الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كـوارث الـلـغـات

مرعي ابازيد

2004 / 11 / 18
الادب والفن


يتناقص عدد اللغات الصغيرة في العالم بشكل حاد ، مما يهدد بكارثة أدبية ومعرفية بقدان ما تختزنه اللغات المنقرضة أو الميتة من تجارب الشعوب وخبراتها عبر الزمن . لذلك من الضروري ان نشرح أولا ما يعنيه مصطلح اللغات الحية . وتخدمنا في هذا الموضوع الموسوعات المنتشرة في كل مكان في المكتبات العالمية،ومنها الموسوعة السوفييتية وهي من الموسوعات الغنية على مستوى العالم .فلو أخذنا قسم " لغات العالم " سنجد التفسير التالي :
" لغات العالم " مصطلح خاص يطلق على لغاتنا الانسانية ( من الانجليزية والعربية والروسية الى لغة اليوت والتايتان ) ، المؤلفة من ستة آلاف نوع تقريبا وكل نوع من هذه اللغات يعتبر لغزا قائما بحد ذاته .
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر أصبح متداولا مقارنة اللغات بالاعضاء الحية وهذه المقارنة مازالت موجودة حتى يوما هذا وهي موضوع نقاش دائم باعتبار ان اللغات كما الاشياء الاخرى تولد وتموت . إن اللغة تموت وتنقرض عندما ينتهي الاشخاص المتكلمون والمتمكنون منها منذ الطفولة كأول لغة مخاطبة وتعامل مع الوسط المحيط ، وهذه اللغة تسمى " اللغة الام " ، وعندما لا تصبح اللغة أماً بالنسبة لأي شخص من الاشخاص تصبح ميتة ، وهذا أيضا ( مصطلح علمي ) ، طبعا طلاب المدارس الحديثة يقرؤون موضوعا باللغة اللاتينية الميتة وأطباء العالم أجمع حتى وقتنا الحاضر يكتبون الوصفات الطبية باللغة اللاتينية . على الرغم من ان هذه اللغة ليست على قيد الحياة ولاتتطور وأصبحت كقطعة أثرية في متحف . وفي الكثير من الاحيان يكون مصير اللغات الميتة النسيان السريع واللاعودة ، وخصوصا إذا لم يحالف الحظ هذه اللغة أثناء حياتها باختراع أبجدية لها ، وفي جميع الاوقات كانت اللغات تموت ولكن في السابق كانت أيضا تولد لغات أخرى .

خطر الانقراض
إن الشعب الواحد الكبير الموزع على ارض شاسعة والذي تفصله مسافات طويلة ، بعد عدة مئات من السنين يبدأ التكلم بلغات مختلفة . أما العالم الحديث فقد اصبح على قدر من الوحدة يصعب فيه ظهور لغات جديدة علما بأن كل عام تختفي مابين 3 الى 7 لغات عن وجه الارض . وإذا استمرت العمليات السابقة بنفس الخطوات (وضمان ذلك غير مؤكد) ، فإنه في المستقبل القريب ستقوم اللغات العملاقة مثل(اللغة العربية و الاندونيسية والاسبانية والانكليزية ...) بابتلاع اللغات المتوسطة والصغيرة وتصبح هذه اللغات يصب بعضها في بعض.
في الحقيقة مازال الوقت الذي يصبح فيه العالم يتكلم لغة واحدة بعيدا ، ولكن عدد اللغات الصغيرة الان يتقلص بشكل ملحوظ . هذا واقع غير قابل للجدل . هل هذا جيد أم سيء ؟ إن الاجابة عن هذا السؤال ليست بالامر البسيط . من جهة أخرى إذا كان هناك لغة يتكلمها 50 أو 100 شخص ، فإن هذه اللغة معرضة للزوال خلال جيل واحد . لأن المتكلمين بهذه اللغة يكونون مضطرين للانصهار في قوميات أخرى أكثر عددا كي يضمنوا استمرار وجودهم ومتطلبات حياتهم اليومية(مثل الاشياء الفنية والعلمية والادبية بهذه اللغة لأنه من الطبيعي أن القوميات التي تعدادها المئات وحتى الالاف والملايين القليلة محرومة من هذه المتعة) . حتى أنه من المستحيل أن يعيش الانسان حياته كلها مستعملا فقط اللغة التي يتكلمها في القرية، فعندما يذهب الى السوق في أقرب مدينة يجد نفسه مضطرا للكلام بلغة أخرى . ولكي ينهي مدرسته ؟ولكي ينتسب إلى الجامعة ؟ ولكي يجد عملا مناسبا؟ .. في كل هذه الاحوال فإن حصة الأسد من المعلومات الضرورية للإنسان العصري موجودة فقط في بضع لغات " عالمية ".
وإذا كان الشخص الذي لم يحالفه الحظ للتكلم بلغة عالمية منذ الطفولة لا يريد أن يعيش منعزلا تماما ، فإنه مضطر للتمكن من لغة واحدة وفي بعض الأحوال أن يتمكن من أكثر من لغة أجنبية . على الرغم من أنه إذا احتاج الشخص أن يتعلم أي لغة أخرى والتي تكون مهمة بالنسبة له ، فإنه في نهاية المطاف يفضل لغته الام على هذه اللغة . وبالنسبة للمهاجرين ، مع مرور جيلين أو ثلاثة أجيال فإن الشخص الذي يتعلم لغة المهجر بعد مرور هذا الزمن تصبح هذه اللغة هي اللغة الام ويصبح التعبير عن طريقها أسهل له من التعبير بلغة أخرى . لكن من وجهة نظر علمية فان اللغة الواحدة أفضل من اللغات الكثيرة ، أما من جهة أخرى فان اندثار أي لغة وبدون مبالغة يعتبر كارثة أدبية .

