الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية نفسية في صور تعـذيب السجناء العـراقيين في أبو غريب : سايكوباثـيا الدولة العـظـمى أم غـسل مبرمج لأدمغة العراقيـين ؟

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2004 / 11 / 18
حقوق الانسان


عندما يكشف المتهم بنفسه عن أدلة مؤكدة (صور حقيقية لا تزوير فيها) تدينه من فمه ، وتوثق انتهاكاته للكرامة البشرية ، ويسمح بنشرها دون تردد في كل وسائل الإعلام ، فتلك حالة غير مألوفة تستدعي التريث وعدم التسرع في إطلاق أحكام تقليدية لتفسير هذا السلوك الغرائبي . لماذا يكشف السياسي الأمريكي عن قبحه بهذا الشكل المباشر ، بعد أن استمات في المرحلة السابقة ليصدق العالم (فضائله) في نشر الحرية الموعودة في بلاد الرافدين ؟ ولماذا تروج الإدارتان العسكرية والسياسية في أمريكا لوثائق دامغة تجعلها في مصاف البرابرة والراقصين على القبور ؟!
احتمالات الإجابة متـنوعة وعديدة ، إلا أن ضغطها جميعاً في دائرة التحليل النفسي السياسي ، يمكن أن يختزلها إلى مرجعين أساسيـين للتفسير . فأما أن كشف الصور بهذه النزعة الفضائحية هو نتاج موضوعي ولكن لا أخلاقي لمرحلة من مراحل التطور التي تمر بها دولة عظمى لها فضائلها ورذائلها على حد سواء ، أي أننا أمام لحظة ضعف ذاتية تستدعي الشعور بالذنب لدى أمة تصدّر اضطراباتها النفسية إلى شعوب مبتلاة أصلاً كانت تنتظر منها الإسناد والتعاطف والمشورة والاشفاء ، وهذا هو التفسير ((النفسي التاريخي)) لهذا الحدث ؛ و إما إننا أمام سيناريو مقصود ومخطط له بدقة ، له عناصره الدرامية وتكنيكاته السيكولوجية ، ومراحله وأهدافه السياسية والاقتصادية والحضارية على المديـين القصير والبعيد ، وهذا هو التوظيف النموذجي لـ (( نظرية المؤامرة)) في تفسير هذه المعطيات المحيرة ، أي ما يمكن أن نطلق عليه بالتفسير (( النفسي التآمري)) .
لنتناول هذين التفسيرين على التوالي ، دون انحياز لأحدهما ، فلعل الحقيقة هي مزيج من كليهما مضافاً إليها عناصر تفسيرية أخرى لا يتطرق إليها هذا التحليل . ولن نغور عميقاً في المغزى التفصيلي لأي من هذه الصور توقيراً للقيمة الإنسانية المسفوحة في عروقها ، ولأن غايتنا هي تسليط مجهر نفسي من مسافة تأملية مناسبة لاستيعاب الصور جميعاً في تحليل واحد إجمالي .
سايكوباثيا المؤسسة العسكرية
توصف الشخصية السايكوباثية Psychopathic (أو المعتلة نفسياً) بأنها شخصية مضادة للمجتمع Antisocial ، تتسم بافتقاد الشعور بما هو صواب وما هو خطأ ، وبالعنف والقسوة والسادية والأنانية واللامبالاة تجاه حقوق الآخرين ، وبعدم الشعور بالذنب وعدم التعلم من التجارب وعدم الاتعاظ من العقوبات وعدم الاكتراث إذا ما انكشفت أعمالها غير المشروعة ، وبالاندفاع والتهور والتحلل من المسؤوليات ، وبالتمركز الشديد حول الذات ، وبالكذب المستمر ، وبالميل للعيش في اللحظة الراهنة وإشباع الرغبات الفورية دون أدنى تأجيل . ومعظم السايكوباثيين يستطيعون أداء وظائفهم الاجتماعية ، إذ ينجحون في إخفاء حالتهم فيصعب تشخيصهم وكشفهم إلا إذا تورطوا في سلسلة من السلوكيات الطائشة المفضوحة .
وعلى مستوى التشخيص النفسي يمكن للسايكوباثي أن يكون نكرة لا يعرفه إلا نفر قليل من الناس ، ويمكن أن يكون زعيماً لدولة تتطلع الملايين لكلماته وقراراته . فتأريخ الإمبراطوريات والدول العظمى ( فضلاً عن الدول الأقل تأثيراُ ومكانة) يزخر بنماذج فريدة من سلوكيات سايكوباثية متأصلة ظهرت في شخصيات ملوكها آو رؤسائها أو قادتها العسكريين . ويعد الجنرالات الألمان النازيون أمثلة نموذجية لسايكوباثية المؤسسة العسكرية المعاصرة ، فالجنرال ( غورنغ) مثلاً الذي أدخل فكرة معسكرات الاعتقال وكان مسؤولاً عن الكثير من الفظائع البربرية تجاه شعوب أوربا إذ كان يأمر جنوده أن يطلقوا النار على ضحاياه أولاً ثم يستفسروا عن السبب ، كان نفسه ذا علاقات اجتماعية هادئة ورقيقة ، وكان يحب الخيول والزهور وله حديقة حيوان خاصة به . فأين جنرالات البنتاغون من كل ذلك ؟
إن التحليل السوسيولوجي للآلية التي تنمو بها المفاهيم الأخلاقية للمؤسسات الاجتماعية ، يشير بوضوح إلى أن التطبيل الأخلاقي الذي تمارسه دولة معينة على مستوى أيديولوجيتها الرسمية كثيراً ما يرتبط بممارسات لا أخلاقية واسعة في مؤسسات تلك الدولة نتيجة أسباب بيروقراطية ونفعية ذات صلة بالهوة العميقة القائمة بين التركيبة الانفعالية للأفراد من جهة وبين ما يرفعونه من شعارات مثالية تنادي بالحرية والعدل من جهة أخرى . والمؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية لا تقع بالتأكيد خارج هذه الرؤية . فالتطور التاريخي الهائل للرأسمالية الأمريكية ، راكم لديها وعياً حقوقياً لفظياًً بالغ السعة والشمولية على مستوى الإعلام ودور النشر والدعاية السياسية ، ولكن دون أن يرافقه تراكم مماثل على مستوى الوعي الأخلاقي الصميمي للفرد الذي يدير تلك المؤسسات ؛ بل بالعكس وجد السايكوباثيون أن إدارتهم الناجحة لرأس المال لا بد أن تمر بتبنيهم الشكلي والدعائي لقيم الحرية وحقوق الإنسان ، مع احتفاظهم (بحقهم) الكامل بالضغط متى ما شاءوا على أزرار الصواريخ العابرة للقارات لتدكّ البنى التحتية لمجتمعات لم تتنفس بعد هواءً خارج مناخ الاستعمار المباشر القديم ، فضلاً عن ممارستهم (لحقهم) المباشر في تمريغ كرامة سجنائهم من أبناء تلك المجتمعات بتعريتهم والتقاط الصور (التذكارية) السادية معهم .
إذن ، اصبح السياسي أو العسكري ذو الشخصية السايكوباثية جزءاً موضوعياً من تطور أمة وحضارة اسمها الولايات المتحدة . فالقسوة وعدم الشعور بالذنب وعدم الاكتراث بآلام الآخرين وعدم التعلم من التجارب ، صارت جميعاً من بين الخصائص المهنية لتلك المؤسسة العسكرية التي ابتدأت نشاطاتها مع احتلال جمهوريات الموز والمطاط والقصدير في أمريكا اللاتينية قبل أكثر من قرن ، وانتهت اليوم باحتلال جمهورية النفط الكبرى في الشرق الأوسط . أما الكشف العلني عن صور مأساوية تدين هذه المؤسسة العتيدة ، وبواسطة أشخاص محسوبين عليها ، فلا يمكن تفسيره – ضمن المنظور النفسي التاريخي – إلا بوصفه محاولة النقيض لينقض نقيضه ، أي محاولة الوجه الحيوي (الأخلاقي) لهذه المؤسسة أن يتصدى لوجهها السايكوباثي المقيت ، ضمن دورة التفاعل الجدلي بين الوقائع والتجريدات . وبذلك تصبح سادية السجان الأمريكي في أبو غريب خاصية مفهومة من خصائص الشخصية الرأسمالية التي تنظر إلى الإنسان – في التحليل النهائي – بوصفه سلعة أو موضوعاً للربح والتفريغ الانفعالي الأخرق ، لا ذاتاً أو معنى يستحق التبجيل والارتقاء .
غـسـل مبرمج لأدمغـة شعـب
لنستهل مرجعنا التفسيري الثاني بتوضيح ما يسمى بـ((غسل الدماغ))Brain washing ، إذ انه ببساطة : أسلوب شديد الحدة من تلقين الأفكار، في ظل ظروف يجري خلالها تعريض الإنسان لأوضاع نفسية وبدنية مجهدة للغاية ، ليتقبل تلك الأفكار – المغايرة لمنظومته القيمية – تحت وطأة الإنهاك بدلاً من قبولها عن طريق الإقناع الواعي في ظل ظروف اعتيادية . وقد حدد عالم الفزيولوجيا الروسي الشهير " ايفان بافلوف" ثلاثة أدوار يمر بها الكائن الحي عند تعرضه للشدة والضغط المصاحبين لتكنيك غسل الدماغ . ففي الدور الأول تتبلد حواس هذا الإنسان المجهد ويصبح غير مبالٍ بالمثيرات المسلطة عليه . وفي الدور الثاني ، وبسبب ازدياد قسوة هذه المثيرات يحدث تناقض في استجاباته إذ يصبح ضعيف الاستجابة أمام الأحداث القوية وحاد الاستجابة أمام الأحداث الضعيفة . أما في الدور الثالث فتتبدل عادات ذلك الإنسان إلى نقائضها ، فقد ينقلب حبه لفكرة أو موضوع أو إنسان ما إلى كره شديد ، أو بالعكس .
إن الأسلوب المفاجيء والاستفزازي الذي عرضت به صور تعذيب السجناء العراقيين في شبكات الإعلام ، يشير إلى أن عملية الغسل الجمعي المبرمج الذي تجريه المؤسسات المخابراتية والسياسية في واشنطن لأدمغة العراقيين ، قد دخلت دورها الثاني حسب التقسيم البافلوفي . فخلال عام كامل من الاحتلال والاحتيال ، تعرض المجتمع العراقي إلى ضغوط بدنية ونفسية لا مثيل لكثافتها الكمية والنوعية قياساً بمستوى التحمل الفزيولوجي والعصبي لدى البشر . فلعبة تغييب الأمن والاستقرار لمنع تبلور تيارات فكرية واجتماعية عقلانية ذات تأثير ملموس في تطوير المشروع السياسي العراقي من خلال تصنيع الإرهاب وافتعاله رغم أنف التطور الموضوعي للأحداث ، ولعبة قطع الكهرباء عن المناطق السكنية والصناعية (وفق جداول عشوائية وعبثية واضحة المغزى للمختص النفساني) رغم مليارات الدولارات التي أهدرت لأصلاح شبكات الطاقة ، ولعبة المباشرة ببيع القطاع العام وتصفيته رغم معاناة ملايين العاطلين عن العمل والباحثين عن سكن ، ولعبة ضخ مئات الآلاف من السيارات المستوردة والمستهلكة في شوارع مدن العراق تعطيلاً للتدفق الطبيعي للحياة اليومية وإحباطاً للإنسان وهو يواجه مشهد مدنه الغارقة في الفوضى فينكفيء في بيته معظم الوقت رغم كل استعدادات الابتكار والتفتح الكامنة فيه ، ولعبة الترويج اللفظي في الخطاب السياسي الأمريكي لمصطلحات التفرقة الدينية والطائفية والعرقية رغم كل مؤشرات التماسك المجتمعي العراقي ، ولعبة اجتياح المدن الآمنة بالدبابات والطائرات بحجة البحث عن (أعداء الحرية) رغم كل الأعراف والمواثيق والمقدسات ؛ إن كل هذه الألعاب – أو الضغوط – حققت إجهاداً نفسياً وإحباطاً معنوياً واضحاً في الشخصية العراقية ، جعلها توغل أكثر في درب فتور العاطفة ، والاكتئاب ، والاغتراب عن عالمها ، وعدم المبالاة إلى حد كبير بمسيرة التطور السياسي القادم في بلادها ، مما يعني نجاح الدور الثاني – الذي أشرنا إليه – من عملية غسل الدماغ الجمعية في تحقيق أهدافه ، وان العراقيين أصبحوا على أعتاب الدور الثاني الذي يقتضي هو الآخر التحقق من مدى حصوله ، فأطلق صانعو القرار بالوني ((العلم العراقي الجديد)) و(( صور تعذيب السجناء العراقيين)) ، اختباراً لنوع المرحلة التي وصلت إليها عملية غسل الدماغ هذه . وللأسف ، فقد اتضح أن قضية ثانوية نسبياً تتعلق بألوان ورموز علم ٍ قابل للمناقشة والبت في شانه وحتى استبداله في مرحلة قادمة ، أثارت ردود أفعال قوية وحادة بشكل لا يتناسب مع أهمية القضية من فئات اجتماعية وسياسية متنوعة ؛ فيما قضية أساسية وجوهرية تتعلق بالكرامة العراقية المهدورة في صور سجناء ممتهنين من سلطة احتلال تدعي لنفسها الحق في رسم مستقبل هذه البلاد : (( نـعـرّيكم ، ونثـلم شرفكم ، ونشدّكم بأسلاك الكهرباء ، ونضع الأكياس في عقولكم ، ونسخر منكم ، ثم نقودكم إلى الفردوس !)) ، فشلت هذه القضية في إثارة الرأي العام العراقي بما يكفي لتعبئته وتوحيده على مستوى إنضاج الوعي بحقوقه الوطنية والإنسانية المهانة ، وكأن هذه الصور تخص شعباً آخر لا شأن لنا بهمومه إلا في حدود التعاطف ، فيما اكتفى بعض أعضاء مجلس الحكم بإصدار تصريحات دبلوماسية ومقننة تناشد سلطة التحالف بضرورة تطبيق القانون – المغيب أصلاً – لمعاقبة المذنبين . بمعنى أدق ، إن المؤسسة القائمة على التخطيط لإجراء تبدلات جوهرية في اتجاهات الشخصية العراقية وثوابتها القيمية ، أصبحت مقـتـنعة الآن أن الدور الثاني من عملية غسل دماغ هذا المجتمع أصبح قيد التحقق ما دام العراقيون صاروا ينفعلون بأحداث ثانوية محدودة الأهمية ويبدون عدم اكتراث نسبي بأحداث عميقة تمس كبرياءهم وهويتهم وأساس وجودهم الاجتماعي . وكل ذلك يعني من وجهة نظر السايكولوجيا السياسية أن الدور الثالث والأخير من مراحل غسل أدمغة العراقيين قادم في المحصلة النهائية ، متضمناً إعادة تشكيل سلوكهم ومعتقداتهم وأنماط حياتهم بنسق يتلاءم مع السواقي التي يتدفق فيها الدولار الأمريكي صعوداً وهبوطاً من دماء الشعوب إلى الابتسامات السايكوباثية لجنرالات الحرية أمام كاميرات المحطات الفضائية .
ومع ذلك فأن الحتمية الاجتماعية والتاريخية تظل متضمنة لمقدار مهم من حرية الإرادة الفردية والجمعية . فكثيراً ما تنجح عمليات غسل الدماغ مرحلياً ، لكنها تفشل في نتائجها النهائية ، إذ يمكن للوعي الإنساني أن يسلك – شعورياً ولا شعورياً – طرقاً معقدة في التمويه والدفاع عن هويته المغموسة بفكرة الحق والانتماء للجذور . لكن هذه الطرق هي الأخرى ليست قدراً حتمياً مفروغاً منه ، بل هي احتمالات عسيرة يتوجب على النخب التـنويرية في أي مجتمع التفتيش عنها وسط ظلام الحروب والاحتلالات والظلم الاجتماعي . وللعراقيين اليوم نخبهم الصامتة التي يمكن أن يكون لها شأنها القادم في إعادة تأهيل شخصية عراقية تـنـبذ العنف والانفعالات المتسرعة والازدواج في السلوك ، لا يؤثر فيها الإيحاء والأغراء والأحداث المصطنعة ، يحركها الوعي الجمعي بحقوقها المشروعة التي طال تهميشها واستلابها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بريطانيا.. اشتباكات واعتقالات خلال احتجاج لمنع توقيف مهاجرين


.. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: ارتفاع معدل الفقر في




.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال


.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال




.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار