيوب والمثالب الممكنة.
لوهلة يبدو وكأن الإدارة الأمريكية في عصر العولمة وخصوصاً في طبعة الواسب الراهنة والتي تتميز بتدين توراتي صريح يذكر بفرح رب الجنود بقتل " الجوييم " من غير اليهود؛ لوهلة يبدو أنها تخبط على غير هدى بحيث تصبح أقرب ما تكون إلى بيت الشعر:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
لكن على الرغم من بعض الشبه المعقول بين إدارة بوش والمنايا، فإن الصحيح أنها لا تسير خبط عشواء بالمعنى الحرفي للكلام. صحيح أنها تضرب كما الثور المنفلت من عقاله بكل اتجاه واتجاه، لكنها في الحق تربح في معظم ما تفعل، وهو ما يشجعها على العودة إلى ممارسة نفس السلوك. ولقد لاحظنا أخيرا كيف كافأ الجمهور الأمريكي رئيسه وإدارته بإعطائهم ثقة ربما لم تعط لرئيس أو إدارة من قبل. وهو تعبير عن رضا " الشعب الأمريكي " عن منجزات قيادته. إنه استفتاء لا يكذب أهله حول مزايا التطرف وإرهاب الدولة، وإحياء سياسات الاستعمار القديمة، وفرض الإمبراطورية الأمريكية في زمن العولمة بقوة الجيش لا بقوة الإعلام أو الاقتصاد. إنه تفويض لدوس حركات المقاومة المعارضة للاستعمار بالعقب الحديدية. ولأنه لا شيء ينجح كالنجاح، فإن الرئيس بوش ثمل جداً بإنجازاته المتفوقة إلى حد أن يقرر أن يصل بنفسه حد الكمال بالتخلص من شبهة بسيطة تدعى كولن باول، الذي لم ُيثبت عليه أحد تهمة الاعتدال، ولكنه في الأقل مشبوه باتجاه يقول بتوفير بعض المال والرجال إذا أمكن تحقيق المصلحة الأمريكية دون قتال. لكن ذلك ضعف وأي ضعف: إذ ما الفائدة في الواقع من البناء العضلي العظيم إذا لم يستخدم في تحقيق المصلحة في الداخل والخارج إضافة إلى تقديم المثل والعبرة؟ ولأن لا وقت للإقناع، فإن ما يريحك من الغلام هو طلاق أمه. وربما أن بوش قد فكر في ذلك عندما افتتح حكمه الجديد بطرد باول من الخدمة. وقد أحسن صنعاً لنفسه وللآخرين. فعلى العالم أن يدرك أن لا مكان للاعتدال والمعتدلين في إدارة بوش. وأما بالنسبة للرئيس فإنه يؤمن بيته الداخلي من كل خطر بتطبيق مثل عربي ملهم في هذا السياق: "فالباب الذي تأتيك منه الريح سده واستريح."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب الجمعية الوطنية الفرنسية.. مفاوضات مرحلة ما بعد الانتخا


.. ما ردود الفعل في أوروبا على نتائج الانتخابات التشريعية في فر




.. حماس تتخلى عن مطلب وقف إطلاق نار دائم كشرط مسبق للتفاوض للإف


.. صور حصرية لحرق مستوطنين شاحنات بضائع ومساعدات في طريقها إلى




.. بسبب القصف الروسي.. دمار كبير في مستشفى الأطفال ومبان سكنية