إنقاذ اللغات
بفضل العمل الدؤوب في النصف الثاني من القرن العشرين تم الحفاظ على أنواع حيوانات نادرة وأنواع في طريقها إلى الانقراض . ان اختفاء نوع من الحشرات يصبح مأساة في بعض الدول المتقدمة وأمر يدعو الى الاسف لدى الرأي العام . لكن ضياع لغة بكل إرثها الأدبي والحضاري هو أكبر من كارثة ويصعب تقدير حجمها . ماهو الشيء الثمين بالنسبة إلى البشرية ؟ " مثلا اللغة الانيستية ( التي يتكلمها حوالي 200 شخص ) وكلهم فوق سن 40 سنة " ، أو لغة تسمى ( رابانوي في جزيرة باسها ) ؟ .
في يومنا هذا يعتبر من البديهي ان اللغات هي ليست فقط أدوات للتعامل أو لإيصال المعلومات . اللغة أيضا من الممكن أن تكون وقبل كل شيء أداة للتعرف على العالم وطريقة للحفاظ على هذه المعرفة . ان الشخص يفكر بمساعدة اللغة ومع هذا فانه لأمر مهم ، معرفة بمساعدة أية لغة يفكر هذا الشخص أو ذاك ؟ الأداة في هذه الحالة تؤثر على النتيجة . ولنقلل من شأن جوهر القضية ، يمكن القول انه في كل لغة فلسفة خاصة ، طريقة خاصة لاستيعاب العالم . إن كل لغة تعلم المتحدثين بها وبشكل غير مباشر التفكير بنمط خاص ؛ مثلا على أي شيء يمكن الانتباه ؟ وماهو الشيء الممكن اعطاءه الاهمية من الدرجة الاولى ؟ وأي شيء أيضا من الممكن أن تعيره أي اهتمام ؟
في كل لغة في العالم هناك كلمات خاصة تعكس خصوصية ثقافة الشعب المتكلم بهذه اللغة ، لكن خصوصية اللغة تظهر ليس فقط في اختيار الكلمات المجردة والمثالية ، بل في الكلمات العادية جدا وحتى في البنية القواعدية لهذه اللغة وكل هذا يعكس النظرة الخاصة للعام في نفس الثقافة . هذه الحقيقة واضحة بشكل جلي لكل من مارس الترجمة الحرفية من لغة الى أخرى . إذا أردتم التحدث والكتابة بشكل جيد بلغة أجنبية ، فان أفضل نصيحة يعطيها الانسان ذو الخبرة هي عدم محاولة الترجمة الى هذه اللغة من اللغة الام ، بل وبكل بساطة التفكير بهذه اللغة . لكن على مايبدو فإن التحول الميكانيكي من لغة إلى أخرى أمر مستحيل : لأن تفيير اللغة يعني فعليا في واقع الامر تغيير الشخصية برمتها . فلذلك مايقال مثلا باللغة اليابانية لايمكن ايصاله باللغة العربية أو الانكليزية أو بأي لغة أخرى بدون ضياع ملموس للمعنى .
وهكذا فان كل لغة لها مفتاح ونظام لمعرفة العالم . هذه المعارف تحتوي على قيمة خاصة لدراسة تواريخ الشعوب ونفسياتهم واحتمالات مختلفة وامكانيات تطور الانسان ، لكن بالطبع من الممكن استغلال اللغات في مجالات أخرى كثيرة . وعلى الرغم من ذلك فان المشكلة تكمن في أن العلم مازال في مرحلة التفكير بالاستفادة المثلى من المخزون التاريخي للغات ، في حين ان هذا المخزون الرائع يندثر الواحد تلو الاخر وبدون رجعة . لذلك يجب أن تكون أي لغة بالنسبة لنا ذات أهمية بغض النظر عن عدد الاشخاص المتكلمين بها ، أو هل يستعمل هؤلاء الاشخاص الكمبيوتر أم لا ؟ أم أنهم مازالوا يستعملون الفأس الحجرية ؟ كما هو معلوم ، ومنذ زمن بعيد لا توجد لغات " بدائية " ولغات " غير بدائية " ، كما يرى علماء اللغات .

نظرية جديدة
ينظر علماء اللغات اليوم بيأس تام إلى العملية الحتمية لتناقص وتوحيد ألوان أطياف اللغات الانسانية . ان ايقاف هذه العملية أو حتى ابطاؤها ليس بأيديهم ، والشيء الوحيد الذي بإمكانهم القيام به هو الاحتفاظ بالنسق الكامل للموجود اللغوي حسب الامكانية ، ومن الممكن القول بشكل آخر أنه من المفروض إصدار شروحات كاملة للغات الحية وبالطبع يجب البدء في هذا اعتبارا من اللغات الاكثر عرضة لخطر الانقراض ، وأن تدون بالدرجة الاولى قواعد هذه اللغات التفصيلية ويتم اصدار قواميس كاملة متكاملة ، وترجمة أكبر كم ممكن من النصوص الصحيحة للحكايات الخرافية والاساطير والامثال الشعبية والمدونات التاريخية المنسوبة أصليا لهذه اللغة وتاريخ من الحياة اليومية واللهجات المحلية .
إن القيام بهذه المهمة ليس بالامر السهل : من جهة أخرى فإن المجتمع ةللأسف ليس جاهزا لتفهم مقدار أهمية هذا العمل ، وأن من لديه إمكانيات مادية ، يوظفها في دراسة وتحريك تقدم " اللغات العالمية " لأن الفائدة العملية من هذا العمل مضمونة . في هذا السياق ، لشرح ودراسة اللغات المهددة بالانقراض ، يجب تنظيم بعثات علمية ولفترات زمنية طويلة في أماكن بعيدة ومتعبة عمليا وفي أكثر الاحيان تكون أماكن خطرة ، وتقديم أموال طائلة مقابل أتعاب الذين يتعاونون في التعرف على اللغة الأم ، وطبعا لا ننسى جهود الاختصاصيين المؤهلين . وهنا نتعرض إلى الشق الثاني من المشكلة ، انه ليس من السهل إنشاء شروحات جيدة عن أي لغة ، حتى أن هذا صعب بالنسبة للغات التي يتكلمها بضعة ملايين والتي تدرس في العديد من الجامعات .
لشرح اللغة بشكل جيد ، يجب أن يكون هناك نظرية لغوية جيدة ، وأنه لمن الضروري تطوير العلوم النظرية للغة وأيضا المواد العلمية التي لا تأخذ حيزا كبيرا من الاختصاصيين . إن " لغات العالم " هي إصدار فريد في الكثير من العلاقات ، هذا في مايخص محتويات جوانب المشروع وتاريخ تحقيقه في الحياة . وبالطبع فإن فكرة الموسوعة ، تتطلب إيجاد معلومات كافية عن اللغات الانسانية المعروفة . إن أقرب فترة زمنية تم فيها إنشاء موسوعة لغوية هي العشرينات من القرن العشرين في فرنسا ، وشارك في هذا العمل المضني أكفأ علماء اللغة في تلك الفترة ، وعلى الرغم من توقف إصدار الجزء الثاني فقد احتوت الموسوعة اللغوية الفرنسية بشكل أو بآخر على معلومات مختصرة مختصرة عن ( 2000 ) لغة تقريبا ، وهذا يشكل ثلث عدد اللغات الحية في العالم فقط .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان