الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ الاسود يخرج لسانه لعباس الأبيض !

علاء الزيدي

2004 / 11 / 22
الادب والفن


طوال شهر رمضان الذي ودعناه تواً ، تابع العديد منا مسلسلا تلفزيونيا تألق فيه ، كعادته دائما ، الفنان المصري الدكتور يحيى الفخراني .
ملخص سيناريو المسلسل الذي كتبه يوسف معاطي وسمير خفاجي وأخرجه نادر جلال أن مدرس التاريخ ، المصري عباس الدميري ( يحيى الفخراني ) كان ماشياً في العراق و " لقى " جثة ( على حد تعبيره الذي يحلو له تكراره ) وسبب هذه المأساة أنه كلما سأل تلاميذه العراقيين عن باني ومؤسس ومنجز وصانع أي شيء في بلادهم ، ماضيا وحاضرا ، أجابوه بأنه " الزعيم الملهم صدام حسين " الأمر الذي أثار حفيظته ، فوبـّخهم على ذلك ، وذكـّرهم بحضارة بلدهم التي مضى عليها – كما ادعى – ثلاثة آلاف عام ( فقط لا غير ! ) فوصل خبر هذه الجرأة غير المسبوقة إلى الأجهزة القمعية للنظام الصدامي السابق ، التي لاحقته وأصدرت أمرا بإعدامه ( أو ربما قال إن أمر الإعدام صدر من قبل صدام حسين شخصيا ولكنني نسيت ذلك الآن لأن وفاة رئيس الإمارات الراحل الشيخ زايد تسببت في قطع قناة دبي الفضائية بث المسلسل عدة أيام مما قطع سلسلة أفكاري ! ) غير أنه عثر في ظروف تكاد تشبه ظروف الأفلام الهندية على جثة مشوهة الوجه لمروض أسود مصري يعمل في العراق أيضا ( لافتقار العراق إلى مثل هذه الكفاءات والتخصصات العالية ! ) ويدعى لطفي الجنايني ، فأبدل جواز سفره بجواز سفر الجثة ، التي صارت عندما عثر عليها جلاوزة الأمن الصدامي جثة عباس الدميري المحكوم عليه بالإعدام ( ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ! ) فيما ألقي القبض عليه هو وسجن عشرين عاما على اعتباره لطفي الجنايني المطلوب بجريمة قتل .
أمضى لطفي الجنايني مدة العقوبة في " سجن بغداد العمومي " وهناك تعرف على المصري محروس ( محمد كامل ) اللص الذي تظاهر بأنه سجين سياسي ، ثم خرج الرجلان من السجن عقب سقوط صدام في جحره التاريخي ، فعادا إلى مصر عن طريق ميناء العقبة الأردني فميناء نويبع المصري على البحر الأحمر . حيث كانت في الانتظار زوجة لطفي الجنايني السيدة مهجة ( ماجدة زكي ) وولداها أحمد عزمي ومروة عبد المنعم وابنها بالتبني الطفل هادي خفاجة . ورغم إدراك الست مهجة أن هذا الرجل ليس زوجها لكنها كذبت نفسها والواقع وتشبثت به على اعتبار أن " ظل راجل ولا ظل حيطة " وعبثا حاول أن يشرح لها ولأولادها وللحارة حقيقة أمره لكن جهوده ذهبت أدراج الرياح .
أما عائلته الحقيقية ، فقد تزوجت زوجته ناهد ( نهال عنبر ) صديقه الحميم محرم ( عزت أبو عوف ) بعد أن تسلمت ما ظنت أنها جثته ودفنتها . ومحرم بدوره تزوجها لأن عم عباس الدميري طردها وولديها بيبرس ( أحمد سعيد عبد الغني ) ودنيا سمير غانم ، لكنهم ورثوه بعد وفاته ودخلوا نادي الأثرياء ( مائة مليون جنيه ) ولهذا أنكر بيبرس وأمه هوية الأب عباس الدميري وأصرا على كونه ميتا ، خشية أن ينازعهما على إرث عمه . لكن صديقه القديم محرم ظل على ارتباط معه وعرض عليه عدة مرات أن يضع تحت تصرفه جزءً من رساميله ، لكن " الأبيض " رفض لمبدئيته .
عرض المسلسل انتهى في التلفزيون المصري الأرضي ، لكنه مازال مستمرا بشكل حصري على قناة دبي الفضائية ، فقد بقيت منه بضع حلقات . وهي عادت لبثه من جديد تلبية لرغبات مشاهديها كما أعلنت .
لاشيء جديدا في المسلسل كنص وفكرة . بل إن بعض الإدعاءات صدر من هنا وهناك زاعما أن فكرته مسروقة من قصة مسلسل " لا " الذي كتبه عاطف بشاي عن إحدى قصص الصحفي مصطفى أمين . لكن الجديد فيه أنه وظف الدراما الاجتماعية لمهمة القص التاريخي التي كانت تحتكرها المسلسلات الدينية والتاريخية ، بصرف النظر عن مدى مصداقيته في هذا الاتجاه .
الفنان يحيى الفخراني الذي أمسك – بتقمصه الرائع للشخصية وتلاعبه البارع بالمتغيرات الدرامية - بياقات المشاهدين مانعا إياهم من النهوض حتى لقضاء حاجة ماسة ، فشل كمدرس تاريخ يلقي محاضراته على أيٍّ كان على قارعة الطريق و بدون مقابل ، في عكس حقائق التاريخ كما ينبغي أن يكون وتكون ، لأنه كان واقعا تحت تأثير التضليل الطائفي المستديم ، خاصة في مصر بالذات .
و ليس الفخراني هو الجاني بالطبع ، ولا الكاتبان ، إنما هي مصادرهم التاريخية التي ينظرون إليها كنص معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
كـُرِّس المسلسل للإشادة بأهم سلاطين دولة المماليك البحرية في مصر ( وهي الفترة الأولى لحكم المماليك هناك وتليها دولة المماليك البرجية أي الشراكسة ) وهو السلطان الظاهر بيبرس ، إلى حد تسمية ابن عباس الدميري باسمه .. وهو اسم على مسمى بالفعل !
ويتغنى السنة في مصر وبلاد الشام ببطولات هذا السلطان في معركة عين جالوت التي انتصر فيها على التتار . وقد تحول عندهم إلى شخصية أسطورية يتحدث عنها الحكواتيون في المقاهي الشعبية . فهم يسردون عادة قصصا خيالية ومبالغات عن عنترة بن شداد والزير سالم وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة وجحا ونوادره ، وهذا السلطان الذي دعي بالبطل الشعبي المملوكي الملك بيبرس والمماليك البحرية .
وقد بلغ تقديس هذا المملوك حدا في التراث السني أن مؤرخهم إبن كثير أسماه في الجزء الثالث عشر من " البداية والنهاية " ( الأسد الضاري بيبرس البندقداري ) وربما كان واحدا من أجداد حارث الضاري .. فمن يدري ! كما أفرد له عثمان بن بشر كتابا أسماه " الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر بيبرس " .
وأصل تسمية البندقداري ، أن بيبرس كان عبدا مجهول الأصل والأب ، لكنه نسب إلى رجل يدعى البندقداري اشتراه من أسواق الرقيق بالشام .
ويقول عنه مؤلف " النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة " يوسف بن تغري بردي ، في ص 106 من كتابه : " السلطان الملك القاهر ثم الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس بن عبد الله البندقداري الصالحي النجمي الأيوبي التركي سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية تخميناً وهو الرابع من ملوك الترك " !
وليس لبيبرس من هذا النسب الطويل العريض سوى كلمة " بيبرس " أما عبد الله البندقداري فهو الرجل الذي اشتراه !
ويضيف إبن تغري بردي : " مولده في حدود العشرين وستمائة بصحراء القبجاق تخميناً والقبجاق قبيلة عظيمة في الترك … إلخ !
وهكذا فإن إبن تغري بردي يقطع بأنساب الناس هكذا " تخميناً " وعلى هذا فيمكن لأي لقيط ملقىً في قماطه على باب أي مسجد أن يجد له نسباً من أشرف الأنساب " تخميناً " في حين يصر هذا المؤرخ وسائر مؤرخي السنة من الأولين والآخرين على تسمية الفاطميين الذين حكموا مصر في عصرها الذهبي بالعبيديين نسبة إلى جدهم عبيد الله وإخراجاً لهم من النسب الهاشمي لمجرد كونهم شيعة .
بل إن عدوى التشنيع الطائفي وصلت إلى المسلسل نفسه . فعباس الدميري أو لطفي الجنايني يسخر ذات مرة من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله لأنه " حرّم الملوخية والسمك بلا قشور " والحال إن أغلب المصريين يطبخون الملوخية بالأرانب التي حرم أئمة أهل البيت عن النبي أكلها لأنها تعتاش على غائطها وتحيض . كما إن السمك الأملس الخالي من القشور يعتاش على فضلات البحر وأوساخه وقاذوراته ( الذرائع المساقة حقائق علمية بعضها حديث أما التحريم فهو تعبدي وقطعي ومفروغ منه ) .
ويبدو أن سر الاعتزاز السني ببيبرس البندقداري يكمن في فرضه المذاهب السنية الأربعة على الناس في عهده . ففي عام 665 الهجري منع بيبرس التعبد بغير المذاهب الأربعة ، ومنع تعيين أي إمام صلاة أو قاض أو حتى مؤذن من غير معتنقي المذاهب الأربعة . وذهب إلى أبعد من ذلك ، فقتل كل من يجاهر بمذهب آخر من الفقهاء ، خاصة إذا كان من أتباع أهل البيت . وفي هذا الاتجاه أعدم وصلب الزاهد الورع الفقيه الكوراني في جبل المقطم عام 1260 الميلادي ، الأمر الذي حدثت على أثره انتفاضة شعبية في مصر والسودان ، قمعها المملوكي بيبرس بالنار والحديد على عادة الطغاة الجبارين .
وعلى كل حال فالغدر ديدنه . فقد عرف عنه التآمر حتى على أعز الناس لديه . ومن هؤلاء السلطان المملوكي المظفر سيف الدين قطز ، الذي آواه بعد أن كان فاراً إلى الشام نتيجة نزاعات داخلية في دولة المماليك الأولى ، وكانا صديقين وحاربا معا في عين جالوت ، لكنه تآمر على قطز وقتله واستولى على الحكم ، ثم أسمى نفسه الملك الظاهر !
ويروي ابن كثير القصة قائلا ( البداية والنهاية – ج 13 ) إنه اتفق مع جماعة من الأمراء على قتل السلطان الملك المظفر قطز ، الذي كان رجلا صالحا ، كثير الصلاة في الجماعة و لايتعاطى الشراب ولا شيئا مما يتعاطاه الملوك . وطريقة قتله أنه كان يحاول اصطياد أرنب هو واولئك الأمراء المتآمرون ومنهم بيبرس . فشفع عنده بيبرس في إنسان ، وقيل طلب منه امرأة من سبي المغول فشفع له وأجابه ، فأخذ يده ليقبلها وهي إشارة بينه وبين الأمراء المتآمرين لبدء عملية الغدر ، فأمسكها ومنعه من الحركة فحمل عليه الأمراء بالسيوف وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى أجهزوا عليه .
وقد برر هذا الاغتيال الغادر أحد المتأخرين من أنصار المقاومة العفلقية الحالية في العراق فقال : بيبرس هو الأقدر على مواجهة الذئاب . إنه لا يعفو عند المقدرة بل يذبح عند المقدرة ( نسخة مبكرة لشيخهم الزرقاوي ! ) إنه القاتل المتآمر الذي أصبح القائد المجاهد والمحرر العظيم . إننا لن نحاكمه الآن . فقط سنتذكر أن مخالبه التي نهش بها الأصدقاء هي ذات المخالب التي أطبقت على رقاب الأعداء . هو مملوك قبجاقي صنع للعرب من الانتصارات الرائعة في ربع قرن ما لم يصنعوه لأنفسهم في قرون عدة . في زمن الهزيمة لم يعرف سوى النصر . عين جالوت ، قيسارية إلخ … إنه لم يصنع قوانين الغابة . لقد وجدها أمامه فأجادها .. ربما بالغ قليلا !
لهذا السبب بعثوا بجميع شذاذهم من الحزب الأموي إلينا .. في العراق !
وعلى كل حال فلم يخل المسلسل من إيجابيات . فقد امتدح الخليفة الفاطمي المستنصر بالله لأنه جلس على باب قصره عارضا مجوهراته للبيع " لإطعام شعبه " على حد تعبير الدميري ، في إحدى المجاعات التي أكل خلالها المصريون القطط والكلاب . لكن رقابة التلفزيون المصري منعت هذا المشهد ، فيما عرضته قناة دبي !
ومع ذلك ، فهناته الفكرية والسردية والتاريخية أكثر من تحصى .
ففي عهد صدام كان العراقيون مجبرين على الهتاف باسمه ولم يكونوا هواة – يوماً – لتقديس الحاكم اليوم ثم الهبوط به إلى الحضيض غداً كما ادعى المدرس العائد من هناك !
وفي عهده المقبور لم يكن يدعى " الزعيم الملهم صدام حسين " بل كان نهاد نجيب مذيع قناة الشرقية وغيره من المذيعين البعثيين يسمونه " السيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه " !
ولم يكن ثمة في بغداد سجن عمومي ، بل سجون أبو غريب والرضوانية والبلديات وغيرها .
وعمر الحضارات العراقية سبعة آلاف عام ، كالحضارة الفرعونية تماما ، وليست ثلاثة آلاف عام فحسب !
وليت عباس الأبيض لم يزوِّر التاريخ الأسود .. وليت التاريخ الأسود لم يخرج لسانه استهزاءً بعباس الأبيض .. فهو طيب ونقي السريرة ومبدئي !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الناقد طارق الشناوي يرد على القضية المرفوعة ضده من


.. ياسمين سمير: كواليس دواعى السفر كلها لطيفة.. وأمير عيد فنان




.. تفاعلكم | بعد حالة الطوارئ الثقافية التي سببها في الرباط، حو


.. تفاعلكم | مخرج فيلم -آخر سهرة في طريق ر-، محمود صباغ، يرد عل




.. أحمد السقا يروى كواليس تعرضه للخطر في أفلامه ونجاته من الموت