الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأزمة المالية العالمية- أبعادها وآثاها- مع إشارة خاصة لآثاره، في التجارة الدولية، على الدول النفطية

كامل كاظم العضاض

2011 / 7 / 30
العولمة وتطورات العالم المعاصر


ملحق القسم الثالث والأخير

الأزمة المالية العالمية د. كامل العضاض
أبعادها وآثارها
(مع إشارة خاصة الى آثار طبع الدولار، في التجارة الدولية، على الدول النفطية)
تمهيد:
لقد وردت تعليقات عديدة على الأقسام الثلاثة لهذا المقال في مواقع مختلفة وفي رسائل شخصية، وخصوصا منها التعليق أو التساؤل الذي سنخصّه بجواب عام ومحدد أيضا، و هو ذلك الذي تفضل بطرحه الأخ الأستاذ محمد البدري، في موقع الحوار المتمدن الأغر، حول ما جاء في مضمون القسم الثاث، بخصوص مسألة طبع الدولار وطبيعة العملية وآثارها على الدول، عموما، والنفطية الريعية، خصوصا. ولعدم وجود مجال للرد المفصّل نسبيا على نفس الموقع في الحقل المخصص لهذا الغرض، في الحوار المتمدن، ولخصوصية السؤال وعمقه وأهميته، نعتقد بأننا في الأقسام الثلاثة، وخصوصا الثالث منها، لم نقدم توضيحا وافيا او شافيا للموضوع، وهذا ما سنحاوله الآن في هذا الملحق للقسم الثالث، الذي كنا نعتقده الأخير، بجواب قد يأخذ حيّز مقال كامل، كملحق مستقل.
1. عملية ودور النقود في تبادل السلع، كحل لمشاكل المقايضة؛
2. الدفع بالورق، كالدولار، أي بالورق المعيّر بالذهب، أو بدون ذلك، كإسلوب أكثر نفعا وأيسر عمليا وأفضل وأكثر أمنا، مع بعض المخاطر؛
3. عوامل أدت وتؤدي الى "هلاك" الدولار أو إحتمال موته"، والآثار المترتبة على ذلك، عموما، وعلى الدول النفطية الريعية، كالعراق، خصوصا؛ وإجراءآت أمريكية ودولية لإنقاذ الدولار؟
4. خلاصة وتصورات أولية؛
1. عملية ودور النقود في تبادل السلع، كحلّ لمشاكل المقايضة؛
بعدما تمكنت الجماعات البشرية من الإستقرار والسكن المتجاور، تقاسمت العمل الإنتاجي، كالزراعة والصناعة وبناء الأكواخ ثم المساكن وغير ذلك من النشاطات. وكان يتعذر لأحد أو لمجموعة صغيرة من الناس، وقد تكون أسرة معينة، إنتاج كل ما تحتاج إليه لإشباع حاجاتها الضرورة لإدامة حياتها وتعايشها مع الآخرين، فلجأت، قبل إكتشاف النقود الى تبادل الفوائض لديها من بضائع وخدمات، مع آخرين لديهم من البضائع والخدمات التي يحتاجونها، وليس لديهم منها. ولم يكن هناك من سبيل لإجراء هذا التبادل إلا بالمقايضة. وبعد التجريب، وجدوا بأن للمقايضة عيوبا وفيها بعض الصعوبات، إذ يتوجب حملها، وقد تكون ثقيلة، وقد يصعب تجزأتها الى وحدات أصغر، كما قد يصعب حتى تقدير مقدار التساوي في قيمتها ما بين سلعة البائع والمشتري، كما وجدوا بأن ثمة مشكلة في حفظ السلعة المنتجة، حيث قد يحتاجها المشتري في وقت آخر. فقادت التجربة والحكمة الى إيجاد وسيلة أو مقياس لقيمة البضائع والخدمات المنتجة، بشرط أن تُستبعد منها عيوب المقايضة أو بعضها. ولجأوا الى ما يسهل حملة من مواد، كالحصى النادر أو المحّار الذي يستخرج من سواحل الخلجان والبحار، وليس من الأحجار المتوفرة على قارعة الطريق، وبذلك يضمنوا أن يكون الحصى والمحّار ينطويان على قيم تساوي الجهد المبذول لإستخراجهما. وهذا الجهد قد يقاس بمقدار المكابدة لإستخراجهما، أو بمقدار الساعات المبذولة لهذا الغرض، أوبمقدار ندرتهما النسبية. ومن هنا صار الحصى والمحّار في المجتمعات الأولية، وهي في طور التطور وسيلة لإجراء المبادلات بينها وبين البضائع وحتى الخدمات المراد شرائها. ولكن بقي في وسائل الدفع هذه، للبيع والشراء، مشاكل منها أنها غير متناظرة تماما من حيث الحجم والنوعية، ومنها ثقلها النسبي لتحقيق صفقات كبيرة، وقد يصعب خزنها وحمايتها، ومنها إحتمال توفرها بسهولة، حينما لم تعد نادرة، بما يسهل على البعض أن يلتقطها ويستخدمها للشراء والتبادل. فإهتدت البشرية الأكثر تحضرا ورقيا الى معدن الذهب و الفضة، وهذه معادن نادرة جدا، ولا تتلف، ولاتصدأ ، ويسهل حملها، كما تسهل تجزأتها ويسهل حملها وخزنها بكميات معقولة. وهكذا صار الذهب في معظم الحالات والفضة أحيانأ وكلاهما أحيانا أخرى، وسائل فاعلة، كنقود للتبادل، وأصبحت النقود تضرب بهذين المعدنين لقرون، وعبر حضارات إنسانية كبيرة، من العصر السومري في أرض الرافدين قبل 4000 سنة قبل الميلاد، مرورا بالحضارات اللاحقة ، اي الى زمن العهد العثماني، بل أن العملة المعدنية ظلت ولا تزال تُضرب حتى الوقت الحاضر، وإن قلّ إحتوائها على الذهب وزاد فيه معدن النحاس وشبه الفضة. وآية ما نود أن نخلص به من ذلك هو القول بأن النقود أو العملات المعدنية المسكوكة كانت من الذهب أو الفضة، أو من كلاهما. ولكن إستخدام أي من هذه النقود، وإن كان يتمتع بمزايا كبيرة، بالمقارنة الى ما سبقها من نقود، لكنها، مع ذلك عانت وتعاني من مشاكل، منها صعوبة حفظها بأمان وبعيدا عن السرقة والنهب، ومنها أنه يصعب تحميلها من أجل عقد صفقات كبيرة جدا، إلا بتأمين حمايات خاصة، والأهم من كل ذلك هو ندرتها النسبية الكبيرة، مما يجعل عمليات التبادل بطيئة ومحددة بمقدار توفر معدن الذهب أو الفضة أو كلاهما. وهكذا كان النشاط الإقتصادي والمالي محددا وبطيئا، فندرة هذين المعدنين كانا يحولان دون تحقيق معدلات أعلى مرغوب فيها من أجل النمو والإزدهار.
2. الدفع بالورق، كالدولار، أي بالورق المعيّر بالذهب، أو بدون ذلك، كإسلوب أكثر نفعا وأيسر عمليا وأفضل وأكثر أمنا مع بعض المخاطر؛
لقد تجلى بوضوح دور الدول الإستعمارية، كبريطانية، في توسيع آفاق التجارة العالمية بينها وبين مستعمراتها، وخصوصا مع الهند وغيرها في قارات العالم لإسباب بيّناها سابقا، وبسبب قيام ما سُمّي بالمذهب التجاري، Mercantilism))، الذي حضّ على البيع بالذهب، أكثر من غيره، مقابل سلع. وبعد قيام وتوسّع المذهب الحر في التجارة الدولية، إزدادت الحاجة الى الذهب والفضة في عقد الصفقات التجارية المتزايدة، بغض النظر عن مقدار التكافؤ فيها، بين الدول القوية الإستعمارية والدول الضعيفة، وغالبا ما تكون من الدول المُستعمَرة. وبموازاة الذهب أُستخدمت الكمبيالات التي هي تعهدات بالدفع بالذهب أو الفضة في موعد محدد بين البائع والمشتري، نظرا لإتساع حجم التبادل التجاري بين الدول في العالم. وإستمر هذا الوضع باشكال متنوعة ومتعددة من أساليب تسوية الديون والإستحقاقات، بالذهب أو الفضة او غيرهما من السلع والأصول، وحسب الإتفاقيات. ولكن الصراع الدولي على المصالح والموارد أدى الى نشوب حربين عالميتين، الأولى، خيضت أساسا في أوربا، والثانية، في أوربا، أيضا، ولكن بمشاركة الولايات المتحدة، كحليفة لدول الحلفاء الذين كان تقودهم بريطانيا، كما شاركت فيها المستعمرات البريطانية التابعة للتاج البريطاني، كإسترالية ونييوزيلندة والهند وغيرها. وفي عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث إتسعت المصالح، ونهضت، في أعقابها الولايات المتحدة، خصوصا، كاقوى وامتن إقتصاد ديناميكي يمور بالموارد، ويبشّر بفكر لبرالي وبحقوق الإنسان والديمقراطية، الى آخر هذه الطروحات اللبرالية التي تنادي بها الدول الديمقراطية الراسمالية التي تريد تجارة دولية حرة ومفتوحة، لأنها تهيمن، على النسبة الأعظم من الإنتاج العالمي الصناعي، وتملك نفوذا سياسيا يطال العالم، ( وذلك خارج نطاق الإتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية والصين، وبعض دول جنوب شرق آسيا). ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة الى تطوير النظام النقدي العالمي، ولحلّ مشكلة الندرة النسبية للذهب والفضة، من اجل تسريع وتعظيم التجارة الدولية، لاسيما وان أسواقا شاسعة بدأت تنفتح، بعدما نال الكثير من المستعمرات البريطانية وغير البريطانية السابقة إستقلالها، وخصوصا منها الدول الكبرى، بشريا وموارديا، كالهند وأستراليا. وعلى ذلك، تم في عام 1944 عقد أجتماع لمعظم قادة الدول الصناعية الكبرى آنذاك في بريتن وودز في نيو هامشير في الولايات المتحدة، لمعالجة هذا الوضع المقيّد للتبادلات التجارية الواسعة، وتدارسوه، بما يحافظ على القيمة المعيارية للذهب لعملات بلدانهم. وبما أن الولايات المتحدة كانت تهيمن على نصف إحتياطيات الذهب في العالم، وتشكل أكثر من نصف الطاقة الصناعية التحويلية في العالم كله، وان عملة الدولار الأمريكي مقوّمة بسعر؛ كل 35 دولار أمريكي يساوي أُونصة واحدة من الذهب وبشكل ثابت، لذا تقرر أن تَربط كافة الدول المشاركة عملاتها بعملة الدولار الأمريكي، أي أن سعر صرف عملاتها يقاس بسعر الدولار المقوّم بكمية محددة من الذهب. وعلى ذلك، فقد تقرر السماح للبنوك المركزية للبلدان المشاركة بالتدخل للحفاظ على سعر صرف عملتها بقيمة الدولار، فإذا عانت من فائض في ميزانها التجاري وقويَّ سعر صرف عملتها، تدخل البنك المركزي لبيع هذه العملة في السوق، بمقابل الدولار، بما يساعد على تخفيض قيمتها وجعلها مساوية لسعر صرفها بالدولار الأمريكي، وإذا حصل العكس، اي عانت من عجز في ميزانها التجاري، وإنخفض سعر صرفها بالدولار، عمدت الى شراء عملتها بمقابل الدولار، لتقليل عرضها، بما يعيد سعر صرفها الى وضعه المساوي الى سعر صرفه بالدولار الأمريكي، مرة أخرى، وهكذا كان يمكن تثبيت سعر صرف العملات بمعيار الذهب، بصورة غير مباشرة، بإستخدام الدولار المريكي المثبّت سعر صرفه بالذهب. وبهذا التحوّل اصبح الدولار الأمريكي يعتبر عملة مرغوبا بها عالميا، وبالتالي صار إحتياطيا لعملات الدول المشاركة في التجارة الدولية، وهذه إتسعت لتشمل جميع بلدان العالم اليوم. بيد أن التطورات اللاحقة في الإقتصاد الأمريكي أدت الى نشؤ الأزمة المالية العالمية والتي كان لابد أن تمتد الى خارج الولايات المتحدة، وخصوصا شركائها الأقل "رصانة" إقتصاديا، في الأتحاد الأوربي، كاليونان والبرتغال وإسبانيا وإيرلندة، والى حد ما إيطاليا. كما خيّم أحد أهم آثار الأزمة على الدول الأخرى التي لها إحتياطات وإستثمارات، كإمتلاك سندات الخزينة الأمريكية، وإدخارات بمليارات، واحيانا ترليونات الدولارات في الولايات المتحدة، وفي مصارفها الوطنية والأجنبية. فماذا تفعل هذه الدول لو سقط الدولار وإنتكست قيمته في سوق العملات؟ وكنا قد بيّنا هذا الموضوع، في الأقسام السابقة من هذا المقال ولا نرغب في إعادة التفصيل هنا. ولكن نود أن نبين بنقاط محددة كيف أدى نشؤ الأزمة الى تهالك قيمة الدولار الأمريكي في السوق العالمية، وآثار ذلك على الدول النفطية الريعية التي تبيع نفطها الخام بالدولار الأمريكي، الى الولايات المتحدة، بنسبة أكبر مما الى بقية دول العالم، وتملك الى جانب ذلك إحتياطياتها بالدولار الأمريكي، فضلا عن أموالها الدولارية المليارية المكدّسة لدى مصارف الولايات المتحدة؛
أ‌. يكمن وراء الأزمة المالية التي أندلعت في الولايات المتحدة منذ منتصف عام 2007، حتى الوقت الحاضر، تعاظم الدين العام، من جهة، والعجز في الميزان التجاري والدين الخارجي، من جهة أخرى، أذ بلغ الدين العام، حاليا، اكثر من 14 تريليون دولار، أما الديون الخارجية، فبلغت ما يقارب 3 تريليون دولار، والعجز في الميزان التجاري قيد يصل الآن الى 2.5 تريليون دولار. لقد اشرنا الى الأسباب سابقا، وقد ننوه بها لاحقا.
ب‌. أن النظام المصرفي والإئتماني، ومصارف ومؤسسات الرهون العقارية والتأمين بأنواعه، في الولايات المتحدة، خصوصا، وفي دول الإتحاد الأوربي وغيرها من الدول غير الأوربية النامية، أيضا، كلها إتبعت سياسة المضاربة، وحتى ما يشبه المقامرة، بإبتداع أدوات لتسهيل الإئتمان ولمنح الضمانات للقروض الشخصية والعقارية والمضاربية، حتى بدون وثائق لإتبات التأهل والملائة المالية، مما أدى الى قيام إقتصاد نقدي صوري غير مرتبط بالقطاع الإنتاجي الحقيقي.
ت‌. ونتيجة التدفقات الهائلة للسيولة الوهمية، بدون مقابل مناسب لسلع حقيقية، إرتفعت الديون والفوائد والعمولات، فزادت مديونية الأفراد والمؤسسات، وعجزت المصارف عن التسديد، حيث لم تسدد الفوائد المقيدة حسابيا، بل وأفلس العديد من المؤسسات المالية والعقارية والتأمينة الكبرى في الولايات المتحدة، وإمتدت الآثار، خصوصا لدول الإتحاد الأوربي التي تشكل حلقاته الضعيفة. وإضطر المستهلكون الى التقشف، رغم إنهيار أسعار العقارات، وإنخفاض سعر الفائدة الى الصفر، وإرتفعت البطالة. ولم تجد الحكومة الإتحادية، من خلال مؤسسة الإحتياطي الفدرالي بدا من طبع المزيد من تريليونات الدولارات، لتمكين المصارف والمؤسسات المالية والتأمينة من الإستمرار في البقاء، ولمحاولة سد أو التقليل من ضغط الديون الخارجية والعجز الكبير في الميزان التجاري، دونما نجاح يذكر، هبطت قيمة الدولار بنسبة 30% حتى الآن! وتشير المؤشرات الراهنة، في ضؤ رغبة الإحتياطي الفدرالي في طبع المزيد من تريلونات الدولار، في محاولة لتجنب كارثة البطالة الكاسحة المتوقعة، ولمحاولة تشغيل القطاع الإنتاجي من خلال السياسات النقدية وليس المالية، لأن الضرائب الإضافية قد تكبح الإستثمار، وعلى ذلك فالإقتصاد الأمريكي، بل الرأسمالية الأمريكية والأوربية في محنة أو أزمة، كشفتها تناقضاتها الأساسية، ولكن هذه المرة، عبر التكديس الرأسمالي النقدي وليس الرأسمالي العيني الحقيقي!
ث‌. ولكن الإقتصاد الأمريكي، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، وبسبب توسعه التجاري العالمي، ولصعوبة الحفاظ على سعر صرف الدولار المثبّت بمعيار الذهب، بالنظر لعدم تعاون بعض الدول الكبرى، كألمانيا واليابان التي لم تلتزم، تماما، بمعايير بريتن وودز، وجد أن ما يناسب مصالحه النقدية والتجارية أن يلجأ الى "تعويم" الدولار في عام 1973 ، لإطمئنانه الى " رصانة" الدولار، كعملة مسنودة بثروات هائلة لإقتصاد ديناميكي، يتصدر التجارة الدولية، وبسبب كون الدولار هو عملة الإحتياطي النقدي لمعظم دول العالم، وخصوصا لدى شركاءه التجاريين من الدول الرأسمالية الكبرى، فسعر صرف الدولار "المعوّم" سيصحح نفسه تلقائيا، لأن الدول المتعاملة بالدولار ستحاول الحفاظ على قيمة الدولار في السوق العالمية، وهكذا "عوّمت" معظم الدول الشريكة عملاتها هي الأخرى، إرتباطا بالدولار الأمريكي. وبهذا صار الدولار لا يحتاج الى الذهب لترصين عملته، بل وجد أنه يستطيع طبع كميات كبيرة من ورق الدولار لتسهيل صفقات التجارة الدولية، ولتسهيل تغطية عجوزه، عندما تحصل في ميزانه التجاري، ولتسديد إلتزاماتها ومديونيته الداخلية والخارجية، بإصدار سندات الخزينة وغيرها من الصكوك والسندات. وبهذا وجدت الولايات المتحدة أن بإمكانها تغطية إنفاقاتها العالمية والعسكرية في الخارج بطبع مليارات الدولارات، إستنادا الى متانة وإستقرار وقوة الإقتصاد الأمريكي. بل وأكثر من ذلك، فإنها إستطاعت أن تدفع مستورداتها من النفط الخام بدولارات يطبعها الإحتياطي الفدرالي الأمريكي، دونما قلق، لاسيما وأن عوائد الدول النفطية تجد طريقها غالبا الى المصارف الأمريكية أو لشراء سندات الخزينة الأمريكية. أي أنها صارت تشتري النفط الخام من الدول النفطية الريعية، عمليا بالنسبة لها، "مجانا"!!!
3. عوامل أدت وتؤدي الى "هلاك" الدولار أو إحتمال موته"، والآثار المترتبة على ذلك، عموما، وعلى الدول النفطية الريعية، كالعراق، خصوصا؛ وإجراءآت أمريكية ودولية لإنقاذ الدولار؟
لعل في مقدمة الأسباب التي تؤدي الى تدهور سعر صرف العملة لإية دولة لها مكانة مهمة في التجارة الدولية، كالولايات المتحدة، هو عامل يّسمى في علم الإقتصاد باللا توازن الأساسي،Fundamental Disequilibrium، أي الحالة التي يبلغها سعر صرف العملة، الدولار الأمريكي، في هذه الحالة، هو حينما تنخفض قيمته او تتدهور أو تميل للتدهور التدريجي، بسبب زيادة عرضه الحاد في السوق الدولية، بإعتباره عملة الإحتياطي، حيث تعقد معظم الصفقات التجارية الدولية به أو على وفق سعر صرفه، (إضافة الى طبعه الغزير في الحالة الأمريكية)، كنتيجه لتراكم العجز في الميزان التجاري، ولتصاعد المديونية الخارجية والداخلية ولتدني معدلات النمو الإنتاجي السلعي، وهذا العامل الأخير، ربما، هو العامل الأساسي، بمعنى تدهور الإنتاج البضائعي بصورة خاصة، للإستهلاك والتصدير ولزيادة المستوردات بمعدلات تفوق الصادرات كثيرا جدا. وهذه هي الحالة الإقتصادية والنقدية والمالية اليوم في الولايات المتحدة. عندئذٍ ستلجأ الدولة الى محاولة تقليل تصديرها للولايات المتحدة لتقبض عنها بعملات من غير الدولار، وربما تستورد من الولايات المتحدة، لتدني سعر صرف الدولار، ولكن المشكله أن الطاقة الإنتاجية السلعية قد لا تستجيب لطلبات الإستيراد الكبيرة، لاسيما إذا طلبت الدول الدائنة للولايات المتحدة الدفع من أرصدتها الدولارية في المصارف الأمريكية، او باشرت ببيع سندات الخزينة الأمريكية لغرض التسديد، كما فعلت الصين، جزئيا. وبسبب إفلاس المصارف الأمريكية، فإنها قد لا تستطيع تلبية الطلب، ومن هنا سارعت الحكومة الفدرالية الأمريكية لطبع ترليونات الدولارات، للحفاظ على صدقية مصارفها ولتجنب كارثة الإفلاس والإنهيار. وهنا الحيرة، الإحتياطي الأمريكي لا يستطيع التوقف عن تمويل الإئتمان والمصارف، ولا يستطيع تحفيز الإنتاج والإستثمار بسبب ضرورة خفض سعر الفائدة على الإدخار والإقتراض، فتتفشى البطالة ويعم الكساد التضخمي، أي بينما الأسعار ترتفع إرتفاعا تضخميا، وقد يبلغ، إذا إستمر الوضع على هذه الوتيرة، مستوا إنفجاريا، بينما يغلب التقشف وإنخفاض الطلب الإستهلاكي الى جانب تدني معدل الإستثمار سقوفا متصاعدة، بسبب المديونية، وقلة فرص العمل، وبسبب الحجز على العقارات التي تداعت أسعارها لعدم قدرة المشترين على التسديد. هنا هي النقطة المحورية، فكيف لا يتداعى سعر صرف الدولار عالميا، وكيف لا تفكر الدول التي هي مجبرة للبيع بعملة الدولار، كحالة الدول النفطية، وخصوصا التي تصدر أساسا للولايات المتحدة، وكيف إذن نقاوم التصور بأن الدولار على وشك الهلاك أو "الموت"، وخصوصا عندما تعلن الدول النفطية بأنها ستتوقف عن قبول الدولار للتسديد عن صادراتها النفطية؟! فماهي إذن إجراءآت الولايات المتحدة والإحتياطي الفدرالي الأمريكي لوقف توجه الدولار نحو الهاوية، دونما إضرار كبير بصدقية الإقتصاد الأمريكي؟ أمام الحكومة والإحتياطي الفدرالي الأمريكيين عدد من الإجراءآت والسياسات، ولكنها بحاجة الى دعم الدول الرأسمالية والنفطية، إذ لاتستطيع فرضها بصورة أحادية، ونوجز في أدناه أهم هذه الإجراءآت والسياسات:
أ‌. أن تراهن، لمدة كافية من الزمن على إستعادة القطاع الإنتاجي السلعي الأمريكي عافيته، وهذا أمل ضعيف، ولكنه محتمل، بسبب ضعف الإستثمارات؛
ب‌. أن تقمع الإئتمان، وربما، حتى إستخدام بطاقات الإئتمان الإستهلاكية، لمدة زمنية كافية؛
ت‌. أن تغامر برفع الضرائب على الثروات دون أن تمس النشاطين الإستثماري والإستهلاكي؛
ث‌. أن تتوقف عن طبع الدولار بمعدلات فلكية؛
ج‌. أن تلجأ الى مقايضة بعض أهم مستورداتها؛
ح‌. أن توافق للدول النفطية بالدفع عينا أو للتسعير بغير الدولار، إضطرارا، وهذا إحتمال بعيد، ما لم تجبرها الدول النفطية المرتهنة لها، بسبب إمتلاكها لمليارات، وربما، تريليونات الدولارات في المصارف الأمريكية، أو الموظفة في سندات الخزينة الفدرالية، إذ عليها أن تغيّرها الى عملات أخرى، إن وافقت الولايات المتحدة، بسعرصرف متدني للدولار بالسوق العالمية؛
خ‌. أن توافق الولايات المتحدة على وضع جدّولة شاملة لديونها الخارجية والداخلية، وبتوافق دولي؛
د‌. أن توافق الولايات المتحدة على إشراك عملة الحقوق الخاصة، SRDs، التي يعتمدها صندوق النقد الدولي، وهو أعلن في شهر شباط الماضي، بأنه يجب التفكير بإستبدال الدولار الأمريكي، كعملة إحتياط عالمي وكوسيلة للتسويات النقدية في العالم، وهذا امر في غاية الحرج بالنسبة لهيبة الدولار والإقتصاد الأمريكي؛
ذ‌. تدعو الولايات المتحدة الى مؤتمر على غرار مؤتمر بريتن وودز لدراسة النظام النقدي العالمي، عموما، والدولار الأمريكي، خصوصا، بالنظر لإهميته الكبرى في التجارة العالمية، ولآثاره الوخيمة، في حالة "هلاكه"، على بقية الدول، بالأخص منها الدول النفطية التي تبيع نفطها بالدولار، وتملك ترليونات منه في المصارف الأمريكية، كما هي حالة دول الخليج العربي، وفي المقدمة منها المملكة السعودية!
ر‌. في ضؤ هذه السيناريوهات المحتملة، نلاحظ إن أحلاهن قد يكون مرّا؟ ولكن، قد يكون هناك الكثير في جعبة الإحتياطي الأمريكي، كما نتصور، إذ ليس من مصالح الدول المرتبطة بالدولار الأمريكي أن تساهم في دفنه! كما فعلت دول أقل شأنا في التجارة الدولية، وأقل أهمية من ناحية إقتصادية، والتي أساءت إدارة سياساتها النقدية، ودفعت ألثمن غاليا، ولكن ذلك لم يكن يهمها لأن بعضها دول إستبدادية فردية، كجمهورية زنبابوي العتيدة بقياد موغابي منذ أكثر من أربعين عاما، اي منذ إستقلالها عن بريطاانية "الأم". وندرج أدناه صورة عملة الدولار الزنبابوي في آخر تقليعته، بسب التضخم الإنفجاري الهائل الذي لم يستطع القائد "الخالد" من إطفاء حرائقه حتى الآن:

(حُذفت صورة الدولار الزمبابوي من مكانها هذا، لإن آلية النسخ واللصق غير متوفرة في نظام الحوار المتمدن لهذا الغرض، فنعتذر للقراء)

الدولار الزنبابوي!

تصوروا أن أكثر ورقة للتداول في زنبابوي الآن هي عملتها الدولارية بمقدار مئة تريليون دولار زنبابوي!!!؟ فتصوروا حالة الإقتصاد هذا وحالة المسكين الشعب الزنبابوي الذي ناضل لعقود في الغابات لتخليص نفسه من هيمنة الإستعمار البريطاني وعنصرية المستوطنين البيض فوقهم، وبينهم، حتى الآن!! وهناك عشرات العملات لدول، مثل تركية ويوغسلافية والبوسنة ونيكاراغوى، وحتى فرنسا وألمانية، في سنوات مختلفة من القرن الماضي القريب والبعيد! ولا نعتقد أن ذلك سيكون مآل الدولار، بسبب ضخامة الإقتصاد الأمريكي، وقدرته على تجاوز أزماته الرأسمالية، كما فعل رزوفلت في ثلاثينات القرن الماضي. ولكنها أزمة عميقة، وستؤدي الى تغييرات جوهرية في النظام النقدي العالمي، فالرأسمالية العالمية، ما تعدم من وسائل لترويض " وحشية رأسمالها النافق"، فالتطور المرتقب سيكون لصالح الدول الفقيرة والنامية، مما يخفف من إستلابها الكلي لرأس المال العالمي. ولكن، على الدول النامية، والنفطية الريعية أن تستوعب المشكلة، أولا، وتضع سياسات حصيفة، كما تفعل الصين، حاليا، ونوجز، في أدناه بعض التصورات والتوصيات.
4. خلاصة وتصورات أولية؛
لاحظنا مما تقدم بأن الولايات النتحدة الأمريكية، بسبب ضخامة إقتصادها وهيمنتها على التجارة الدولية، ولقوة عملتها، الدولار، الذي أصبح إحتياطي لعملات معظم دول العالم، والنقد الأساسي في إجراء التسويات النقدية العالمية، والعملة الأكثر تداولا في العالم، نظرا لمقبوليته وصدقيته، وما كسبة من ثقة في التعامل. ولكن، من ضمن ما أفرزه من فوائد هائلة للإقتصاد الأمريكي، منها أن إدارته كسبت إمتيازات "لطبع" الدولار الأمريكي في التجارة الدولية، بغض النظر عن آثاره البعيدة على بقية الدول، وخصوصا منها دول النفط الريعية، ومنها إمتيازات لمدّ النفوذ السياسي والعسكري والتجاري الأمريكي في العالم، بل ومحاولة الهيمنة على مقدرات الإقتصاد العالمي ودوله المختلفة، حتى باتت أمريكا تستطيع شراء ما تشاء من السلع النادرة، كالنفط الخام، بغض النظر عن سعره في سوق البورصة العالمي الذي تستطيع أن تؤثر به، إن مصالحها شاءت، فهي تستطيع شراءه"مجانا" من خلال طبع الدولار للدفع عن مشترياته النفطية، وبالنسبة للدول النفطية فأنها تبدو كأنها تبيعه، نقدا وليس "مجانا"، طالما تستطيع شراء السلع الأمريكية وغير الأمريكية في السوق العالمية بالدولار نفسة. هذا صحيح، حينما يكون الدولار ذو صدقية وعملة صعبة ورصينة، ولكن ما الحل إذا إنهار وصار منبوذا، فماذا ستفعل الدول النفطية، والدول المكدسة لتريليونات الدولارات الأمريكية؟ هنا إذن لدينا مشكلة جوهرية بعيدة الأمد، ولكنها محتملة. وعليه تقتضي " الحصافة الإقتصادية والمالية وانقدية"، جملة من السياسات، قد تمثل خيارات، بالنسبة للدول التي تعتمد الدولار في قوتها ونموها ومستقبلها، كالدول النفطية الريعية، وفي مقدمتها بلد، كالعراق. ونوجز بعضا من هذه التصورات:
أ‌. ان تباشر هذه الدول وقبل سقوط الدولار الأمريكي الى تنويع موجوداتها وإحتياطياتها من الذهب أساسا، قبلما ترتفع أسعاره بالدولار الى مستويات فلكية؛
ب‌. أن تحاول الضغط لبيع نفوطها الخام بعملات من غير الدولار الأمريكي، وقد حاول صدام هذا الأمر، ولكنه فشل بسبب وضعه السياسي الطائش وعزلته الدولية، فالنفط أساسا كان و صار تحت سيطرة الأمم المتحدة؛
ت‌. أن تتداعى الى مؤتمر نقدي عالمي، لطرح أو المشاركة في مشروع لإيجاد عملة من غير الدولار لتحل محله، كإحتياطي نقدي، وكاساس للتسويات النقدية العالمية، وذلك بالدعوة الى إستخدام عملة حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، ولكن على أساس سلّة من العملات العالمية، كاليورو والفرنك السويسري والريمبي الصيني، ((RMB، وربما الريال السعودي، وحتى الدينار العراقي، بعد حذف أصفاره الثلاثة، وإستقرار إقتصاده!
ما تقدم هو خلاصة وتصورات أولية، ولكنها بالتأكيد تتطلب الكثير من التأمل والإغناء. وأتمنى على قادة السلطة النقدية في العراق أن يقرأوا هذا المقال بعين نقدية بناءة، فغايتنا حماية مستقبل أجيالنا الأحبة، قبلما تنفد نفطاتنا وغازنا الوفير اليوم، وليس غدا.

د. كامل العضاض
2011-07-29
لبنان. [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتقدير
نبيل الربيعي ( 2011 / 7 / 30 - 05:15 )
تحية رفاقية عطرة من بابل لاستاذنا د. كامل العضاض
لقد قرأت الجزأ الاول والثاني في جريدة طريق الشعب , اسلوب مبسط للآزمة التي تحتوي النظام الرأسمالي وانا بشوق لقراءة الجزأ الثالث رفيقي العزيز.


2 - سؤال جديد
محمد البدري ( 2011 / 7 / 31 - 08:44 )
بداية اوجه لك الشكر علي وفائك بالتعهد لكتابة هذا المقال وعلي غزارة المعلومات الاقتصادية وقوتها وتماسكها، وهو ما يجعلني اتسائل مرة اخري إذا كان للدولار ان ينهار فلماذا تصمد عملات آخري كاليورو والين الياباني وهي عملات لاقتصاديات تعتبر تالية مباشرة في قوتها للدولار بل وتتماثل معه لكونها من نتائج العمل الراسمالي الذي تقوده امريكا رغم انها بدات راسماليتها تالية لهما ومعهما انجلترا ايضا. ربما كان النفط هو مقتل الدولار، فهل لو تخلي النفط عن الدولار فسيبقي النفط بهذا السعر العالي، ام تتخلي الاولايات المتحده عن مستعمراتها النفطية وتجعلهم كريشة في عواصف بلدان النفط الاخري من بحر الشمال وروسيا وامريكا اللاتينية. السؤال المترتب علي فك ارتباط النفط بالدولار هل سيصمد العرب، وكما نراهم بحالهم الرث هذا، للاحتفاظ بالنفط قابلا للمقايضة باي شئ بما يسمح لهم بالعيش ولو في مستوي قريش قبل ظهور الاسلام؟ شكرا مجددا وتحية وتقدير.

اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح