الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع القصة خون (حكاية)

أسماء الرومي

2011 / 7 / 17
الادب والفن


بدأ نشاط وحركة غير معتادتين في مثل هذا الوقت من بقية أيام الاسبوع في هذا المقهى الشعبي
الواسع الذي يقع في أحد أركان حي من أحياء الكاظمية ، كان ذلك قبيل المساء وفي احد أيام الخميس
حيث انشغل العمال جميعاً بتنظيف المكان وتغيير ترتيبه ، أبعدتْ الموائد الصغيرة التي اعتاد رواد
المقهى استعمالها للعب الدومينو ، رفعتْ الكراسي ووضعت التخوت على الرصيف القريب ، ثم بدأوا
بفرش الأرض بالسجاد ووضعوا الأرائك متراصة وفي جميع الجوانب لتشكل مكاناً مناسباً لجلسة
مشتركة لأكبر عدد من الرواد . بدأت حركة العاملين تسرع وتزداد ، واختلطت الأصوات مع بعضها
فأصوات احتكاك استكانات الشاي وتهيئة الأباريق وسحب مناقل الفحم وأغاني الصبية الصغار العاملين
وأوامر صاحب المقهى وهو يصيح بالصبية ، هيا يا أولاد الوقت يمضي مسرعاً ، هيئوا الناركيلات ،
فقدانحسر النهار ولم يبقَ لدينا وقتاً كافياً . ازدادت حركة الجميع ، وحين انتهوا من وضع كل شيء في مكانه
كان النهار قد أبعد أخر ما تبقى من ضيائه ليخلي المكان مستسلماً لجحافل الظلام التي بدأت تغزو الأفق
مسرعة حتى أطبقت على كل ركن من أركان المدينة ، عندها أضيأت المصابيح في الحارة وفي المقهى
أعدتْ الإنارة بمصابيح مغطاة بمظلات لإضفاء جو مناسب لجلسة المساء .
بدأ الرواد يتوافدون وبدأتْ الحركة تزداد كلما زاد عددهم وتصاعدت الأصوات من همهمة خفيفة إلى سلام
بين الحاضرين وأحايث مختلطة متشابكة ، ودنتْ الناركيلات وتجاوبت أصوات حركة الماء داخلها وزادتْ
نداءات طلب الشاي وتكرر ذلك مرات ، حينذاك قدم رجل وقور رحب به جمع الجالسين ، أخذ مكانه بهدوء
بعد أن أصلح من شأن عباءته التي كان يلبسها فوق ثيابه وحرك قليلاً يشماغاً كان يتهدل على كتفه . كان هذا
القادم أستاذنا الجليل وقد عرفناه بملابس رواد المقهى كما عرفناه باللباس الاعتيادي حين كان
أستاذناً في الجامعة
تزايد عدد الجالسين وغص المكان بهم وشغلت الأماكن جميعاً غير مكان واحد كان يتوسط احد الجوانب
ويرتفع قليلاً ، حينذاك دخل شاب وسيم في بداية العشرين من العمر يرتدي صاية ومتلفغاً بعباءة أنيقة
ويضع على رأسه سدارة من صنع بغدادي يدوي . حيا هذا الشاب الجالسين وتوجه ليجلس في الأريكة الخالية
وحين رحّب الجميع به صاح المنادي شاي للقصةخون هاتوا الناركيلة ، لكن عجباً هل هذا الشاب الصغير
هو القصةخون وفي مثل هذه السنين حيث كان ذلك في منتصف الثمانينات، إذ انحسرت مثل هذه المجالس
بعد أنْ كانت زاهية قبل غزو المذياع والتلفاز اللذان قضيا على هذا التراث الجميل والذي استمر لسنين
طويلة ومن أيام ألف ليلة وليلة .
اعتدل الشاب في جلسته وبعد أنْ صلى وسلّم على الأنبياء والمرسلين ، بدأ يروي بصوت فيه هدوء ووضوح
وحين قال : كان ياما كان نظر الجميع إليه وبدأوا يستمعون إلى قصة ذلك الحطاب الفقير الذي كان يجمع
الحطب من أطراف قريته ويضعه على رأسه لآنه لم يكن يملك حتى دابة تعينه على نقل ما يحمله .
ثم يتوجه ماشياً على قدميه العاريتين إلى المدينة لبيعه . وكان ما يحصل عليه من نقود قليلة يكاد لا يكفي
لقوت يومه ، بعدها يعود لينزوي وحيداً في كوخه الصغير .
تمر الأيام ويحل القحط في المدينة ويقل شراء الحطب حتى يكاد ما يحصل عليه الحطاب لا يكفي لشراء
رغيف خبز ، ويسوء الحال ويستمر على هذا المنوال ، فلا بيع ولا مال وبدأ الجوع يهصر أمعاءه وبان
الشحوب على وجهه وهنا تهدر صوت القصةخون فبدا الوجوم غلى الجميع وتطلعوا إلى الراوي ليروا
ماذا حلّ بالمسكين ، هل مات من شدة الجوع والهزال ؟ هنا قال القصة خون بعد أن أخذ نفساً من ناركيلته،
قرر الحطاب بأن العيش في مدينته أصبح محالاً . جمع ما تبقى لديه من كسر الخبز اليابس وقليلاً من الماء
ولف قدميه ببعض الخرق البالية وعند بزوغ الفجر بدأ الرحيل متجهاً إلى مدينة كان قد سمع بأنها مدينة معمورة
حالها ميسورة رزقها وفير ومالها كثير ، وكان يأمل أنْ يحصل فيها على عمل مهما كان صغيراً ليكفي فقط
لطعامه وشرابه . أخذ يحث جسده الذاوي الضئيل عل المسير ليصل المدينة قبل الغروب مستعيناً بكسر
الخبز والماء القليل .
عند بدء الغروب لاحتْ له أطراف المدينة ووصل إلى تلّة تعلو قليلاً، كان التعب والجوع والعطش قد
أخذ منه كل مأخذ وبكل ما تبقى لديه من همة ، صعد التلة ليتهاوى بجسده المتهالك فوقها فلم يعد يستطيع
الحراك وغلبه النعاس فأطبق جفنيه وغفى ، وبينما هو في غفوته سمع صوت رجل يناديه ، وحين فتح عينيه
سأله ما الذي جاء بك أيها الغريب وما خطبك؟ حكى له الحطاب حكاية بؤسه وشكى له جوعه وعطشه ، حنّ
له الرجل وأجلسه ليطعمه ويشربه، وحين شبع الحطاب وارتوى ، هنا اعتدل القصةخون في جلسته ليرتشف
________________________________________
شايه ويأخذ نفساً من ناركيلته ، ودار الصبية بأواني الشاي على الجالسين وأججوا الجمر في الناركيلات
ودبّتْ الحركة في المكان وسمعتْ رنات الملاعق مع الاستكان وكان البعض يحلو له أنْ يزيد من خبط
شايه ليعلو ويقوى الرنين ، وأثناء انشغالهم وجهوا كلمات مديح للقصةخون لحسن حديثه وجودة أدائه ثم
سألوه : ماذا حدث بعد ذلك؟ عاد القصةخون ليكمل قصته وقبل البدء بالحديث صلى وسلم على الأنبياء
والمرسلين وبمثلها ردّ الجالسون ثم قال : نظر الحطاب نحو المدينة فرأى أعداداً كبيرة من الناس في الساحة
محتشدين فسأل : اهو عيد أم احتفال؟ فكأني أرى كل أهل المدينة من بيوتهم خارجين وفي الساحة مجتمعين،
أجاب الرجل : إنه حفل تأبين ، فقد مات ملكنا واليوم هو الأربعين ، وقد جرت العادة عندنا بعد الانتهاء من
الحفل البدء بانتخاب ملك جديد وحينذاك، تركه الرجل وانصرف ,
أنهى سكان المدينة حفل التأبين وأعلن أكبر الرجال المسنين بأن الوقت قد حان لانتخاب ملكهم الجديد وكان
المعتاد في مدينتهم مدينة السعد أنْ يتم انتخاب الملك عن طريق طائر موجود في قفص ذهبي يسمى طير السعد.
وحين يطلق هذا الطير من قفصه يدور طائراً ليحط على رأس أحد الرجال ليعلن ملكاً دون جدال .
ترقّب الرجال وصول القفص الذهبي وصار كل منهم يمشي بزهو وخيلاء نافخاً صدره رافعاً رأسه واهماً بأنه
اصبح صاحب العظمة والجلالة فالطير سيختاره هو دون محالة.
بعد قليل وصل أحد كبار المدينة حاملاً الطير في قفصه الذهبي . أطلق الطير وبدأ يحوم حول المجتمعين ،
حبس الرجال أنفاسهم وكتموا أصواتهم ولكنهم تعجبوا لأن الطير حرف اتجاهه ليطير باتجاه التل، تعجب
الجالسون في المقهى ونظروا إلى بعضهم : أباتجاه ذلك الحطاب الفقير؟ الذي لا يملك شروى نقير ؟ أنه
العجب الذي نسمع .أجاب الراوي أجل لقد حطّ الطير على رأس الحطاب . احتّج جميع أهالي المدينة وقالوا:
لابدّ من وجود خطأ فكيف يصح أنْ يصبح هذا الصعلوك الغريب الرث الهيئة ملكاً علينا ؟ فحاولوا مرة ثانية
وثالثة وفي جميع المرات كان الطير يحطّ على رأس الحطاب . أسلم الناس أمرهم لله بما ابتلاهم وأمر كبار
القوم بأنْ يؤخذ الحطاب إلى الحمام، وحين نظفوه وألبسوه أعلنوا تتويجه ملكاً، وبعد أنْ جاء القوم لتهنئته
أخذوه إلى قصر فاخر آسر للعيان بخدمه وحشمه وجواريه الحسان وبما لذّ وطاب .
وفي اليوم الثاني ومط الراوي شفتيه ليكمل ، أمر الملك بجمع الناس في الساحة الكبيرة بعد أنْ أمر بنصب
مشنقة في وسطها ،ثم أمر بسحب أحد الواقفين لشنقه ، وبعد أن نفّذ أمره امر بانصراف الجميع. وتكرر أمر
الشنق هذا وزاد عدد المشنوقين ففي اليوم الثاني نصبتْ مشنقتان وفي اليوم الثالث ثلاث وفي كل يوم يزداد
عدد المشانق وعدد المشنوقين واستمر ذلك لمدة عشرة أيام .
ضجّ الناس من هذه العملية فقد اصبح العدد كبيراً وفي المساء اجتمع الجكماء لمناقشة الأمر، فهذا المجنون
سينهي الناس جميعاً. قابلوا الملك طالبين منه تفسيراً فأجابهم بأنه ليس مسؤولاً عن ذلك وحين سألوه
ألم يكن ذلك بأمر منك ؟ أجاب هذا صحيح لكني كنت أرى في المنام طيفاً يأمرني بنصب هذه المشانق وأنا
أنفذ الأمر في اليوم الثاني . وفي كل ليلة أرى ذلك الطيف ليأمرني بزيادة العدد . سأله أحد الموجودين وما
الحل برأيكم؟ أجابه الحل عندكم فأنا لا أعرف شيئا عن مدينتكم والذي وضعني هنا هو أنتم .
خرج الحكماء من عند الملك وجلسوا ليتناقشوا بالأمر ، تحدثوا عن الفساد الذي زاد مؤخراً في المدينة حيث
زادت الجريمة وزاد عبث العابثين وكثر عدد المنافقين والمشاغبين وأشعلوا الفتنة بين الناس أجمعين .
ليكثر النهب والسلب وقد فضح الحكماء أنفسهم بأنهم في كل هذا مشتركون .
اجتمع الحكماء مرات ومرات وفي كل مرة كانوا يقررون وجوب الإصلاح. وسكت الراوي عن الكلام
المباح
حين ذاك استدار احد الجالسين إلى استاذنا الجليل المستمر بجلسته بهدوئه المعتاد ليسأله ماذا تقول يا دكتور؟
هل هناك رجاء في إصلاح أمر مدينة وصل الفساد إلى حكمائها؟ فلم يعلّق الدكتور ، وسأله آخر ولكن يا
دكتور أو لست أنت من أكّد في أحد كتبه بأحداث ووقائع بأنّ أحد الأسباب المهمة في إنهاء ثورة العشرين
هي سياسة فرّق تسد ؟ هنا أجاب الاستاذ أنا يا أخي هنا لأسمع فقط ولست هنا لأناقش ثم نهض واقفاً وبعد أن
ودّع الحاضرين خرج بهدوء .
آب 2006
تلك الحكاية رواها لنا القصةخون وكان أحد معارفنا من الأهالي الأعزاء من مدينة الكاظمية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - اعرف فيلم الأسبوع من إنجي يحيى على منصة واتش آت


.. أسماء جلال تبهرنا بـ أهم قانون لـ المخرج شريف عرفة داخل اللو




.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??


.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده




.. أون سيت - فيلم عصابة الماكس يحقق 18 مليون جنيه | لقاء مع نجو