الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تولد الفاشية العسكرية الأمريكية في الفلوجة: مَن يكترث بولادة قيصر نووي روسي جديد؟

صبحي حديدي

2004 / 11 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


أنظار العالم كانت منشدّة إلى أكثر من موقع صانع للأخبار الساخنة: تدمير الفلوجة وذبح مئات الأبرياء من أهلها بذريعة محاربة الإرهاب (الذي بدا وكأنه غادر كلّ أوكاره العالمية واستقرّ هنا فقط!)، وتكشّف أولى العلائم حول طبيعة المصائر التي سيلاقيها العالم إذْ يوضع مجدداً في عهدة الرئيس الأمريكي جورج بوش لسنوات أربع قادمة، واستقالة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في غمرة استقرار خطاب عجيب ينبّهنا إلى أنّ الرجل ـ الجنرال المتقاعد كان آخر "الحمائم" في إدارة بوش الإبن، وتوطيد صفوف "الصقور" في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا (كوندي) رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية، واحتمالات المستقبل الفلسطيني المفتوحة على مجاهيل عديدة...
... ثمّ دخل على الخطّ رجل لم يكن أحد ينتظره في معمعة الأخبار هذه، وما كان له أصلاً أن يُدعى إلى صناعة أيّ خبر ذي دلالة: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين! إنه، وفي اجتماع حافل بالمغزى مع أركان القيادة العسكرية الروسية، يبشّر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوي النووية الأخري في العالم. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: "أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب"...
هل يمزح، رئيس القوّة النووية الكونية الثانية؟ وإذا كان لا يمزح، فما مناسبة هذا التفاخر؟ وهل يمهّد بوتين لصفقة جديدة مع الولايات المتحدة أو الإتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي؟ بالأمس فقط قام رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (وهو الدائن الأكبر) اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً عن ارتفاع أسعار برميل النفط. وعلى روسيا أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي في 1 كانون الثاني (يناير) السنة القادمة. هل كان بوتين يخاطب راتو، إذاً، ولكن من خلال ميكروفون نووي؟
في كلّ حال، لا يلوح أنّ إدارة بوش تأخذ التصريحات هذه على محمل الجدّ، إذا قرأنا المبطّن في أقوال الناطق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان، الذي أعلن أنّ الخبر ليس جديداً على الإدارة: "نحن على إطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ونحن اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب". والمعلّق العسكري الروسي ألكساندر بيكاييف أوضح أنّ بوتين يقصد صاروخ "بولافا" العابر للقارّات، والذي اختُبر للمرّة الأولى في أيلول (سبتمبر) الماضي، غير أنّ الأمر لا يعدو التفاخر أمام العسكريين والرأي العام الروسي.
والحال أنّ التفاخر بالتفاخر يُذكر! قبل زمن ليس بالبعيد تفاخر جورج روبرتسون، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، بأنّ الـ "ناتو" بات يضمّ دولاً تمتدّ مساحتها من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستوك شرق روسيا. من جانبه اعتبر جورج بوش أنّ الحرب الباردة انتهت الآن فقط، مع صدور إعلان روما الذي تضمّن تشكيل المنتدى الأمني الجديد بعضوية دول حلف شمال الأطلسي التسع عشرة، بالإضافة إلى روسيا. في عبارة أخرى، لم تنتهِ الحرب الباردة على يد جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، بل على يد جورج بوش الإبن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه، بالطبع، إشكالية زائفة سوف يحسمها التاريخ حين تضع الحرب الباردة أوزارها بالفعل، الآن حين يتوافق قادة 20 دولة أورو ـ أمريكية متقدّمة مصنّعة على الأطروحة الأمريكية التي تقول إنّ الشراكة الأمنية الجديدة تواجه عدوّاً شرساً جديداً هو "الإرهاب الدولي"، أين منه دول حلف وارسو وإمبراطوريات الشرّ والستار الحديدي. كذلك بات من الجلي اليوم أنّ انضمام روسيا إلى المنتدي الجديد ليس أكثر من إجراء وقائي ـ تجميلي يستهدف التطويق أكثر من الإشراك، وذلك حين تنصّ قوانين المجلس الجديد على أنّ كلّ دولة عضو أصيل في الحلف تملك حقّ استبعاد روسيا من مناقشة أيّة قضية أمنية ذات حساسية خاصة ولا تحظى بإجماع الدول الأعضاء!
لكنّ سلسلة مآزق روسيا لا يختزلها أيّ طراز من التباهي حول رفعة روسيا نووياً، حين تكون رفعتها الجيو ـ سياسية والاقتصادية أكثر تواضعاً وانحطاطاً. وفي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين من عمّال المناجم إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية، بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، ليس أكثر! وفي روسيا انحدار متواصل لمستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. أليس من المؤشرات الباعثة على القلق أنّ أحداث روسيا تراجعت وتتراجع إلى مراتب دنيا في لوائح اهتمام العالم بما يجري في بقاع ومناطق ومراكز هذا العالم؟ أليس مقلقاً أنّ هذا التراجع يطال دولة ما تزال القوّة العظمى الثانية، نووياً على الأقل، وما تزال مرشحة للعب دور القطب الثاني الموازي للقطب الأمريكي الأول، أياً كان معني القطبية هنا؟ ألا يرتاب المرء في أنّ بوتين يرفع نغمة الحديث عن قدرات روسيا النووية لأنّ روسيا غائبة عن الأخبار، وليست مغيّبة فقط؟
هاهي روسيا بدايات القرن الواحد والعشرين ترتدّ إلى روسيا أوائل القرن العشرين، وكأنّ صورة البلد قفزت من أحد كادرات أفلام سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين: رعب وعنف وتمرّد، جثث مجهولة لا تحتضنها سوى الثلوج اللامتناهية، قلق غامض يكتنف قوى أكثر غموضاً، وأكوام من الروبلات (وليس الكوبيكات) لا تكاد تبتاع رغيف خبز أسود أو زجاجة فودكا من الصنف الرديء. الدولار هو العملة الوطنية في الأسواق والمصارف والشوارع، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هما السيف المسلط على عنق السيادة الوطنية تماماً كما هو الحال في أكثر أنظمة العالم الثالث عجزاً وضعفاً واستسلاماً.
وإذ تعود هذه الأيام إلى ما يشبه المربّع الأول في الحسابات الدولية الجيو ـ سياسية، فذلك لأنها تعود من بوابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)، لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء. وهو مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة).
وهذه، في تمثيل آخر، هي روسيا كما أرادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (ومن قبله أوائل أنبياء الحرب الباردة)، وكما يريدها صندوق النقد الدولي: قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكنّ أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والاستثمارات المتعددة الجنسيات. تباين صارخ في التوزيع الإجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادّة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القوموية.
وهذه، أيضاً، هي روسيا الأفضل شروطاً ــ أي: الأسوأ حالاً! ــ من أجل الإنضمام إلى المنتدي الجديد. ومَن تابع انخراط الرئيس الروسي بوتين في هجاء عدوّ الإنسانية المكتشَف حديثاً، أي الشرّ والإرهاب الدولي، لا يخامره أيّ ريب في أنّ القيصر الجديد هذا أتقن سريعاً اللعبة الدونكيشوتية التي انخرط فيها حلفاؤه زعماء دول الحلف الأطلسي. وهكذا، وخلال زمن قياس مدهش، طفحت بلاغة بوتين بالثنائيات الغربية التي تضخمّت وانتفخت وانتعشت بعد وقائع 11 أيلول (سبتمبر): المدنية والبربرية، التقدّم والتخلّف، الخير والشر، و"نحن" في موازاة "هم".
و"هم" هؤلاء أمم قصيّة فقيرة لا تكاد تسدّ رمق أبنائها، مثقلة بأعباء تواريخها الحافلة المنطوية، وحضاراتها السالفة المندثرة، وحاضرها القاتم الكئيب. وإذا شئنا مرجعية أمريكية في توصيف هذه الأمم فإننا سنعثر عليها ــ على نحو مُرْضٍ ومدهش ووقح في الآن ذاته ــ عند عشرات المعلّقين والمنظّرين والمخطّطين وصانعي القرارات الاستراتيجية في الولايات المتحدة وتسعة أعشار أوروبا، من برنارد لويس الذي لا يرى أنّ الـ "هم" سوف يتغيّرون في أيّ يوم قريب، إلى أوريانا فالاشي التي تصرخ في شعوب أوروبا: تنبّهوا واستفيقوا ضدّ الإسلام والمسلمين، وصولاً إلى مايكل كيللي المعلّق في "واشنطن بوست": "نهاية القرن الأمريكي زمن جائع، مليء بأمم صغيرة تتحرّق رغبة في أن تكون أكبر مما هي عليه. وفي داخل كلّ قوّة نحيلة ثمة أمّة سمينة تصرخ طالبة الخروج. ومن بكين وموسكو إلى بغداد وطهران واسطنبول ونيو دلهي، تواصل الأرواح الطموحة ممارسة الأحلام الحسيرة في نظام دولي جديد لم يصبح بعدُ القرن الأمريكي الثاني".
لاحظوا هويّة هذه الأمم الصغيرة : الصين، روسيا، العراق، إيران، تركيا، الهند! ولاحظوا أيضاً أن المدن التي يقتبسها كيللي ليست سوى عواصم سابقة أو راهنة للإمبراطوريات والحضارات الروسية والصينية والاسلامية العباسية والفارسية والعثمانية والهندية! ولاحظوا، ثالثاً والأهمّ ربما، أن هذه الحضارات دخلت جميعها في هذا أو ذاك من أشكال التناحر مع الغرب الإمبراطوري التوسعي والكولونيالي، خلال هذه أو تلك من أحقاب التاريخ ودوراته العاصفة.
الشراكة مع روسيا، مقابل إعلان الحرب على الـ "هم" في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، الآن في العراق وإيران وكوريا الشمالية وكوبا، وبعدئذ في الهند والباكستان وأندونيسيا وجنوب أفريقيا وفنزويلا، وسواها، وسواها... وبين استقطاب روسيا وتأثيم الـ "هم" تواصل الولايات المتحدة حشد الحلفاء لخوض المعركة الأساسية ضدّ قوى الشرّ والإرهاب وتعكير الأمن والسلام والطمأنينة الكونية .
وإذا لم تكن روسيا هذه هي "بيت الموتى" في الوصف الذي اختاره لها أديبها الكبير فيودور دستويفسكي أواخر القرن التاسع عشر، فإنها يمكن بالفعل أن تكون "بيت المجانين" في الوصف الذي اختاره الزعيم الشيوعي غينادي زوغانوف أواخر القرن العشرين. "ستّة رؤساء وزارة في ثمانية عشر شهراً... ألسنا بالفعل في بيت مجانين"؟ سأل زوغانوف، ذات يوم غير بعيد أيضاً، وهو لا يبدي أية سعادة أبداً بمجيء رئيس الوزراء الجديد، القادم مع ذلك من قلب الـ KGB: فلاديمير بوتين! ذلك لأنّ زوغانوف كان يملك تقارير موثقة تقول إنّ رئيس الوزراء الجديد، وخلال عقود عمله في المخابرات السوفييتية، استحقّ لقب "الكاردينال الرمادي". كان هذا يعني أنه كاردينال أوّلاً (أيّ أقلّ مرتبة من أي القياصرة البطاركة)، ويعني ثانياً أنه رمادي (أي لا لون له في عبارة أخرى)!
وهكذا فإنّ من الإنصاف القول إنّ هذا الكاردينال الرمادي ليس بعدُ ذلك القيصر النووي الذي توحي التصريحات الأخيرة باقتراب ولادته واحتلاله المشهد الجيو ـ سياسي الكوني، فالولادة ليست "قيصرية" فحسب، بل هي عسيرة ممتنعة. من الطبيعي تالياً أن تُرسل تلك الأقوال إلى سلّة مهملات التاريخ، خصوصاً هذه الأيام حين تتعاقب أخبار الولادة الأخرى الأهمّ: الفاشية العسكرية الأمريكية في الفلوجة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة