الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصريون الجدد يطاردون وحوش الفاشية

مهدي بندق

2011 / 7 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


لا يجادل أحد في أن ثقافة الإذعان والتبلد قد ولت الأدبار مع سطوع شمس الخامس والعشرين من يناير 2011 . وآية ذلك أن المصريين جميعاً قرروا ألا يحكمهم رئيس لأكثر من مدتين، وألا يهينهم ضابط شرطة أو يتعالى عليهم بيروقراطي كبير أو صغير، والأكثر أنهم نبذوا وللأبد فكرة الإقصاء السياسيّ إفساحا ً للساحة الوطنية أمام جميع الفاعلين الاجتماعيين باختلاف عقائدهم أو أيديولوجياتهم أو مذاهبهم. وكل هذا جدير بأن تقام له الأفراح والليالي الملاح .
بيد أن السؤال الواجب طرحه بقوة في هذه المرحلة الفارقة هو : هل بمستطاع المصريون الجدد أن ُيبعدوا عن بلادهم أشباح الفاشيةFascism المعادي للديمقراطية قلبا ًوقالبا ً؟ أم أن تلك الأشباح المرعبة لا تزال مختبئةً في جلابيب الوهابية وجيوب التمذهب السلفي تنتظر الفرصة للانقضاض عليهم وتفريقهم شذر مذر؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من تتبع نشأة ذلك الاتجاه، والتعرف على خطابه القطعي discourse Dogmatic الذي يدعو إلى فهم الكتاب والسنة برؤية السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، الذين قصروا استنباط الأحكام على نص القرآن الكريم والأحاديث النبوية مستبعدين سائر الوسائط الفقهية التي تألقت مع ازدهار الحضارة الإسلامية كالقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة ...الخ وعليه فواجب المسلم المعاصر- بتوجيهات الفقيه السلفيّ - الابتعاد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، ولا سبيل لذلك بغير التمسك بآلية النقل، والإعراض عن "شطحات" العقل ومنزلقاته. وبهذا الإقصاء للعقل فإن السلفية لا غرو تمثل أحد التيارات الإسلامية العقائدية الموروثة والتي قامت ضداً على الفرق الإسلامية الأخرى، خاصة المعتزلة أصحاب الاتجاه العقلي في الإسلام . وطبيعي أن تعتبر السلفية المعاصرة نفسها الاتجاه القويم الوحيد ( وتعبير "الوحيد" هو المؤسس لكل فاشية ) الساعي بكل الوسائل – بما فيها العنف - لإصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية حسب ما يفهمونها وحدهم .
ولئن ظهر هذا المصطلح ( السلفية ) على يد الفقيه الحنبلي أحمد بن تيمية (ت1330) فإن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب (ت 1791) هو من قام بترويجه في منطقة نجد أواخر القرن الثامن عشر فتأسست على يديه الحركة الوهابية بغرض تنقية الثقافة الإسلامية من البدع والضلالات مثل التوسل إلى الأولياء والتبرك بالقبور، وبهذا أعلنت أنها دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والرجوع إلى الإسلام الصافي الذي هو طريقة السلف الصالح في إتباع القرآن والسنة، وعدم الاعتماد الكلي على المذاهب الفقهية السنية الأربعة . وكل هذا لا بأس به لولا ما شاب الحركة فيما بعد من تطرف بعض عناصرها إلى حد الشطط كما سنرى .
دعنا نرصد سلوكيات بعض هذه العناصر من تمحور حول وجوب التفرقة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، وممارسة العنف ضد النساء، وهدم الأضرحة والمعابد والتماثيل، وقطع آذان من لا يصلون بالمساجد، وضرب فاطري رمضان بالأحذية، فضلا عن الجلد وبتر الأعضاء وغير ذلك من تفاصيل الثقافة البدوية التي ُتبرر بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيداً عن قوانين الدولة المدنية الحديثة وميثاق حقوق الإنسان؛ ولنسأل ما سبب كل هذا العنف وتلك الفظاظة ؟ السر كامن في مفهوم الأخلاق – النسبيّ طبعاً - وعلاقته بوتائر السلوك . وذلك ما التفت إليه ابن خلدون وهو يقارن بين نموذجيْ البداوة والحضارة. فهل لنا أن نتتبع خطا رائد علم الاجتماع في إضاءة الفرق بين النموذجين ؟
التحضر لغةً معناه السكنى والعمل في الحضر( المدينة مقابل الريف والبادية) وفي اللغة الرومانية كلمة Civis تعني عملية التهذيب خاصة في علاقة المرؤوسين بالرؤساء. وهو نفس المعنى في الأدبيات العربية. جئ للخليفة العباسي المتوكل بالشاعر علي بن الجهم ليمدحه فقال الشاعر :
أنت كالكلب في الوفاءِ / والتيس في قراع الخطوب . وحين اشمئز الخليفة من غلظة التعبير، قالوا له : إنه لم يعرف التحضر بعد فأنظره عاما في بغداد. وبعد العام أحضروه ثانية فأنشد ابن الجهم قصيدة رائعة ً رقيقة ً مطلعها : عيون المها بين الرَصَافةِ والجسر ِ / جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري.
ومع استخدام جماعة الموسوعيين في عصر التنوير لهذه الكلمة؛ استقر المصطلح على أنه جمّاع القيم المادية والمعنوية التي تشكل معا ً سمات مجتمع يتخذ من المدن مستقرا ً له، حيث تنتشر الحرف والصناعات وتزدهر العمارة وتنتعش التجارة ويتطور التعليم... الخ هكذا عرف التاريخ الحضارات القديمة في مصر الفرعونية وبابل وآشور وحضارة الفرس والصين وكريت والإنديز في أمريكا الجنوبية. وفي العصور الوسطى بلغت الحضارة الإسلامية شأواً عظيماً لم يعكر عليه سوى الجمود الناجم عن سيادة نمط الإقطاع العسكري لقرون طويلة لم يجاوزه تبدل النظم الحاكمة – في ظل هذه الحضارة – بدء من الخلافة الأموية إلى العباسية والفاطمية، فالعثمانية التي واكبت مرحلة الجزر في مسيرة الحضارة الإسلامية.
ولأن الحضارة بما هي عليه من خصائص وسمات تعتبر كائناً حياً فإنها بمثل ما تولد وتزدهر تذبل وتشيخ ثم تموت في النهاية مفسحة المسرح البشري لحضارة جديدة. وهو بالضبط ما جرى لكل الحضارات السابق الإشارة إليها. واليوم يعيش معظم سكان العالم تحت شروط الحضارة الغربية الحديثة بأدواتها وآلاتها وأزيائها وطرز معمارها ومفاهيمها الاقتصادية والسياسية. وعبثاً يظن بعض الناس أنهم قادرون على بعث حضاراتهم التي خلفها الزمن وراءه.فكما قال الشاعر البياتي: النهر للمصب لا يعود / النهر في رحلته يكتسح السدود.
لكن بعض السلفيين يكابرون، معلنين أنهم في غناء عن حضارة الغرب لأنهم سيعيدون بعث الحضارة الإسلامية، يقولون هذا بينما هم يسافرون بالسيارات والطائرات وليس بالجمال والخيل، ويتسلى أبناؤهم بمشاهدة التليفزيون وألعاب الكومبيوتر وليس بلعبة " الضامة" بالحجر على الرمال. وإذا احتاج واحدهم لعملية جراحية فلسوف يقاضي الطبيب إذا ضربه بالمطرقة على رأسه ليفقده وعيه بدلا من استخدام البنج. ولكنهم – بعيداً عما يضرهم شخصياً - يتنادون لإعادة اقتصاديات الفئ والخراج و"إباحة" امتلاك العبيد والجواري لحل مشاكل الزواج ! مروجين بين مواطنيهم لفكرة الاكتفاء بالطب النبوي وبكتاب القانون لابن سينا بديلا عن الطب المعاصر، وإحلال تذكرة داود الإنطاكي محل منجزات علم الفارماكولوجي .
إن الحضارة فعل تاريخي معقد يبدأ – كما يقول ماكس فيبر – بالانسلاخ من اعتماد البشر على موارد الطبيعة الجاهزة إلى محاولة السيطرة على تلك الموارد وإعادة إنتاجها بواسطة " العمل " المنظم الذي يقترن بتنظيم وتحديث مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
من نافلة القول التعميم خطأ كامل، فليس كل السلفيين سواء وهاهي ذي أجنحة منهم تبادر بتشكيل حزب سياسي بما يشي بتراجعها عن وصم الغير بـ "أحزاب الشيطان" فإذا صدقت النوايا كسب الشعب فصيلاً سياسياً جديداً " تحت الدمقرطة " وإلا لقلنا لهم إن اللعب مع الشياطين مؤد بالضرورة للشيطنة، وفي هذه الحالة فإن نموذج الحزب النازي في عشرينات القرن الماضي مرشح للتكرار لو لم ينتبه الديمقراطيون فيقيمون معهم حواراً دءوباً لا غش فيه غايته كشف القناع عن مخبوء المتاع ، وهو ما يمكن أن يساهم فيه الأزهر الشريف وسائر قوى الاعتدال الإسلامي فضلاً عن شيوخ الصوفية المعتمدين على آليات التأويل والقراءة العميقة للنصوص. وفي هذا السياق رأينا علماء الأزهر لا يعترضون على ترشيح المرأة فى المجالس النيابية، كما أصدرت دار الإفتاء المصرية الفتوى رقم ٨٥٢ لسنة ١٩٩٧ عن حكم ترشح وعمل المرأة عضواً بمجلس النواب أو الشعب، وخلصت فيها إلى أنه: لا مانع شرعا من أن تكون المرأة عضوا بالمجالس النيابية والشعبية إذا رضي الناس أن تكون نائبة عنهم تمثلهم في تلك المجالس.
كذلك انظر كيف توج الحوار بين الأزهر ونخبة من المثقفين بصدور وثيقة 29مايو2011 التي تتضمن القبول بمفهوم الديمقراطية الذي يرى أن الشعب مصدر السلطات في الدولة، جنباً على جنب إقرار منظومة الحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون، واعتبار المواطنة وعدم التمييز أساس المساواة، وتأكيد التعددية واحترام العقائد.
بهذه الوثيقة الرائعة يمكننا الاطمئنان إلى أن الأشباح لا تأتي إلا في الظلام؛ وهكذا فأشباح الفاشية لا مندوحة تختفي حال أن تسلط عليها ضوء ثقافة الحوار، الثقافة التي بها يمكن استنقاذ الوطن من مخالب هتلر متعرب أو نيوب موسيليني متأسلم .
على أن ما يدعو حقاً للتفاؤل بإمكانية ابتعاد شبح الفاشية أن شباب الإخوان – بانفتاحهم على لغة العصر ومعايشتهم لأقرانهم من شباب الثورة قد أدركوا ، بخلاف آباؤهم الذين قضوا جل أعمارهم في العمل السري أو تحت بنود الحظر، أن مبدأ السمع والطاعة ( وهو مبدأ فاشي لا غش فيه) وإن صلح للحياة العسكرية؛ محال أن يصلح في الحياة المدنية التي تقوم على حرية التفكير والتعبير. وبهذا الإدراك انفتحت عقولهم الشابة على ضرورة ترجمة معاني الدين إلى برنامج عمل سياسي عصري وحداثي، يأخذ من النص روحه وغاياته وينتقي من الواقع المحلي والإقليمي والدولي معطياته. وبمنهج الجدلية (بسكون الدال وليس بفتحها) صار بإمكانهم أن يقيموا بنية فكر جديد ربما يستمد جذوره من أبي الوليد بن رشد صاحب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" ليتواصلوا به مع أحدث النظريات الاقتصادية ونتائج علم الاجتماع، متطلعين إلى آفاق علم"المستقبليات" Futurology هذا العلم الذي لا يستغنى عنه كل من يتصدى للعمل العام، وبالذات الساعين لتغيير الواقع إلى ما هو أفضل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هنالك جذر اخر لكلمة تحضر استاذ مهدي
بشارة خليل قــ ( 2011 / 7 / 22 - 14:34 )
تحضر وحضارة من حاضر عكس غائب او ماضي.نقول الحضارة هي ثقافة اناس تابعت التقدم فهي في الحاضر من الزمان عكس من اوقف تقدمه في حقبة من الزمان الماضي فتخلّف اي عاش في الخلف ,الماضي
نرى هذا بوضوح عند السلفيين فقد اختارو (ربما لخوفهم وتوجسهم من التحديات الحضارية التي نتكت عن الحداثة) اختاروا الرجوع 14 قرنا في العقلية والزي والاحكام ومناهج الحياة اي حياة السلف الصالح كان هذا السلف ايام الصحابة او ايام ابن تيمية وحقبته


2 - السلفيين هم الحل
Hany Shaker ( 2011 / 7 / 22 - 18:50 )


السلفيين هم الحل .... تسالنى حل اية مشكلة؟ اجاوبك انها مشكلة الوقود .. الحطب ... فلولا الوقود لما اضطرمت النار ... نار السلفيين ... و النار غير المنضبطة قاسية , شريرة , شيطانيه , غاشمه , لا قلب لها و لا ضمير ... هكذا هم السلفيون و هكذا هى نارهم
وقودهم و حطبهم هى الجمهورية الرابعه , جمهورية القاع المصرى , تركة مبارك و زبانيته ... الملايين السبعين المهمشين الفقراء الاميين. ساكنى العشوائيات و المقابر و الطرقات ..
والى ان يتحسن مستوى هؤلاء الابرياء .. او حتى يتم فناؤهم وفناء مصر كلها على يد السلفيين سيبقى الشيخ الحنجورى يصرخ فى كل قناة تلفاز و كل مظاهرة و كل مسجد - النار .. النار


3 - رؤية السلقيين بمنظرر ديالكتيكي
فوزي توفيق ( 2011 / 7 / 22 - 21:31 )
تشير المقالة بذكاء شديد إلى جدلية قوامها الفكر السلفي في مواحهة الحداثة ، وقد أنصف الدكتور مهدي حين انتقد بغض السلفيين وليس جميعهم في الأداء المتعصب والمتخلف عن روح العصر بينما ركز على المنابع التي استقى منها السلفيون المعاصرون فكرهم المتعلق بالنبي محمد وصحابته باعتباره وظيفة اجتماعية وسياسية - كما يقول محمد أركون - تعلى من شأن العدل وتقاوم البدع والخرافات . هائل يا دكتور

اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس