الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 13

محمد علي الشبيبي

2011 / 7 / 20
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

الريح ما تزال ضدي
حاولت وأنا مخطئ أن أطالب بالعودة إلى الوظيفة. وشيخنا الشبيبي لم يعتذر. لكنه لم ينجز خطوة واحدة، لأفَكَ يدي -على تعبير قوانين الوظائف- مسحوب يد، ثم -فَك اليد- ومسحوب اليد يبقى خارج الوظيفة حتى يلغى -سحب اليد- بقناعة الدائرة، أو بعد إحالته إلى لجنة انضباط أو حكم المحكمة -أي محكمة يحال أمره لها- ببراءته! وسافرت إلى بغداد لتعزية الشيخ بوفاة أخيه جعفر الذي توفي صبيحة انقلاب 8 شباط. ولم أحرك ساكنا عن قضيتي تاركا إياها إلى أولي الأمر رغم إني جلبت من بعقوبة ومن مديرية التعليم رقم كتابها إلى الاستخبارات العسكرية والأمن العامة ولجنة التحقيق في مقر الحرس القومي.
الدائرة المسؤولة العليا طبعا في شغل عن قضية أمثالي. فالأكراد أعلنوا تمردهم ثانية. كما أن راديو بغداد أعلن بيان المجلس الوطني عن القضاء على مؤامرة شيوعية فجر اليوم -3 تموز 1963-. وتأخر فك يدي، وعدم أي تصريح بتطميني من قبل شيخنا يدل إني سأحال إلى محكمة، وطبعا عرفية.
لِمَ التشدد ضدي، والتحقيق لم يثبت ما يدينني!؟ حمداً لله، ربما يرونني ذا شأن في مسائل النضال! آه ما أجل أن يكون الإنسان ذا عقيدة يخلص لها حتى الموت. الموت هو الحد الفاصل بين الصادق والمدعي، الذي يعلن التوبة حين يلوح له حبل المشنقة. ولكن أيضا لا الذي ينكر ما أسند له، وشاجبا. إن ذا العقيدة، من يدافع عن عقيدته، ويشجب التخريب والاعتداءات.
جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده كانا صريحين في مواقفهما. وسعد زغلول عرف عنه انه قال لزوجته: يا صفية أنا قررت أن أضع هذه -وأشار على عنقه- على هذه وبسط كفه!. فأجابت، وأنا إلى جانبك أضع هذه على هذه!.
ولكن لماذا أكذب على نفسي، فأعترف بما لم أقم به قط. فقد طلقت السير على طريق الكفاح. جبنا كان ذلك مني، أم لأمر آخر. لقد تنحيت دون تأثير من أحد، ولا تحت يد مسؤول في حكم. وقد مرت سنون طويلة على ذلك، بحيث لو أن طفلا ولدَ يوم ذاك هو اليوم أب. ولكني والمثل نسائي (لاحظت برجلها ولا خذت سيد علي!).
أهم ما يشجيني ويبعدني عن الانتماء للتنظيمات والحركات السياسية هو أنها تقرب المتملقين ويرفعون من شأنهم. كما أني وجدت التناحر بينها حاد في الوقت الذي يتحتم عليها أن تتوحد، لعمل وتخطيط لإنجاح الهدف الذي تسعى إليه، لا أن تفرط في تحالفها حالما تحقق خطوة واحدة، كالذي حدث حين تحققت ثورة 14 تموز.
الاستعمار الحديث أهم سلاح لديه اليوم هو أن يوقع بين الفئات الوطنية. ويشيع عن كل واحدة إشاعة، فتصدقه وتطيح بها وتنكل بأعضائها ومؤازريها. وفي البلدان الرأسمالية الاستعمارية، أحزاب شتى، عمالية، ومحافظين وكثير من تلك المسميات، ومنها أحزاب شيوعية. مثلاً، فرنسا، بريطانية، أمريكة وإيطالية، فيها أحزاب شيوعية وهي أكثر عداء للشيوعية من أي بلد مثل بلداننا!
إننا كنا ونحن في المدارس طلبة، وبعد أن صرنا معلمين، نضرب مثلا شائعا، إنه حكمة من حِكَم الأجداد ما تزال حيه. ذلك الرجل الذي أمر أولاده وهو على فراش المرض، أن يأتي كل واحد منهم بعصا، ضم مجموعة العصي إلى بعضها فكانت حزمة، وطلب من كل منهم أن يجرب كسر تلك الحزمة. فلما لم يتمكنوا أعطى كل واحد أن يكسر واحدةً. فتمكن الجميع من ذلك. وقال هكذا يحطمكم عدوكم إن وجدكم متفرقين، ولن ينجح مسعاه إن صرتم يداً واحدةً.
حتى متى سنظل مطمعا، نخشى الغرب الذي ثبت -اللقيطة إسرائيل- بينما نبدي البطولات فيما بيننا. ماذا لو قاطعناه ونتوجه إلى الدول التي نبذت النظام الرأسمالي. لكننا أيضا نخشاها لأن الدول الاستعمارية صورتها لنا بأبشع الصور، واتهمتها بأبشع التهم. شاعر من شعرائنا أشار إلى هذا بقوله:
وخـــوّفوهـــا بدُبٍ ســوف يأكلهـــا في حين تسعون عاما تألف السباعا
أي وربي لقد خوّفونا وصدقناهم، وكذبنا من تعمق منا بالعلوم الاجتماعية والاقتصادية وخوفونا منه!؟ في حين يدَّرس الغرب الاستعماري كتب ماركس في جامعاته. اللعنة على الجبناء ويا ويلهم ....
* * * *
يا دهر لو ضاعفت في شقوتي والـداء لــو حملتني أعضــــله
أجل. شقيُ ولا أعلم هل لليل شقائي آخِر؟ ومتى؟ أي جرح أداوي، وأيَّ ألمٍ أحتمل. ولدي -همام- الذي سَلِمَ مما وقعت فيه أنا وأخواه، وقع الآن بأيد كان بينه وبينها حساب! وأكبر الظن إني أنا السبب!
صديقي القديم عبد الرزاق محي الدين، الذي أصبح دكتوراً في الأدب العربي، وكان أستاذي أيام العمامة، ولم أكن تلميذه حسب بل كنت صديقه الأشد التصاقا به من كل صديق وقريب! حثني أحد أصدقائه "السيد علي شبر" وهو صديقي أيضاً أن أذهب إليه معه نزوره ونطرح الأمر عليه. فقد أصبح شخصية بارزة. دع المسألة على عاتقي، أنا أشرح الموضوع أما أنت فالزم الصمت. فأنت تعلم اتجاه -هواه- المعاكس لهواك، فالرجاء أن تضغط على أعصابك، وجامل قدر الإمكان.
هناك سمعت من أحاديثه -بعد العتاب التوبيخي!- نمطاً من الأفكار والمفاهيم، ما أدهشني لغرابتها وبعدها عن ثقافته وما تعلمته منه من فكر يهدف إلى أسمى درجات التحرر! أأسمع الساعة صاحب "العصفورة وأحلام اليقظة ورَبة الدَل" يتحدث عن الاتحاد السوفيتي، بأن مواطنيه يتغوطون في الشارع، بلا حياءٍ منه كعيب؟ّ! وعن الجوع المنتشر هناك، والجهل الفظيع؟ المعدان عندنا أثقف منهم!؟. سبقني صاحبي -كيلا أرده- وقال، أمر طبيعي هذا لدى ذي الجهل الفظيع، والجائع أمثالهم، أن يتغوط كأي حيوان وهو يمشي!؟.
أخيرا فاتحناه بما جئنا من أجله. هز رأسه وقال، أنا أعرف أن ابنك يستحق، وأنت المسؤول؟! وبادر صاحبي بعد غمزة عين -لأمسك لساني-. ورده، هذا ما لا يصح طرحه، جئنا لتتوسط أمره، وحتى الكلية يجب أن لا يحرم منها.
تراجع وقال، انتظروا فبين الساسة الآن خلاف، وقد تنكشف دنياهم عن حل لصالح -الرئيس- عند ذاك يتم إنقاذه مؤكداً. وغادرنا بيته شاكرين. يبدو أنه كان على علم بالخلاف بين الرئيس عبد السلام وحزب البعث.
وفي 30/7 توجهت ثانية إلى بغداد قاصدا بعقوبة لاستلام -نصف راتبي-. لكن صوتا يصيح بأذني، أن إذهب إلى ولدك؟ لا غرابة. أنا والد، وهو فلذة كبدي. وتوجهت إلى بيته، وقبل أن أستقر، جاء وعلى وجهه مسحة أسى، وبادرني. جئت في الوقت المناسب. إنهم ينتظرونني، لقد جاؤا مفاجأة إلى المدرسة وطالبوا المدير بانزعاج! أحضره حالاً، وبلهجة تهديد. أنت تتستر عليه، أما تعرف من هو؟ كنا نبحث عنه، ولا نعلم أن إنسانا محترما مثلك يحميه. لولا أن يبلغنا عنه شخصية محترمة كبيرة!. ثم عقب ولدي، من هي الشخصية؟ ألا يمكن أن يكون هو صاحبك؟
كانت هذه المفاجئة صدمة عنيفة لي. وشمرت عن ساعدي للعمل. أبلغت الشيخ "محمد رضا الشبيبي". فوعدني خيراً، وحفزت همة مدير مدرسته، والعون من الله ... للشيخ محمد رضا الشبيبي على الدكتور عبد الرزاق محي الدين فضل كبير فهو الذي دبر له أمر البعثة. ولكنه سياسيا انحاز إلى صالح جبر بأمل أن يصبح وزيراً. ولما جاء حزب البعث دنا من عبد السلام ليحقق أمنيته تلك. وأنا أعرف لو بقي شاعرا لكفاه ذلك الشهرة التي يبغيها، لكنه طمس قابليته الشعرية.
حاولت الوصول إليه في المعتقل فطردت. وفي اليوم التالي زرته بواسطة مدير المدرسة. ومن كربلاء زَوّدت خالته بتذكرة أحثه على الصبر. وضمنت كلمتي آية (إن مع العسر يسرا) وزرته بعد أسبوع ثانية مع المدير أيضا. فلمحت على عنقه لونا أزرق. فهمس في أذني: هذا بسبب تذكرتك، إن الآية التي ضمنتها فيها لتهدئتي اعتبروها تهديداً منك ووعيداً؟ لقد لقيت الويل، وذا أثر الحبل في عنقي مع الضرب الموجع. وحضر شاب جميل منهم، يتمايل بغطرسة وقد فتح أزرار قميصه، والتفت إليّ يقول: لولا أنك في سن شيخوخة لأعطيتك درساً لن تنساه! ماذا تقصد بالآية (إن مع العسر يسرا) أعتبر هذا الحرسي مع أنه طالب في كلية التربية أني أقصد بهذه الآية بأن الحكم سينهار. مع أن القصد الحقيقي واضح فاستشهادي يعني انه الآن في عسر وقد يبدل الله حاله إلى يسر فيفرج عنه.
قلت، على مهلك يا ولدي ... وقبل أن أكمل كلامي، صاح بي إخرس ... يا ولدي!؟ أنا أشرف من أن أكون ابناً لمثلك. خونة! هنا تكلم مدير المدرسة، وهو من أصدقائهم وصهر لرجل دين مؤازر. لا تنسى يا توفيق أن عميدهم الشيخ الشبيبي، وأخوته من رجال ثورة العشرين، ووزير معارف العراق. طيلة العهد الملكي عرف في خدماته في هذه الوزارة وتوسيع مؤسساتها التعليمية، فلا يصح أن نتنكر لهذا البيت!؟
ومرّ شهر ونحن في ألم وحزن ممض، وتردنا برقية منه في الثاني من أيلول (أطلق سراحي) يا فرحتي. وعدت إلى رئيس الجامعة لييسر لي أمر عودته إلى الجامعة، رغم ما ضننا آنفا وما بدا منه من إعراض وعدم اهتمام، إنها الحاجة!؟
ولكن مآسي أخرى كانت تنتظر عودتي ... دعيت إلى دائرة الأمن، المفوض الشرس عبد الجبار السيد علي، أنذرني بإسقاط كفالتي التي تمت من قبل الحرس القومي، وعقب متباهيا: راحت ويّ الحرس القومي، اعمل كفالة غيرها جديدة، كفيلك لازم منتسب لغرفة التجارة، وصدقها بالمحكمة، وإلا أنيمك بالتوقيف!؟ هذا المفوض ككثير من أمثاله في العهد الملكي، كان لا يتحرج من شتمي وبعد أن تقاعد صار يسلم علي ويجاملني بالسؤال عن صحتي!؟.
مالك البيت هو الآخر جاء يطالب بالإيجار في وقت منعني -الأمن- من السفر لاستلام نصف الراتب. وابنتي قبلت في دار المعلمات بحاجة لتزويدها وبقية أخواتها بما يلزم ؟ أنا لا أملك فلسا واحدا. لا مفر من بيع بعض ما لدينا. أمهن باعت خمارها وخاتم ذهبي. وابني البكر منحنا سبعة دنانير. نصيب العائلة من هذه كلها ربع دينار لأكلةٍ من خبز وجبن وشاي. والباقي لمالك البيت الذي وقف يصيح بملء فمه: أدفعوا أجور هذا الشهر وفرغوا البيت، تريدون تعصون بي. بيتكم السجن!؟ لم أجبه بأكثر من: سل أبنك عنا، فنجاته من الويل الذي ذقناه كان بفضل شرف نفوسنا!؟ ابنه كان شيوعيا ومسؤول ابني الأكبر فلم يذكره عند التحقيق معه. وهذا شرف ومنّة لو كان هذا الرجل يعلم حقيقة ابنه.
أعود للحديث عن الكفالة. التاجر الذي كفلني، أستغل طلب الأمن هذا فاعتذر انه لا يستطيع أن يظل كفيلا. الصديق "....." قصدته، وعلى بعد أمتار صاح: منذ ثلاثة أيام أنا مشتاق لصديق أسمه علي الشبيبي. وقفت عند حد هذه المسافة، وقلت: جاءك الصديق ولكن لأمر! فهل تنقذه بكفالتك؟ أنا وأبناي مهددون بالتوقيف إن لم نجدد الكفالة!
وجم صاحبي. وكأن قدميه قد ثبتا إلى الأرض بمسامير، وكأن فمه قد الجم بلجام. نهض الدكتور جليل أبو الحب وكان جالساً معه وبانزعاج صاح: أمر غريب، اشتقت إليه، ولا تضحي لإنقاذه بكفالة!؟ يبدو أنه غريب حقا. ومساعدة الغريب أمر يتنافى مع كرم النفس؟ يبدو هكذا؟ وغادرتهم ......؟
ليس في أرض الله بلد لا تحتوي طيبين. اتصلت تلفونيا برئيس غرفة تجارة كربلاء السيد هاشم نصر الله. وقد دفعه نبله، فقال: عجل توجه إليّ. وتم بواسطته عمل الكفالة لنا نحن الثلاثة. آل نصر الله علويون، نسبهم معروف ومن أجدادهم من عرف بالشهيد الثاني هو نصر الله. والليالي من الزمان حبالى والليالي يلدن كل عجيب.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏19‏/07‏/2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المعاناة مستمره ايها الاحبه
sami noori ( 2011 / 7 / 19 - 22:52 )
كنت ولا زلت اقرا هذه الذكريات ولاحظت ان العراق ومنذ تكوين الدوله وحسب متابعتي يعاني اهله من الظلم في البدء قال الساسه والوطنيون انه الاستعمار ولكن بعد ثورة تموز نرى ان الظلم اخذ بالاستمرار والاتساع الا يدل هذا ان مصدره ليس الحكام سببه فقط ولكن طبيعه التكوين النفسي والعقلي للعراقي

اخر الافلام

.. بعد قضية -طفل شبرا- الصادمة بمصر.. إليكم ما نعرفه عن -الدارك


.. رئيسي: صمود الحراك الجامعي الغربي سيخلق حالة من الردع الفعال




.. بايدن يتهم الهند واليابان برهاب الأجانب.. فما ردهما؟


.. -كمبيوتر عملاق- يتنبأ بموعد انقراض البشرية: الأرض لن تكون صا




.. آلاف الفلسطينيين يغادرون أطراف رفح باتجاه مناطق في وسط غزة