الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا التحول الدرامي نحو عدالة اجتماعية

هاني أبو الحسن

2011 / 7 / 27
الادب والفن


الفرجة المسرحية
ونوستالجيا التحول الدرامي
نحو عدالة اجتماعية
د. هاني أبو الحسن

يشكل الحنين إلى التحول من حال قائم إلى حال مجرب من وقائع الماضي ، أو حال مأمول الوصول إليه ؛ يشكل رغبة ملحة عند بعض الناس الذين يعيشون حالة من القلق من واقعهم عند مقارنته بمحاسن يفتقدونها من ماضيهم ؛ تحرضهم على رفض الواقع الذي هم عليه؛ مع محاولاتهم المتكررة للخروج عليه ؛ والظهور بمظهر آخر ، مغاير ؛ حتى إذا ما تحقق لهم ذلك ؛ سرعان ما ينقلبون عليه - ولو بعد فترة – ويندفعون اندفاعا داخليا إلى هجره أو الخروج عليه ؛ بحثا عن مظهر آخر أو وجه آخر ، يمنحهم روحا جديدة غير الروح التي تسكنهم ، وهنا لا يكون أمام كل منهم غير القناع الوهمي؛ الذي يعطيه وجها جديدا غير وجهه وروحا جديدة غير روحه، وسلوكا جديدا غير سلوكه. وسواء استغرقت هذه الحالة من حالات التحول فترة وجيزة أو فترة قصيرة ؛ فإنها تعود به إلى حالة من الحنين المكبوت لماض لم يحقق فيه رغبة أو صورة كانت مأمولة في موقف أو لحظة من لحظات مسيرة حياته الماضية. وعبر رحلة تحوله من وراء القناع الوهمي الذي تلبسته روحه ؛ يتحقق له الانفراج ، ويعيش حالة التذاذ أو فرجة داخلية عبر إيهامه لنفسه.
ولا شك أن الممثل المبدع يعيش حالة الحنين تلك في كل دور يضطلع بأدائه ، حيث الحنين إلى شخصية ما حلم بأن يكونها . وكلما عايش حالة الحنين تلك ؛ كان صدقه الفني، وكانت لذته الحسية، التي سرعان ما تنتقل إلى جمهور المتفرجين.
وإذا راجعنا مثل تلك الحالة ( النوستالجية) في الشخصيات المسرحية ؛ سوف نجد الكثير منها ، فمنها ما بث حنينه إلى نفسه؛ تعويضا عما افتقده بما يتمناه عبر مونولوج أو مناجاة ، ومنها ما بث نجوى حنينه إلى ما يصبو إليه على هيئة بوح ذاتي لحيوان أليف مثلما تفعل " عبلة" في مسرحية (عنترة) للشاعر أحمد شوقي ، التي تبوح إلى ناقة بحنينها إلى عنترة . أو على هيئة بوح ذاتي ، لشيء أو أداة من أشيائه ، مثلما تفعل " براكساجورا" في مسرحية ( برلمان النساء ) :
" براكساجورا : ( تخاطب قنديلها المضيء في يدها )
إيه يا قنديلي المنير
صانع الفخار شكلك وجملك
طين ولكن زى نور الشمس تهدي خطونا
لما تتجلى علينا بطلعتك وبطلتك. "
ومن الشخصيات المسرحية التي تأسس فعلها الدرامي المحوري على مسألة الحنين ، كانت شخصية ( على جناح التبريزى) في مسرحية ألفريد فرج الذي هو خير مثال على نوستالجيا الشخصية الدرامية التي تحن إلى مجتمع العدالة الاجتماعية، المفتقدة في مجتمعاتنا العربية. فهي تكشف لنا عن محاولة تحقيق المأمول الذي تفتقده مجتمعاتنا الشعبية بالوهم والإيهام:
"( يدخل صواب وكأنه يحمل طبق النحاس )
علي: أسرع يا صواب فصاحبي جائع.
قفة: إئتنا..إئتنا.. وسع الله عليك .
( صواب كأنه وضع الطبق أمامهما، وقفة يعتدل ويشمر ساعديه، ما زال
معصوب العينين )
علي: مد يدك يا صاحبي ولا تستح( كأنه يتناول شيئا في فمه )
الله !
( قفة يمد يده بمنتهى الثقة ، فلا تصادف شيئا يحركها يمينا وشمالا بلا
نتيجة. يدفع بيديه الاثنتين في كل اتجاه. يجمد . ثم يرفع عصابته بسرعة
فيفزع ويقفز مبتعدا وهو يرتعش )
علي: ما بالك؟ لا عليك بأس .
قفة: (بحذر) لا شيء .. غير أني في بعض الأحيان أرى أشباحا.
علي: وماذا رأيت الساعة ؟
قفة: ( يشب ويتطلع إلى حيث الطعام الموهوم بخوف ) رأيت طعاما.
على: فتقدم وكل بالهناء والشفاء.. "

إذا كان الحنين إلى العدالة الاجتماعية في ظل أنظمة عربية مفترضة أو مأمول وجودها بديلا عن الأنظمة الحالية ، عاملة على خدمة شعوبها هو الهدف الذي أراده مؤلف النص ؛ فإن حنين (قفة) إلى سد رمقه هو الهدف الذي يأمل في تحقيقه؛ فالأمل في تحقق العدالة الاجتماعية على مستوى شعوب المجتمعات العربية ، هدف عام يحن إليه المؤلف ، نائبا عن الشعوب التي تفتقد العدل الاجتماعي . أما الأمل الخاص الذي يحن (قفة) العامل المطحون إلى تحققه هو حق غريزي لكل كائن حي ؛ حتى يستمر في مواصلة الحياة( سد رمقه) والصلة بين الهدفين صلة قربى ؛ فلو كانت العدالة الاجتماعية متحققة لما كان حرمان قفة أو غيره من الحرفيين من أبسط حقوق الكائن الحي في الحصول طعام يومه ، دون تزلف أو مداهنة ودون أن يريق ماء وجهه :
" قفة : ( جانبا ) إن كان مجنونا وخالفته ربما حصل لي منه ضرر. . أجاريه لعل
بعد ذلك يأتي الطعام ( يحزم أمره ويتقدم من علي وهو يبذل جهدا ليتغلب
على خوفه ) سيدي .. لا تؤاخذني إن اضطربت ساعة رأيت الطعام ، فذلك
من طول شوقي إليه .
علي: ( يقبض على ذراعه ) تعال. اجلس هنا في صدر السفرة، واضرب بيدك
فيما شئت من الأطباق ، لا تستح. أنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع.
انظر هذا الخبز وانظر بياضه ( كأنه يقدم له الخبز )
قفة : ( كأنه يتناول الخبز وما يزال يقاوم خوفه ) الله ! أحلف لك يا سيدي عمري
ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز ( كأنه يقطع ويأكل ) ولا ألذ من
طعمه ( جانبا ) أما خبز !
علي: هذا يا صاحبي خبزته جارية كنت أشتريها بخمسمائة دينار. ذق من هذا
الكباب الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك.
قفة : ( كأنه يأكل ) صدقت . والله مدهش .
علي: كل يا ضيفي فأنت ضعيف ومحتاج إلى الأكل. ذق هذه الفراخ المحشوة
بالفستق.. "
هكذا تبدأ عملية المشاركة الإيهامية ، حيث يبدأ ( قفة ) في الاندماج في اللعبة الإيهامية :
" قفة : ( كأنه يذوق وقد بدا يستمتع باللعبة ) الله ! لا إله إلاّ الله ! يا مولاي ..
هذا الطعام لا نظير له في اللذة . ( يفعل كأنه يلقمه ) يا اللـه خذ الصدر
من يدي ولا ترّده ( جانبا ) الولد خليع وظريف والله. إن كـان غـرضه
يمازحني أمازحه ؛ ليكافئني .. بعدها ( يصيح ) الله !! الله !! "

هكذا كما نرى ؛ فإن الأمل في الحصول على شيء ما يدفع صاحب الحاجة إلى النفاق ، وهناك مثل يقول : ( صاحب الحاجة أرعن ) ومع استمراء الشخص الذي يبتغى من ورائه أمل أو رجاء في الحصول على شيء ؛ تتسع مساحة زهوه وتتضخم ذاته ؛ ويزداد اعتقاده بصحة موقفه ؛ ومن ثم يزداد تصديقه لنفسه واستمتاعه بما يفعل. ومع استمتاع الشخصية المسرحية بلعبة إيهامها المشتركة تحقق الالتذاذ لنفسها – افتراضا – وللممثل الذي يقوم بتشخيصها ؛ ومن ثم ينقل حالة الالتذاذ عبر الفرجة إلى الجمهور :
" علي: أكثر، وتلذذ ولا تستح. أرأيت بالذمة أطيب من هذه الأطباق ؟
قفة : عمري ( يضحك ويعربد وقد ذهب خوفه وغلبه مرحه )
علي: لولا براعة هذا الطباخ ؛ كنت طردته ؛ لأنه قليل الحياء، ويخالفني في كل
شيء .
قفة : ( يفعل كأنه يلتهم بهمجية أطعمة من مختلف الأطباق ، بعيدها وقريبها
ويلتقط ما يتساقط من يديه ، ويمسح ما يتسرب من فمه أو على ملابسه،
إلخ .. ) حيّا الله قلة حيائه . "

ومن الطبيعي أن تولد المبالغة في الإيهام ؛ نفيا للإيهام نفسه عند المتلقّي ؛ إذ يخلق عملية استلاب بالمعنى الفلسفي ، أوعملية تبعيد أو تغريب بالمعنى المسرحي؛ وهذا ما توصلت إليه بلاغة البنية الفنية عند ألفريد فرج بتوظيفه لبنية
ذات سمات ملحمية بريختية ؛ قصد بها استلاب المصداقية ؛ والتشكيك في صدق الصورة أو الحالة المعروضة على الجمهور :
" علي: كل ولا تقتصد .
قفة : ( يتلوى على الأرض ) آه يا بطني .. سيدي اكتفيت.
علي: آن أوان الحلويات .. يا صواب الحلويات "

هكذا يتكشف الحوار عن حالة الحنين إلى حياة نظيفة ، مريحة وكريمة ، إلى انخراط ( الصرماتي) المعدم في عملية تصديق للنفس وللآخر القائم بعملية الإيهام مستمتعا بها ، كلون من ألوان التنفيس عبر نوستالجيا أو حنين موهوم ؛ حيث يعيش حالة مغايرة لما هو عليه ، حالة تحقق وهمي وانفراج لحنين مكبوت إلى حياة شبه آدمية كريمة ، ولكن عبر قناع مجاراته أو تفاعله مع حالة الإيهام التي يعيشها التبريزي ، الذي تمكّن من إلباسه قناعا مناظرا لقناعه الوهمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
آيا الجوهري ( 2011 / 7 / 28 - 00:48 )
تحليل بسيط في إسلوبه وغني في مُجمله
:))

اخر الافلام

.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور


.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان




.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل


.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض