الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية 2) انفصال الرأس عن الجسد

عبد المجيد حمدان

2011 / 7 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


3
مخاطر على الديموقراطية 2 انفصال الرأس عن الجسد
أنوه بداية أن عنوان هذه الحلقة ، مستوحى من مداخلة لأستاذ فلسفة في جامعة عين شمس ، مع برنامج بلدنا بالمصري ، قناة أون تي في الفضائية . دار الحوار في الحلقة حول مليونية جمعة الثورة أولا ، بتاريخ 8 يوليو – تموز ، مطالب المتظاهرين ، واحتمالية استجابات المجلس العسكري والوزارة لها . سأل أستاذ الفلسفة ( الذي قال أن اسمه حسين ) ، مقدمة البرنامج عن أبرز صفات تمثال أبو الهول . ردت : الصمت . ولما قال أن ذلك ليس أبرز صفاته ، أضافت : تكوينه . رأسه رأس إنسان وجسده جسد أسد . قال هذا بالضبط حال مصر الآن . هناك عدم توافق ، تضاد ، تناقض بين جسد الثورة ، الجماهير وقياداتها ، المطالب والأهداف ، وبين الرأس ، الذي يفترض أنه رأس الثورة ، وهو المجلس العسكري ومجلس الوزراء . هذا التضاد أو الاختلاف هو حال مصر اليوم ، وأحد أسباب ما هي فيه الآن .
فاجأني دكتور الفلسفة بعمق الفكرة التي طرحها . كما سبقه لأحزاب وحركات سياسية ، لكتاب ومفكرين ، لمثقفين ومحللين سياسيين محنكين ، في رؤية وتشخيص خطر هذا الحال القائم منذ شهور ، على مستقبل الثورة وأهدافها . والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة : لماذا وكيف وقعت ثورة شباب مصر في هذه الخطيئة ، خطيئة الفصل بين جسد الثورة ، وقيادة الدولة ، التي من المفترض أن تكون هي قيادة الثورة ؟
عبقرية القيادة :
انشغل المهتمون بالشأن المصري ، عقب نجاح الثورة في تنحية الرئيس – الملك بعباءة رئيس- ، في محاولات للتعرف على شخوص قيادة الثورة ، الذين تجلت عبقريتهم القيادية في مجالات عدة . شخوص هؤلاء الشباب الذين فعلوا ما عجزت أجيال من المناضلين الثوريين عن فعله ، رغم التضحيات الهائلة ، وعلى مدى العقود الماضية . شخوص الشباب الذين لم يظهر أي منهم على مسرح الأحداث ، طوال الأيام الثمانية عشر الصاخبة ، والفارقة في حياة مصر . الشباب الذين بهرت عبقريتهم القيادية أجيال السياسيين المخضرمين ، الذين عملوا الكثير على تهيئة التربة التي نبت فيها هؤلاء الشباب . انشغلوا في محاولة معرفة الاتجاهات السياسية لهؤلاء القادة الجدد ، وخلفياتهم الايديولوجية ، إن كانت لهم مثل هذه الخلفيات .
في حمأة هذا الانشغال ، ذهب كثيرون إلى القول بأن أبرز تجليات عبقرية هذه القيادة الشبابية ، تمثل في كسرها لحاجز الخوف ، الذي سيطر على عقل وقلب الجماهير الشعبية ، عقودا طويلة . وأشار غيرهم لهدم هؤلاء الشباب سدود خيارات المستقبل ، التي احتجزت نظم الحكم ، التي وصفت نفسها بالجمهورية ، الجماهير خلفها . احتجزت النظم جماهيرها خلف خيارات ثلاثة : إما نحن ، بما نحن عليه من ديموقراطية زائفة ، حقيقتها ملكيات مستبدة ، في ثوب جمهوريات فاسدة ، وإما الفوضى ، أو دولة دينية ، تعيد ا لعباد والبلاد إلى عهود ، ولى زمانها منذ أمد طويل ، متمثلة في خلافة أفغانستان ، وأمير المؤمنين الملا عمر ، ومساعده بن لادن ، أي حكم الجماعات التي ترفع شعار: الإسلام هو الحل .
وفي وقت بدا لقوى سياسية مخضرمة ، أن لا مخرج من بين هذه الخيارات ، واتسمت نظرة بعضها للمستقبل ، وفعلها على الأرض بالتالي ، بالكثير من التشاؤم ، تجلت عبقرية هؤلاء الشباب ، في رفضها ، والقول بخيار رابع هو : ديموقراطية حقيقية ، غير زائفة ، تحقق للناس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية .
وكان قد فات على المتابعين للشأن العام ، أن هؤلاء الشباب الذين وصفوا بشباب الفيس بوك ، على سبيل التقليل من شأنهم ، قبل التندر بهم والتهكم عليهم ، هم شباب ملكوا إمكانية وقدرة الاطلاع ، على ما يجري خارج حدود بلدانهم ، وعلى مساحة العالم الشاسع من حولهم . إمكانية وقدرة وفرتها لهم ثورة الاتصالات والمعلومات ، بتكنولوجياتها العصرية التي يجيدون استخدامها ، والتي ما زالت بعيدة عن متناول أجيال المناضلين السابقة . وسائل التواصل الاجتماعي ، التوصيف اللائق والجميل والمستحق بعد ثورات الشباب العربي ، الفيس بوك ، التويتر واليوتيوب وغيرها . المهم أن تواصل الشباب هذا مع العالم ، واطلاعهم على تجارب الشعوب وخياراتها ، ونجاح بعضها في تحقيق خيارها البديل ، أمدهم بالقدرة على رفض خيارات النظام الحاكم ، وطرح خيارهم البديل : ديموقراطية حقيقية غير زائفة . ديموقراطية تنزع قناع الجمهورية عن وجه الملكية الاستبدادي القائمة .
الجانب الآخر لعبقرية القيادة الشبابية ، بعد إمساكها بهذه الحلقة المركزية لمطالب وأهداف الثورة ، تمثل في امساكها باللحظة المناسبة لانطلاقة الثورة . في مصر كان توقيت عيد الشرطة الموافق ل25 يناير / كانون الثاني ، هو هذه اللحظة المناسبة . وكان قبل هذه وتلك ، ذلك الاستخدام العبقري لوسيلة الاتصال الحديثة ، الفيس بوك ، في التعبئة والتنظيم ، وفي الذوبان بين الجماهير الواسعة ، والاختفاء عن عيون أجهزة الأمن اليقظة ، وفائقة القدرة .
نشوة النصر :
لكن وبعد تجلي كل هذه السمات العبقرية ، لقادة الثورة ، وقعت للمتابعين للشأن المصري ، تلك المفاجأة غير السارة من قادة الثورة . صحا المتابعون ، صبيحة يوم 12 شباط – فبراير ، التالي لتنازل مبارك عن عرش مصر ، على تغير ، بلغ حد الانقلاب ، في آداء قيادة الثورة ، الذي اتسم بالتميز المثير لأقصى درجات الإعجاب ، على مدار الثمانية عشر يوما السابقة . فجأة طوى الثوار أعلامهم ويافطاتهم وشعاراتهم ، وانسحبوا عائدين لبيوتهم ، مصطحبين معهم لجانهم الشعبية ، وسائر منجزاتهم الأخرى.
جاء الانسحاب صادما . كان أول سؤال قفز إلى لسان كل متابع : لمن سلّم الثوار الراية ؟ وتتالت الأسئلة من مثل : ماذا قصد الثوار بالضبط من الشعار " الشعب يريد إسقاط النظام " ؟ وإذا ما وضعنا هذا الشعار إلى جانب شعار " ارحل " ، وهما الشعاران الأكثر بروزا في ميادين الثورة ، فهل كان المقصود بإسقاط النظام ، الاقتصارعلى إجبار الرئيس على التنازل عن العرش ، والحيلولة بين أي مطالب من أسرته وبين العودة إلى اعتلائه من جديد ؟ وبعبارة أخرى : هل كان المقصود بإسقاط النظام ، الإطاحة بعائلة مبارك المالكة كلها ، وإسقاط حقها في مطالبة لاحقة بالعرش ؟
لو أن انجازات الثورة وقفت عند هذا الانجاز فقط ، لاستحقت اسم الثورة ، ولاستحقت كل تقدير وإعجاب أجيال المناضلين الذين مهدوا لها . هذا الانجاز أزاح عن كاهل الشعوب العربية كابوس المكيات الجمهورية ، الأشد رجعية واستبدادا من الملكيات المطلقة . انجاز فتح الطريق واسعا أمام الجماهير والتعرف على ، فإقامة ، نظم جمهورية حقيقية .
لكن قادة الثورة قالوا أنهم أرادوا تغيير النظام . التغيير الذي يبدأ بخطوة إسقاط الملكية الجمهورية . التغيير الذي يستبدل الديموقراطية الشكلية والزائفة ، بديموقراطية حقيقية . وهذه عملية صعبة ومستمرة ، كما تبين كل المؤشرات القائمة ، فضلا عن التجارب العالمية ، التي من الواضح أن شباب الثورة وقفوا عليها . هم إذن أنجزوا الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل ، بإجبار الملك الرئيس ، على التنازل عن العرش ، والاعتراف بانعدام حق ورثته في هذا العرش وأي عرش . إذن وقادة الثورة يعرفون أن مشوار الألف ميل لم يقطعوا منه غير ميل واحد ، وحتى مئة ميل ، وما زالت الطريق تمتد أمامهم طويلة طويلة ، وبها الكثير من العقبات ، يبرز السؤال :لماذا فاجأوا الجماهير بهذا الانعطاف في مسيرتهم الرائعة ؟ لماذا وكيف طووا راياتهم ، أنزلوا يافطاتهم ، سحبوا شعاراتهم ، وقفلوا عائدين لمنازلهم ، ومعهم انجازاتهم ، ومنها لجانهم الشعبية ، التي كان الشارع يحتاجها بشدة ؟ هل كان الأمر يتعلق بنقص في الخبرة ، بضعف في المعرفة ، أم هي نشوة النصر ، التي تمسك بتلابيب المرء ، فتشل العقل ، إثر تحقيق مثل هذا الإنجاز الضخم الذي تحقق ، بإسقاط ملكية مبارك المصرية ، وكل نظيراتها الملكيات الجمهورية العربية ؟ والأهم من كل ذلك لمن أوكلوا مهمات استكمال الثورة ، وتحقيق أهدافها ؟
الجارة تونس :
حين انسحب الثوار ، تاركين الميادين وعائدين إلى بيوتهم ، كانت حكومة أحمد شفيق التي عينها الرئيس ، تعبيرا عن صدقية نوايا الإصلاح ، هي القائمة على إدارة البلد . وكان الثوار يعرفون ، على الأقل، بعدم تعاطف هذه الحكومة مع مطالب وأهداف الثورة ، وبعدائية رئيسها وعدد من وزرائه تجاه الثورة . وكان واضحا لهم ، كما للمتابعين ، أن هذه الحكومة ستضع الكثير من العراقيل أمام الثورة ، وستمكن المطلوبين للثورة من ترتيب أوراقهم ، والإفلات من الملاحقة المحتملة ، وقد كان .
لقد قيل الكثير من أن الثوار ، في انسحابهم من ميادين الثورة ، وضعوا ثقتهم في الجيش ، وأوكلوا مهام تحقيق مطالب وأهداف الثورة لمجلسه العسكري . مبرر ذلك أن القوات المسلحة ، ومجلسها العسكري ، لعب دورا هاما في إنجاح الثورة ، وتحول إلى الشريك الأهم فيها . ولم تؤثر حقيقة أن الملك الرئيس ، في خطاب تنحيه ، أوكل مهمة إدارة شؤون البلاد ، وبعبارة أخرى نقل صلاحياته ، إلى هذا المجلس . كما لم تؤثر في قرار قيادة الثورة ، حقيقة أن رئيس المجلس العسكري ، كان حتى تلك اللحظة ، وزيرا للدفاع في وزارة أحمد شفيق ، التي تتولى فعليا إدارة شؤون البلاد .
وكان مثيرا للانتباه والاهتمام ، أن الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في الثورة ، لم تعترض بحزم على هذا الانعطاف في فعل قيادة الثورة . ومن اعترض منها جاء اعتراضه مترددا ، خافتا وغير مسموع . ولو أن قادة الثورة ، والأحزاب والقوى المشاركة ، التفتوا لما يجري على يمينهم ، في تونس ، لقاموا بالعد حتى المائة ، وليس إلى العشرة ، قبل تقرير إحداث هذا الانعطاف .
في تونس كان الثوار أيضا قد انسحبوا من الميادين ، عائدين إلى بيوتهم ، بعد فرار الملك - الرئيس ، ولجوئه إلى السعودية . آنذاك زعم رئيس الوزراء أن بن علي كلفه بإدارة شؤون البلاد . وحكم لمدة يوم واحد ، لتنتقل الصلاحيات إلى رئيس البرلمان ، وكي يصار إلى انتخاب رئيس جديد خلال ستين يوما ، حسب الدستور ، لم يحدث حتى اللحظة . ولأن خطوات إصلاح كانت قد بدأت قبل ذلك ، استجابة لبعض مطالب الثورة ، أجرى رئيس الوزراء تعديلات على وزارته ، مكن بموجبها أحزاب معارضة من المشاركة ، لكنه احتفظ بكل الوزارات السيادية في أيدي قياديين من حزب بن علي الحاكم . تنبه الثوار إلى واقع أن هكذا تشكيل للحكم ، ليس فقط لن يعمل على تحقيق أهداف الثورة ، ولكنه سيضع الكثير من العراقيل في طريقها . عاد الثوار إلى الشارع ، لتلافي خطأ الخروج منه ، وتسليم زمام القيادة لغيرهم . لم تقابل هذه العودة ممن زعموا الحرص على العودة للاستقرار ، ودوران عجلة الاقتصاد ، وعودة السياحة ، مصدر الدخل الأساس للعملة الصعبة ، لم تقابل هذه العودة بالارتياح ، وقالوا فيها الكثير مما يتردد قوله في مصر . وأكثر من ذلك ووجهت هذه العودة بإجراءات عنف ، تجاوزت في حالات عدة ، نظيراتها في أيام الثورة الأولى .
لكن ما حدث أن شباب تونس ، وبالعودة لميادين الثورة ، استعادوا مقاليد القيادة ، وأجبروا القيادة الحكومية على تنفيذ المزيد من مطالب الثورة . ورغم أن القائم بأعمال الرئيس ، ورئيس الوزراء ، والوزراء الآخرين ، اضطروا ، تحت ضغط الشارع ، لإعلان انسحابهم من حزب بن علي ، حزب التجمع الدستوري الديموقراطي ، إلا أن قيادة الثورة لم تر ذلك كافيا . واضطر رئيس الوزراء لإجراء تعديل وزاري بعد آخر ، تحسنت فيه مواقع قوى المعارضة ، ثم كان حل الحزب الحاكم ، وحل البرلمان ، فإسقاط وزارة الغنوشي ، واستبدالها بوزارة أكثر قربا إلى الثورة .
أكثر من ذلك حدث في تونس ، قبل الانعطاف ، الخطيئة التي أقدمت عليها قيادة الثورة المصرية . وظلت العبرة الأساس في التجربة التونسية ، حدث أن تيقنت قيادة الثورة من أن الحكومة ، كانت ما كانت تركيبتها ، وكان ما كان تبني أعضائها ، كلهم أو بعضهم ، لمبادئ وأهداف الثورة ، لن تبادر إلى تحقيق المطالب ، ما بقيت خارج ضغط الشارع . لماذا ؟ لأن الحكومة ، وكل الأجهزة التنفيذية ، هم أذرع للثورة ، وليس قيادة لها . ومنذ استيعاب التوانسة لهذه الحقيقة ، لم تغادر الثورة ميادينها . ظلت قائدة وموجهة ، وانتزعت مكاسب للثورة ، تسعى الثورة المصرية جاهدة لبلوغ بعضها .
اختلاف الحال :
قد يقال هنا ، ولكن هناك اختلاف كبير ، بين ما جرى في تونس وما جرى لاحقا في مصر . فالثوار في مصر لم يعهدوا بمبادئ وأهداف ثورتهم لحكومة أحمد شفيق ، وإنما عهدوا بها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ، الشريكة في الثورة ، والتي كان لشراكتها ذلك الدور المعترف به في إنجاح الثورة . ذلك صحيح . ولكن القائلين به يذهبون إلى ما هو أبعد عن الحقيقة . يذهبون إلى القول بأن هذا الدور كان فريدا ، بين كل الثورات المعاصرة ، ومستمدا من وطنية القوات المسلحة المشهود لها به ، عبر تاريخها كله . ولهذا استحق مجلسها العسكري ثقة الثورة والشعب ، فالعهد له بقيادة الثورة . لكن هذا القول ، على صحته النسبية ، كان من المفروض أن يخضع لشيء من التمحيص والتدقيق .
باستعراض خمس من الثورات الشبابية العربية الجارية ، من حول مصر ، يمكن رؤية التالي : في تونس ، كما سبق وأشرنا ، نزل الجيش إلى الشارع بأمر من بن علي ، كما حدث في مصر ، ولكنه رفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين . وكان لموقف الجيش هذا أثره على بن علي واتخاذه قرار الفرار واللجوء إلى السعودية . ولكن ونظرا لوجود المؤسسات الدستورية ، غير المطعون بقوة في شرعيتها ، لم يعهد للجيش بدور ما في إدارة البلد . أما القول بقوة الجيش وضعفه ، فأداة القياس هنا القدرة على قمع الجماهير ، وهي أداة لم يستخدمها .
المثال الثاني من البحرين . فرغم أن الجيش هناك ضخم ، قياسا لعدد السكان ومعداته المتقدمة ، إلا أنه رفض تنفيذ الأمر بقمع الثورة . واحتاجت البحرين للاستعانة بقوى الجوار ، دول التعاون الخليجي ، ثم بالأردن الذي قامت قواته ، بعد استبدال لباسها باللباس البحريني ، بالدور الأساس في قمع الثورة ، هذا الدور الذي أهَّل الأردن للمطالبة بعضوية مجلس التعاون الخليجي .
وبالانتقال إلى اليمن ، نرى التالي : لا أحد مهتم بالشأن العربي لا يعرف الطبيعة القبلية لليمن ، وانعكاسها على جيشها . وليس ذلك فقط ، بل ويضاف إليه أن قيادات هذا الجيش تتوزع ليس فقط بين أبناء قبيلة الرئيس ، وحليفاتها ، بل وبين أبنائه وأبناء عمومته والأقربين خاصته . ومع ذلك ورغم مرور الشهور على الثورة اليمنية ، والانشقاقات في هذا الجيش ، وانحياز كتائب ، وحتى فرق كاملة للثوار ، بقي الجيش خارج نطاق الاستخدام ضد الجماهير المطالبة بإسقاط النظام ، أو ضد تلك المؤيدة للنظام .
بقيت سوريا وليبيا ، وحيث جرى زج الجيش في المواجهات مع الجماهير . وفي ليبيا ضيق القذافي الخيارات على الثوار ، الذين لم يجدوا سبيلا للفرار من الذبح ، غير اللجوء لطلب مساعدة أعداء البلاد التقليديين ، والطامعين في بترول ليبيا . وذات الأمر على ما يبدو ، قي طريقه للحدوث في سوريا . وليس أدل على ذلك من واقع لجوء قوى المعارضة للتجمع ، وعقد مؤتمراتها في تركيا ، الجارة الشمالية التي تميزت علاقاتها مع سوريا بانعدام الود ، وبالمشاكل الحدودية ، منذ سقوط الخلافة العثمانية ، وخروج سوريا من حكمها .
والآن وبالانتقال إلى المقارنة مع دور الجيش في الثورات المعاصرة ، نكتفي بمثال اندونيسيا . هناك ورغم ولاء الجيش غير المحدود للرئيس سوهارتو ، لكنه رفض أوامر إطلاق النار على الجماهير . وأكثر من ذلك وجد الجيش نفسه مضطرا لممارسة الضغط على سوهارتو ، وإجباره على النزول عن العرش في النهاية . وبسبب احتساب جماهير الثورة لدور الجيش هذا ، ساند الجيش حكومة نائب الرئيس بشار الدين يوسف حبيبي ، الإسلامي المعتدل ، الذي وضع الكثير من العراقيل أمام تحقيق مطالب الثورة . وفقط بعد سنة ونصف ، فاز حزب ميجاواتي سوكارنو ، الحزب الديموقراطي الاندونيسي ، في الانتخابات ، ولتقف ميجاواتي على رأس حكومة ائتلافية ، استأنفت مسيرة تطبيق مبادئ الثورة .
نخلص من ذلك كله لتقرير حقيقة تقول بأن دور الجيش المصري في الثورة ، وإنزال مبارك عن عرشه ، ليس فريدا ، حتى في الثورات المعاصرة ، وإلى الحد الذي يؤهل مجلسه العسكري ، كي تتنازل له قيادة الثورة عن دورها ، وتعهد له بمهامها .
كان ذلك كله عن دور الجيش ، ومجلسه العسكري الأعلى ، فماذا عن حكومة الثورة ؟ . بديهي أن أحدا لم يعتبر حكومة شفيق حكومة للثورة ، لا الجماهير ولا شفيق نفسه ولا أي من وزرائه . وربما بسبب مواقفه المعلنة ، وإجراءات حكومته غير المتوافقة مع مطالب الثورة ، رأت قيادة شباب الثورة ضرورة العودة للميادين ، في صورة مما وقع في تونس قبل ذلك . ولتوضيح العلاقة بين الصورتين ، دعونا نتوقف قليلا عند الواقعة التي عرفت بحادث ستاد القاهرة ، أو موقعة أبو جلابية ، كما اشتهرت في وسائل الإعلام .
كان ستاد القاهرة الدولي مسرح المباراة النهائية ، على كأس أندية أفريقيا ، بين ناديي الأهلي المصري والترجي التونسي . قرب نهاية المباراة التي قررت ذهاب الكأس للفريق التونسي ، وقع حادث شغب . وتطور الحادث ، على عكس ما يحدث في الملاعب ، إلى نزول الجمهور لأرض الملعب ، فالاعتداء على الحكام واللاعبين الضيوف ، وبالمرة على لاعبين مصريين . وبصعوبة بالغة جرى إنقاذ الضيوف من أيدي الغاضبين . وتطور الاعتداء ، بعد ذلك ، ليطول كل شيء في الستاد ، وحتى الحمامات والمغاسل والمراحيض لم تنج منه ، وقوات الأمن المتواجدة تكتفي بدور المتفرج ، فلا تفعل شيئا .
قيل الكثير ، وكتب الكثير عن حادث الشغب هذا ، الذي تكرر فيما بعد ، وبإيراد شواهد أنه كان مدبرا . ورغم المعلومات الموثقة ، وطول المدة ، لم تعلن نتائج للتحقيقات ، إن حدثت ، ولم تعلن إدانة ، ولم يقدم أحد للعدالة .
ذهبت التحليلات ، في المقالات الصحفية ، والحوارات التلفزيونية ، مذاهب شتى . لكن أيا منها لم يتوقف وقفة فاحصة ، مدققة ، وإن مر بعضها سريعا ، على مغزى استهداف فريق تونسي شقيق ، في هذه الفترة الزمنية الفاصلة في تاريخ الثورتين . لقد كان واضحا للجميع أن شباب الثورتين يستلهمان ، الواحد من الآخر ، خبرات التجربة الثورية . وكان واضحا ، لكل متابع ، أن هذا التبادل ، أو الاستلهام للتجارب ، يحسن الأداء ، ويجعل فعل ضغط الميادين ، على الحكومات ، يعطي نتائج أفضل . والاستنتاج المنطقي والمقبول ، أنه كان مؤملا للفاعلين ،أن توقف موقعة أبو جلابية هذا التفاعل المتبادل . وإذا كان الأمر غير ذلك ، فلماذا جرى إسدال ستار الصمت على هذا الحادث ، الذي كان كبيرا بكل المقاييس ، ولم تظهر أي نتائج للتحقيق فيه ، رغم المعرفة المؤكدة بكل تفاصيله ؟
إذن وقد عادت الجماهير إلى ميادين الثورة ، تحقق انجاز إسقاط حكومة شفيق ، ورفعت الجماهير واحدا من مناصري الثورة ، هو الدكتور شرف إلى سدة رئاسة الوزارة . وفيما يبدو رأت قيادة الثورة ، بفعلها هذا ، أن الحكومة غدت حكومة الثورة . وهكذا ومن جديد ، وفي إعراض عن التجربة التونسية ، طوت القيادة أعلامها ، وعادت منسحبة إلى بيوتها ، موكلة لحكومتها مهام تحقيق أهداف الثورة . ولم تنتبه إلى حقيقة أن الرئيس الذي اختارته ، ورث ، في واقع الأمر حكومة شفيق بتركيبتها ومواقفها المعلنة ، وغير المتفقة مع مبادئ الثورة . وهكذا عادت المكاسب التي تحققت إلى التباطؤ في التنفيذ ، وعاد وضع العراقيل أمام تقدم الثورة إلى التصعيد . ومن جديد اضطر الثوار للعودة إلى الميادين ، ورفع مطالبهم ، والضغط على الحكومة والمجلس العسكري . ولأن الضغط كان شديدا بعد جمعة 8 تموز- يوليو ، تحقق الإقرار بالعديد من هذه المطالب . وفي تحليلات الكتَّاب ، وحوارات الندوات ، تكرر السؤال : لماذا يستجيب المجلس العسكري ، وتستجيب الحكومة ، تحت الضغط ، لتحقيق المطالب ، ولا يبادر أي منهما إلى ذلك ، وفي الوقت المناسب ، ودون ضغط ؟
الرأس والأذرع :
تعددت الإجابات على هذا السؤال ، وقلة منها أشارت إلى الإجابة الصحيحة ، التي ضاعت وسط الصخب القائم . إن نظرة سريعة على ما يحدث في تونس ، وفي مصر ، جراء ضغط الميادين ، تكشف بوضوح ، أنه عندما يحضر الرأس ، ويصدر أوامره ، تتلقى الأذرع هذه الأوامر ، وتسارع إلى التنفيذ . وفي غياب الرأس ، تبقى الأذرع غير قادرة على المبادرة ، وتستمر في تأدية الوظائف التي كان الرأس قد حددها في وقت سابق . ويوظف مناوئو الثورة عامل الوقت في إضاعة المكاسب ، وفي وضع الجديد من العقبات .
لقد أثبت سير الأحداث أن المجلس العسكري ، على أهمية دوره ، لم يكن ، وغير قادر على أن يكون ، قائدا للثورة ، وبالتالي مسؤولا عن تطبيق مبادئها ، وتحقيق أهدافها . والأمر ذاته ينطبق على الحكومة . ولا يغير من الأمر شيئا كون رئيسها قد قدم من ميدان الثورة ، ورفعه الثوار إلى سدتها . فمواصفاته كشخص ، وكثوري ، لا تؤهله لهذه المهمة . وعدم التأهيل لهذه المهمة لا يعود إلى عيب فيه ، أو في المجلس العسكري ، وإنما إلى ما هو بنيوي وموضوعي في الثورة ذاتها .
الثورتان التونسية والمصرية لا تنتميان إلى جيل الثورات : الفرنسية ، البلشفية الروسية ، الصينية والكوبية ، ومثيلاتها ، التي يعشق الكتاب والمحللون المرور عليها ، مرورا خاطفا ، إن جنحوا للمقارنة . عرفت تلك الثورات قيادات سياسية ، تشربت مبادئ وأهداف الثورة ، وبلورت أساليب وآليات تطبيقها ، عبر مسيرة ثورية طويلة ، سبقت الثورة ، وتأصلت في خضم معاركها . ومن اللحظة الأولى لنجاح الثورة ، تسلمت هذه القيادات مقاليد السلطة . وقفت على رأس الوزارات ، ومؤسسات الدولة المختلفة . وتحت قيادتها ، وبتوجيهاتها المباشرة ، جرى تطبيق مبادئ الثورة ، وتحقيق مطالب جماهيرها . وقامت هي ، بعيدا عن وكلاء ينوبون عنها ، بمعالجة كل المستجدات ، وإزالة العراقيل التي تعترض مسار الثورة . وبديهي أن فعل هكذا قيادة تجاوز روتين العمل المؤسسي ، إلى الظهور المستمر والمتواتر في ميادين الثورة ، بالرد على استفسارات الجماهير ، وتوضيح ما استغلق عليها فهمه ، واستثارة حميتها ، وحفز مبادرتها ، لإيجاد حلول للمشكلات المستجدة ، وأخيرا التعبئة المستمرة على تطبيق مبادئ الثورة ، والوصول إلى تحقيق أهدافها . وقيادات الثورتين التونسية والمصرية لا تملكان أيا من هذه المواصفات ، نظرا لاختلاف طبيعتهما . وهما لذلك احتاجتا لوكلاء يحملون عنهما عبء تنفيذ مهام الثورة . ولأن الوكيل لا يفعل شيئا غير ما قرره له الموكل ، فإنه يقع في باب السذاجة السياسية ،التصور بأن فعل هذا الوكيل سيتسم بروح المبادرة . ذلك ما يفسر أن الوكيلين ، المجلس العسكري ، ورئاسة الحكومة ، يواصلان الانغماس في العمل الروتيني القائم على توجيهات سابقة ، دون أن يبادرا للتفاعل مع الأحداث المستجدة ، أو يسبقاها بقرارات وإجراءات تحول دون وقوعها .
كمراقب من بعيد ، تفاءلت خيرا بتكليف رئيس للوزراء من ميدان التحرير . ولأنني ، من هذا البعد ، لا أعرف شيئا عن مسيرته السياسية ، أملت أن يكون واحدا من القادة الذين تفرزهم الثورات الحديثة . واتسع نطاق تفاؤلي بعد أن اتخذ نهجا ، تحدد بأن يطلع أسبوعيا على الجماهير، يطلعها فيه على المنجزات ، ويحثها على مواجهة العقبات ، ويحفزها للحفاظ على المكتسبات . لكن لفتت انتباهي ، وهو يقوم بدور قائد الثورة ، لهجته الناعمة ، وأدبه الجم ، ولطف إشاراته وإيماءاته ، وفي ذات الوقت بطء استجاباته ، للتفاعل مع حوادث كبرى ، كحادث قنا ، الذي قطع فيه الأهالي جسد البلد إلى نصفين ، ولأيام عدة . ثم لحوادث استدعت فتنة طائفية لأن تطل برأسها ، وحيث ترك هو ، كما المجلس العسكري ، لمثيريها مهمات حلها . واتضح أن الرجل ، بكل نزاهته ووطنيته وإخلاصه ، لا يصلح قائدا لثورة ، وإن كان يصلح ، وحكومته ، كذراع تنفيذي لبرنامج ومخطط وتوجيهات قائدها الفعلي .
ولم يقتصر الأمر على شخص رئيس الحكومة ، بل تجاوزه إلى أن هذا الرئيس ورث حكومة سلفه ، بما تضم من وزراء لا تتفق آراؤهم ورؤاهم وأجنداتهم ، مع الثورة ومبادئها . وبدل أن تعمل حكومته على تنفيذ برامج الثورة ، عملت على تعطيلها ، وعلى وضع ، ليس فقط ، كل المعوقات في طريقها ، بل والتمهيد للردة عليها . وهكذا وضح للثوار ، بعد ضياع الكثير من الوقت ، أن حكومة الثورة ، بتركيبتها الموروثة من حكومة شفيق ، لا تصلح حتى ذراعا للثورة .
ولغريب الصدف ، هكذا على الأقل رأى بعض قادة الثورة ما آل إليه الحال ، لم يكن حال المجلس العسكري بأفضل من حال الحكومة . صحيح أن المجلس العسكري شريك وليس وكيلا ، كما يحب هو أن يصنف نفسه ، لكنه ليس شريكا مؤسسا . بمعنى أن الشراكة حصلت قرب الخاتمة وليس من البداية . وهذه مسألة جوهرية لمن يعلم . فهم ، لمن لا يعلم ، مثلهم مثل رئيس الحكومة ، لم ينصهروا في أتون الثورة ، ولم تصبح مبادئها وأهدافها مسألة حياة أو موت لهم ، كما هي لقادة الثورة ، أي ثورة . وفوق هذا وذاك لم يتسلموا دفة إدارة البلد بتوكيل من ميدان الثورة ، وإنما بتكليف من الرئيس المخلوع . والمراجع لسجل المشير ، رئيس المجلس الأعلى ، لا يعثر فيه على ميل لنشاط أو توجه سياسي ، رغم أنه شغل منصب وزير الدفاع منذ العام 1990 ، أي لأكثر من عشرين سنة ، ترفع خلالها ، وفي فترة قصيرة ، مرتين متتاليتين ، فريق ثم مشير . قد يقال أن منصبه حتم عليه عدم التدخل في السياسة ، رغم أنه منصب سياسي في كل بلاد الدنيا ، وبالتالي حتى عدم إظهار مشاعره تجاه ما يحيط به من مظاهر الفساد . وقد يكون ذلك صحيحا . لكن الصحيح أيضا أن من عاش هذا الروتين ، كل هذا المسار الطويل ، لا يمكنه أن ينقلب فجأة إلى شخص يشتعل بالحماس ، ويتصف بالمبادرة ، ويندفع بالسرعة الملائمة ، لمعالجة المستجدات ، وهي أدنى متطلبات قيادة ثورة . ولعلنا نسأل : هل يمكن لشخص تعايش مع أناس مثل هذا العمر الطويل ، ولم يعرف عنه رفض لمسالكهم ، أو نفور من تصرفاتهم ، أوعدم رضا عن أفعالهم ..... ألخ، أن يقلب لهم ظهر المجن ، فيسارع إلى دفعهم إلى مهالكهم !!!! أظن ، وليس كل الظن إثم ، أن ذلك ، ومن ناحية إنسانية بحتة ، غير ممكن .
الرأس واستعادة الدور :
في وقت سابق ، وفي لقاء حواري على فضائية دريم 2 ، صنَّف أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ، هو د. مراد وهبة ، إن لم تخني الذاكرة ، ما وصفه بخيانة المثقفين ، كأحد أهم العقبات التي تعترض الثورة ، واعترضت مصر في العهد الماضي ، وتواجهها في الحاضر والمستقبل . والمتابع لحوارات الفضائيات ، ومقالات وتحليلات الخبراء والكتاب ، يلمس وبوضوح ، صدق توصيف هذا الأستاذ العظيم .
هناك قول شائع ،على ألسنة هؤلاء المثقفين ، ومستحسن فيما يبدو عند كثيرين ، أن أحد أهم سمات ، أو ميزات ، الثورة ، أنها بلا رأس ، أي بلا قائد ، شخص ، له كاريزما ، يجتمع حوله كادر الثورة ، ومؤهل لأن يتقدم ويحتل موقع قيادة الدولة ، رئاسة الحكومة ، ورئاسة الدولة . ويقول رأي آخر أن هذه الميزة ، تشكل في الواقع ، أحد أخطر مقاتل الثورة . ويتفق الرأيان على حقيقة أن لا رئيس الوزارة ، ولا رئيس المجلس العسكري ، بقادر على ملء هذا الشاغر . وأن متطلبات الثورة ، ومسارها الراهن ، يؤشر بقوة إلى ضرورة ملئه . وعليه فالأمل في الانتخابات القادمة ، بشقيها البرلماني والرئاسي ، ليصبح لمصر رأس ، وإن لم يكن بالضرورة من كوادر الثورة .
يستدعي هذا القول ضرورة النظر إلى حقيقتين : أولاها حاجة مصر الملحة ، إلى رأس لقيادة الثورة ، في الفترة الزمنية القصيرة القادمة ، والحاسمة في مصير الثورة ، ومسألة بلوغ مصر بناء ديموقراطية حقيقية ، الهدف الأكبر للثورة . والثاني أنه على كثرة ما شهد مسار الثورة من مصاعب وعقبات ، فعثرات وتعرجات ، لم يبرز من بين قوى وحركات مصر السياسية ، من استطاع تشخيص الأسباب لما حدث ويحدث ، ومن ثم طرح حلول ناجعة لها . كما لم يبرز على الساحة من يمتلك رؤيا مستقبلية ، نجح في إيصالها للجماهير كي تتبناها ،وكي تمنحه ثقتها من خلال صناديق الاقتراع ، ومن ثم ليطمئن الناس أن أزماتهم في طريقها إلى الحل ، بعد أن يتسلم هذا الطرف زمام القيادة . وعلى العكس تماما ، لا تفعل القوى التي يتوقع أن تحملها صناديق الاقتراع إلى سدة القيادة ، شيئا ملموسا للمساعدة . وأكثر تعد الجماهير بالمزيد من المعضلات التي ستمسك ، في حال وصول هذه القوى لسدة الحكم ، بخناق الفترة القادمة .
من الناحية الأخرى أعلن كثيرون عن نيتهم الترشح للرئاسة . وعلى كثرة ما شهدت مصر من متاعب ، وما وقع فيها من مشاكل ، ارتأى المرشحون المحتملون ، بديلا لدور ثوري مطلوب وبقوة ، المحافظة على دور المشاهد المراقب ، وإن فعلوا شيئا ، التزموا بدور المحلل أو المعلق السياسي لا أكثر . على الأقل هذا ما وقفت عليه من متابعاتي ، التي هي ، ربما غير كافية . لكن ، ما وقع في مصر ، على مدى الشهور الماضية ، وما سيقع في الشهور القليلة التالية ، حتى ختام الانتخابات ، قدم سلسلة من الفرص الذهبية ، لإظهار المهارات السياسية ، والكفاءات والمؤهلات القيادية ، على الأقل لواحد أو اثنين ، أو أكثر منهم ، تكفل الحصول مسبقا على جماهيرية كاسحة ، تحمل صاحبها لسدة الرئاسة .
قد يقال ولكن الأطر المنظمة لعملية السباق ، تحول بين المتسابق وبين الإسراع إلى بؤر المشاكل ، وعرض حلوله لها ، وحمل المتشابكين على قبولها . فهو لو فعل ذلك يحسب له كدعاية انتخابية . وقد يكون ذلك صحيحا ، لو أنه كان مرشحا بالفعل . ولكن المرشحين ما زالوا مرشحين محتملين . وفي الثورة لا يحول احتمال الترشيح دون الفعل الثوري . ولأن المرحلة القادمة تحتاج رئيسا ثوريا ، فإن اقتناص الفرص التي سبقت ، والتي ستأتي ، سيكون الكاشف لهذه الشخصية القيادية الثورية ، وليس البرنامج الذي سيتقدم به ، وتعده مجموعة من الخبراء المحترفين . وأكاد أجزم ، أن لسان حال المرشحين المحتملين كأنما يقول : يا مجلس عسكري ، ويا حكومة ، مهدوا لنا السبيل ، أزيلوا كل المعترضات ، حتى نحكم عندما نصل . وليس هذا ما تصبو إليه الجماهير ، وليس بالمبشر على أن الحلول قادمة ، مع انتهاء الفترة الانتقالية الحالية .
خلصت قوى الثورة إذن ، واستنادا لنتائج الأحداث التي وقعت ، إلى وجوب عودة رأس الثورة لممارسة مهام القيادة . كان هذا الرأس قد تبادل مواقع الغياب والعودة أكثر من مرة . وفي كل عودة كانت الحكومة ، وكذلك المجلس العسكري ، يسارعان إلى الإعلان عن الالتزام بالتوجيهات ، والمباشرة في تلبية المطالب . ثم يعود الحال إلى المماطلة والتباطؤ ، بعد الانسحاب فالغياب . وبعد آخر عودة ، جمعة 8 يوليو – تموز ، قررت قوى الثورة هجر رأسها للانسحاب فالغياب ، ومن ثم يتوجب عليه مباشرة مهام القيادة ، أي مواصلة التواجد في الميادين . وسريعا جاءت النتائج مذهلة . تحرك الذراعان ، وصدرت قرارات ، حدثت تغيرات ، اتخذت خطوات ، اعتبرت مذهلة ، قياسا إلى الفترات التي سبقتها . سرعة وقوة الحسم هذه ، أكدت من جديد على ضرورة بقاء رأس قيادة الثورة حاضرا وممسكا بزمام الأمور وفاعلا .
بديهي أن تستشعر قوى كثيرة ، على رأسها تلك المضادة للثورة ، الخطر . ولم يكن الأمر ، وهو يتميز بكل هذا الوضوح ، يحتاج ، من هذه القوى ، إلى الكثير من إعمال العقل ، فالتدبير . فلاستثمار فعل المعوقات التي وضعت ، يتوجب استعادة الوضع السابق . وضع غياب الرأس ، وترك الأمور في عهدة الذراعين . ولأن العودة الأخيرة للرأس حملت معها إجراءات وتطورات ، قد تعصف وتزيل كل ما اجتهد المناوئون في وضعه من معوقات ، كان أن رأوا وجوب أن يكون غياب الرأس نهائيا هذه المرة ، أو شبه نهائي على أقل تقدير . كيف؟
قبل العودة الأخيرة للميادين ، كان الغضب من العوائق التي كدسها ذراعا الثورة ، قد بلغ مداه . وكان التباطؤ في ملاحقة رموز النظام السابق ، وقتلة الثوار ، أبرز هذه العوائق . وكان طبيعيا أن يعصف هذا الغضب ببعض العقل ، وأن يظهر بعض الشطط في التعبير عنه . واهتبل مناهضو الثورة ، هذا الخلل الذي أحدثه الغضب في عقل الثورة ، لشن حملة الإقصاء التي رأوا أن فرصتها سانحة .
تعلمنا التجارب الثورية أن الجماهير تقبل وتغفر ، في الظروف العادية ، كما في الظروف الثورية ، زلات ، وحتى أخطاء ، من لا يحملون على كواهلهم مسؤوليات وعبء التغيير ، ولكنها لا تقبل ، ولا تغفر ، وتعاقب ، على زلات أقل بمائة مرة ، ممن يتصدون لحمل مهام التغيير ، هؤلاء الذين يعرفون بالثوار ، أو بالمناضلين ، أو السياسيين .... الخ . وهكذا أمسك مناهضو الثورة بالأخطاء التي أفرزتها حالة الغضب ، ونفخوا فيها ، مستهدفين إقناع الجمهور بتراجع حصافة قيادة الثورة ، وبخطرها على مستقبل البلد ، ومن ثم فقدانها لصلاحية دور القيادة ، فضرورة استبعادها من المعادلة . وهذا بالتحديد ما شكل الخطر الذي استشعره محللون مصريون كثر ، والذي ينذر بانتكاسة الثورة ، والعودة إلى أسوأ مما كان قائما قبلها .
في مثل هذه الحالة ، تغيب قدرة الجمهور على وقفات التفكير المتزن ، المراجعة ، والمقارنة ، أو ما يوصف بهيمنة الذاكرة القصيرة على المشهد . مثلا ظل يجري تحميل مسؤولية حالة التذبذب في البورصة المصرية ، إلى التواجد المتصل للثورة في الميادين ، وإلى الإعتصامات التي انبثقت عنها . حدث هذا دون أن يكلف متلقي ، أو صحافي ، أو حتى محلل سياسي ، خاطره بمقارنة ما يجري في البورصة المصرية ، مع ما يجري في البورصات العالمية ، أو البورصات الخليجية ، والتي تمسك بها جميعا حالة التذبذب ، وربما بأشد مما تشهده البورصة المصرية . والأمر ذاته ينطبق على القضايا الأخرى . فربما أخطأ الثوار بإغلاق مجمع التحرير ، وهو المجمع المكون من ثلاثة عشر طابقا ، وتتركز فيه الإدارات الحكومية ، ويعطل إغلاقه إتمام معاملات مراجعيه . وعلى كثرة ما تم التركيز على الضرر الذي يسببه الإغلاق لجمهور المراجعين ، لم يتكرم أحد ، حسبما قرأت وشاهدت ، بمقارنة ذلك مع الضرر الذي ألحقه قطع خطوط السكة الحديد ، وتمزيق جسد مصر ، والذي استمر عشرة أيام في قنا ، اعتراضا على تعيين محافظ ، وتكرر مرات بعد ذلك في مواقع أخرى ، وبتحريض من مجموعات سلفية ، تدعي الحرص على الصالح العام الآن . وتجاهل الذين يزعمون أن الاعتصامات في الميادين تؤخر عودة الاستقرار ، وتلحق الأذى بالاقتصاد ، وتعيق عودة دوران عجلة الإنتاج ، ما فعلته أحداث إشعال الفتنة الطائفية ، وتهديدها بحرق البلد كله . وتناسوا ، وفي واقع الحال غفروا لمشعلي تلك الحرائق جرائمهم ، وقبلوا ادعاءاتهم بالحرص على مستقبل مصر ، (الذي تهدده اعتصامات الميادين !!!!)، رغم أنها لا تقطع سبيلا ولا تعيق مرورا . وإذا كان الشطط الذي أفرزته حالة الغضب ، قد دفع ببعض المجموعات للتهديد بقطع طريق ، فقد كانت عمليات القطع ، من جهات عدة ، لكن غير مرتبطة بالثورة ، قد تكررت مرات ومرات قبل ذلك .
وتبقى مسألة التهديد بوقف الملاحة في قناة السويس . فرغم توضيح الخبراء لانتفاء قدرة أي طرف على إغلاق القناة ، ورغم إعلان قيادات في الثورة ، مرة بعد أخرى ، رفضهم القطعي ، حتى لمجرد التلميح ، بخطوة كهذه ، ونفيهم القاطع لصدورها عن أي طرف منهم ، والاستعداد لمواجهتها بكل عزم وحسم ، إن حاول أحد الإقدام عليها ، رغم كل ذلك تواصل جهات عدة تحريض الجمهور على الثورة ، وكأنها نفذت هذه الجريمة الكبرى بالفعل . ولعل متابعا لا يعرف مدينة السويس ، ومدخل القناة فيها، يسأل : كيف يمكن لجمهور ، مهما عظم تعداده ، إغلاق القناة من مدخلها في السويس ؟ هل سيفعل ذلك من خلال السيطرة على مباني الإدارة ؟ وكيف يفعل ذلك والجيش الثالث متواجد في المكان ، وأحد مهامه تأمين انسياب الملاحة في القناة ؟ ألا يستطيع الجيش ، وحالة الطوارئ ما زالت قائمة ، أن يعلن المنطقة منطقة عسكرية مغلقة ؟ ألا يستطيع أن يمنع بالقوة وصول أحد إلى القناة ، هذا جنت قيادة الثورة في السويس ، ولجأت لاتخاذ هكذا إجراء ، بهدف الضغط على الحكومة والمجلس العسكري كما يقال ؟ وهل يلومنَّ أحد الجيش إن استخدم العنف وقمع المحتجين ، في حال وقوع هذا الفعل ؟
لقد كادت هذه الحملة على رأس الثورة أن تؤتي أكلها . وأظن أن كثيرين وضعوا أيديهم على قلوبهم ، توجسا مما قد يحدث . وارتفع نبض القلوب مع متابعة أحداث العباسية ، الأحداث التي تمثل الجزء الخطر منها ، في تصدي أهالي الحي ، واعتدائهم على المتظاهرين . وتسارع النبض أكثر مع تصاعد لهجة التخوين ، التي أخذت منحى خطرا بصدور بعضها عن جنرالات من المجلس العسكري .
لكن قيادة الثورة صمدت ، كما هو حال كل قيادة متمرسة ، في وجه كل ذلك . واصلت التواجد في الميادين . وواصلت توجيه ذراعي الثورة ، وحفزهما على الفعل . وانتزعت الثورة مكاسب كبيرة ، بسلسلة القرارات والإجراءات الصادرة عن كل من الحكومة والمجلس العسكري . لكن الكثير من العمل ما زال ينتظر ، وفي المقدمة إعادة بناء أجهزة الأمن ، فاستعادة الاستقرار ، وهو موضوع حديث لاحق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة :كارثة في الأفق ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مطعم في لندن طهاته مربيّات وعاملات نظافة ومهاجرات.. يجذب الم




.. هل تمتلك السعودية سلاحًا نوويًا؟| #التاسعة


.. روسيا تحذر...العالم اقترب من الحرب النووية!| #التاسعة




.. رئيس الاستخبارات الأميركية يلتقي نتنياهو لإنقاذ المفاوضات وم