الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كولالة في سفر تكوين

حمودي عبد محسن

2011 / 7 / 20
الادب والفن


قرأت قصيدة السيدة كولالة نوري في الحوار المتمدن الموسومة بعنوان : نواقص . وقد جلبت انتباهي ، فأنا لم أقرأ لها سابقا ، ولم أعرف عن إصداراتها في الشعر أو النثر ، ولم أعرف في أي بلد تعيش خاصة وإن الغربة طحنت بطاقات المبدعين في بلدان اللجوء بعد أن تحول بلدنا إلى خراب . أعرف فقط أنها عراقية تحمل هموم بلدها ، وتحمل هموم المرأة العراقية ، وتصوغ نسيج ملاحمها في الشعر ، وأعرف أيضا أنها كردية من الاسم ، وهذا يشرفني ، إذ قضيت زهرة شبابي تجاوزت 12 عاما في جبال كردستان أدافع عن قضية عادلة وأنا أحمل بندقيتي على كتفي وعليجتي على ظهري فيها رغيف خبز وبصل لتكن غذائي في الليالي العميقة سواء في كهف مظلم أو مغارة واسعة ، فعرفت جبال كردستان وصخورها ووديانها ، ومعارك الوعل الجبلي في الخريف ، ورقصة الدببة ، وتناغمت روحي مع أنغام طائر الكاو في شروق الصباح أو حمرة الغروب ، وتآلفت العيش مع الفلاح البسيط النبيل وعاداته وتقاليده سواء تحت المطر أو تحت ألوان قوس قزح أو في صقيع الثلوج ، أو عندما تزهو أزهار النرجس البيضاء سيدة الأزهار في الربيع ، فترسخت في ذهني أساطير الأولين ، وأحداث الانهيارات الثلجية وعواصف الشتاء ، وحكايات عجيبة عن معاناة البيشمركة جسدتها في كتاب ـ عند قمم الجبال ـ إذ ما تعرض له الشعب الكردي من معاناة في حقبة الدكتاتورية المقبورة يفوق التصور .
القصيدة :
القصيدة فيها عالم يضج في التناقض والصراع ما بين أنا الذات والفرد المخاطب : أنت . فهي ليست فقط صرخة الذات التي تعني بوجودنا الحاضر أو تمزيق ألوان أو رذاذ أضواء ، بل أيضا تغوص في النفس البشرية ، وتضطرب بالعلاقة المعاشة بين البشر ، ولذلك ظهرت أهميتها لموضوع إنساني بحت ، فهي خطاب حواري رقيق بلغة رقيقة لطيفة لينة أو بالأحرى مكاشفة حوارية ، إذ أنا كولالة أعرف نفسي ، لكن أنت الكائن الرجولي اعرف نفسك ، ها أنا أقول : اعرف نفسك . أنا لي نواقص في هذا العالم الذي ( يئن بجواسيس القلاع ، وأسمال الخديعة ) كما تقول كولالة في قصيدتها . فقد تميزت القصيدة على قصائد كثيرة لشاعرات كثيرات ، تلك قصائد خشعت لسلطة ـ سيادة الذكر ـ فكانت أشبه ببكائيات أو أحزان أو احتراق الذات في عذاب التألم ، فكانت قصيدة ـ نواقص ـ تتعادل بالمساواة ، إذ أنا الأنثى لي نواقص ، وأنت الذكر لك نواقص .
فتقف هذه القصيدة متفردة وحيدة في أجوائها ، وفي ذوقها ، إذ فيها ولوج طليق للصورة الشعرية باختلاف الإيقاع ، ووحدة التناقض ، لتتوحد مدلولاتها ـ الأنا وأنت ـ في مفردة غائبة ذات الانتماء المشترك أي مفردة الحب ، لذلك قلنا غائبة حيث لم تشر إليها الشاعرة ، وهذه مفارقة حادة غير مألوفة ، أكانت كولالة حذرة في بناء القصيدة أم متهيبة في رشاقتها خاصة وأن القصيدة شديدة الالتصاق بالحياة من وراء المألوف والعادي اليومي أو ظلال دلالة المضمون ؟!
فقد جاءت قصيدة ـ نواقص ـ لتشكل نظرة جمالية متجددة تعطي معنى الوجود الإنساني ، وتلغي هشاشة التفوق الرجولي ، وتؤسس عرفا جديدا بالعلاقة العاطفية الواقعية لتأخذونا إلى عالم الحقيقة ، والواقع الذي يمتد إلى البعد اللانهائي ، عالم مرئي قد يكون غريبا في سفر تكوين جديد ، إذ يأخذننا من عبرة التاريخ ، ومن مفردات الأساطير القديمة التي تسمو برؤية أخرى ، ونظرة متجددة ، فهنا كولالة لم تنزع تاجها الأنثوي ، ولم تعط صولجان الحياة إلى السيادة الذكرية ، فقد حافظت على العصا الراعية للعاطفة ، الذي ارتشفت من كأسه المشترك الطافح بالمحبة ، حيث لم تجعل حقها نذرا للرجل في شعائر وطقوس وتقاليد المجتمع الأبوي الشرقي ، فالأناشيد والأهازيج والصلوات والابتهالات في معبد العرس السري هي مشتركة للأنثى والذكر ، ولتكون المحبة هي قدس الأقداس .

لكن أهمية القصيدة تتصاعد عندما انقلبت المرادفات الشائعة في الأدب المستمدة أساسا من الأسطورة السومرية أو البابلية ، أو الشرقية عموما ، وتم توظيفها بشكل آخر مما حدا بي أن أتوقف عندها :
أولا : أو ضجة قرمزية لثور روحي الهائج
هذا المقطع المتمركز في هيجان الثور الذي جاء في ملحمة جلجامش عندما رفض جلجامش طلب عشتار بالزواج منها ، وقد عيرها بعشاقها ، والذي اعتبر إهانة للآلهة ، التي أرادت معاقبة جلجامش ، فأرسل إليه الثور المجنح ، فقاتله جلجامش مع صديقه انكيدو ، وقتلاه .
فالثور في الأساطير السومرية يجسد الخصب والفحولة والقدرة على الإنجاب ، وغالبا ما شبه الملك السومري نفسه بالثور : ( أنا الثور الذي لا ينضب فيه ماء الحياة ... أنا الثور الذي يقود فحول الثيران ... أنا ثور الوحش رائد كل البلدان ) ، وشبه أيضا الإله تموز بالثور مثلما قالت عشتار : ( إليك يا ثوري البري ، أتوجه بصلاتي ) . فالهيجان والريادة والإخصاب قد استطاعت كولالة أن توظفها في القصيدة بأسلوب آخر يختلف عن المشاع في الأدب ، وهذا إيحاء لصورة شعرية مستمدة من العهد السومري بتكوين آخر ، فهي لم تصف نفسها مثل أنانا أو عشتار بالبقرة المؤنثة المقدسة المتعالية ، بل إنها تلك الروح الهائجة التي تمتلك روح ثور.
ثانيا : في أن أقطع كل يوما فرعا من شجرة الخوف
المتعارف عليه أن هناك شجرة الحياة الذي تحدثت عنه الأسطورة السومرية أو البابلية خاصة عندما يجري الحديث عن أرض دلمون أو شجرة الحياة والمعرفة في التوراة أو شجرة الحياة في جنة عدن بالرغم من أنها ارتبطت بالحكم الإلهي ، وهناك من يذهب في تمثيلها بشجرة النخيل أو الأرز ، وكما معروف لنا أن شجرة الحياة عند السومريين مقدسة ومباركة ، وتمنع الافتراس ، وتحمي عبادها ، وتكافح العدوان ، وتبث شعور الأمن والسلام ، غير أن لكولالة شجرة متناقضة تماما وهي شجرة الخوف ، التي لها ظل وارف ورحيم ، والرجل يرتعش فيه ، ويفيء بظلها .
ثالثا : والرماد المبارك من حريق زهرة
الوارد في الأسطورة الشرقية أن طائر العنقاء يحرق نفسه ليتجدد وينهض من رماده بعد نصف قرن أو قرن أو خمسمائة قرن حسب ما سخرت الشعوب هذه الأسطورة ، بالرغم من أنها اختلفت بتجسيد شكل العنقاء ، فمنها ما ترى أن العنقاء تسكن قمم الجبال ، ومنها من تعتقد أنها تجدد نفسها فوق شجرة نخلة ، لكنها تتفق جميعها على أن العنقاء خالدة كما جاء في سونيت 59 لمايكل أنجلو :
كلا ، ولا تستطيع العنقاء الخالدة أن تجدد ذاتها
دون أن تحرق ذاتها
غير أن لكولالة رماد آخر تنهض منه وهو من حريق زهرة ، زهرة قد أرادت منها أن تكون خالدة .
النواقص :
أنا الشاعرة :
إذ الشاعرة التي لا تمتلك وسيلة لترمم وتبني وتصنع وتقاتل فهي كما هي من دم ولحم وأحاسيس ومشاعر ، ولا تستطيع أن تكون وهما أو ضحية ، هي أنا المرأة الشاعرة التي تملك طاقة انفعالية دافعة بكلمات من احتراق ذاتها لتكون متكاملة في قصيدة ماثلة أمامنا أي لتنجلي ـ آليثيا ـ كما كان يعبر عنها هيراقليطس بفلسفته للشعر .

أنت الغائب :
وهنا الشاعرة ذات أكثر رحابة وخصوبة التي أثارت خيالها إندهاشة ، وحفزتها أن تكون في حالة شعرية ، فظهرت منها الكلمات لتتلاحم الصورة الشعرية والمضمون في لحظة انفعالية وتتسرب إلى عالمنا دون زخرفة وتزين في مهارة أسلوب ، واستخدام كلمات :
ينقصك عالم كامل
لتصبح خالدا شهيدا

ينقصك الإيمان بالريح
والرماد المبارك من حريق زهرة

هذا التداخل التبادلي يقودنا عبر مسافة تاريخية طويلة من المجتمع الأمومي الذي كانت السيادة للمرأة فيه ثم نتوقف في حاضر اليوم إذ المجتمع الأبوي ، لكن كولالة تتنقل بين أطوار التاريخ البشري متجاوزة المسافة بينها في مظهر جمالي أنيق مهما كان القريب والبعيد والتوتر والصراع والتنازع ، فهي ذات القلب الرقيق ، وما زالت تملك بذرة الحياة لذلك ارتبطت العاطفة في وحدة واحدة أي في التوحد الكلي الشامل للذكر والأنثى .

فالقصيدة كما أشرت ذات سفر تكوين إلى أزمان موغلة في القدم ، في جوهرها الخفي ، في توظيفها للمفردات ، في تداعي المعاني ، وفي هذا تكمن جمالية الرمز إزاء موضوع واقعي يحمل في طياته تعبير وصور تنجلي في تدفق جريان شكل آخر تلقائيا ، فليست فيها هزيمة أو انتصار بقدر ما فيها من توحد في عالم يخصنا جميعا إناث وذكور لمعادلة متساوية : أنا عندي نقص ، أنت عندك نقص . فهنا القصيدة نص شعري ماثل أمامنا لحساب كولالة الخاص بالصورة والصوت المتناغم إلى ما وراء ذات الشاعرة ، قصيدة توهجت بوميضها الخاص في الحضور الإبداعي لأتآلف معها بعد أن حققت معيارها النموذجي متجاوزة التحجب والقيد لتنفتح أمامنا أبواب الدهشة .


حمودي عبد محسن
19 . 7 . 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس