الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وطني وصباي وعبد الناصر !!

مصطفى مجدي الجمال

2011 / 7 / 30
سيرة ذاتية



رغم أنني من أبناء المنصورة فقد شاهدت جمال عبد الناصر للمرة الأولى في حياتي في مدينة دمياط حيث كان والدي يشرف على شبكات المياه بالمحافظة.. ومن حسن الحظ أن الموكب كان سيمر من تحت شرفة بيتنا في شارع سوق الحسبة.. وجاء الأقارب والمعارف ليحتشدوا في الشرفة لرؤية هذا الرجل العظيم.. وما أذكره أن الجميع كان يهتف (عاش جمال عبد الناصر) بينما اخترت أنا الطفل الذي لم يتعد عمره 8 سنوات أن أهتف (عاش المشير عبد الحكيم عامر) فقد شدت حلته العسكرية انتباهي وبصري.. ولامني أبي على هتافي كما لو كنت أتدخل في السياسة العليا حسبما فهمت فيما بعد، كما أدركت لاحقًا أن ذلك المشير كان (غلطة) عبد الناصر الأولى.. وكما يقال في المثل فإن (غلطة الشاطر بألف!!)
ورأيت عبد الناصر مرة ثانية في مدينتنا المنصورة بعد أن عدنا إليها في منتصف الستينيات، وكان الزحام في المدينة رهيبًا حيث زحف مئات الألوف من القرى لمجرد رؤية الزعيم.. وقررت أنا وابن خالي أن نذهب إلى مكان بعيد خارج المنصورة لنشاهد القطار المقل له وهو يدخل طرف المدينة.. وما أن خرجنا من بين الأعشاب حتى فوجئنا بالقطار يتهادى أمامنا والرجل يقف في شرفة القطار.. أخرستنا طلعته المهيبة فانعقد لساني تمامًا بينما تلعثم ابن خالي في هتافه بصوت مشروخ (مربح مربح ياجمال!!) أي (مرحب مرحب ياجمال).. ولوح لنا الرئيس بتحية خاصة، وأقسم بالله أنه ابتسم لنا.. وصرنا نحكي الواقعة لأقراننا لأننا شاهدنا عبد الناصر في (عرض خاص جدا)..
وحدث في تلك الفترة أيضًا أن كان عبد الناصر مرشحًا للرئاسة.. وكنت في السنة الأولى الإعدادية بمدرسة ابن لقمان الشهيرة بالمنصورة، وكان طلبة مدرسة الصنايع يأتون كل يوم لإخراجنا للتظاهر ونهتف (أنور.. أنور ياسادات.. احنا اخترنا جمال بالذات) فالسادات كان رئيس مجلس الأمة..
ولكن في اليوم التالي لإقرار المجلس ترشيح عبد الناصر لم يأت أحد لإخراجنا للتظاهر.. فقررنا أن نتظاهر من تلقاء أنفسنا.. وكانت مدرسة الأيوبية أول مدرسة حاولنا إخراجها رغم أنف ناظرها المرحوم أحمد الحنبلي.. وذلك بعدما هتفت بصوت عالٍ (أين الحرية ياحنبلي!!) وفوجئت بأن الهتاف صادف هوى في نفوس الأولاد فرددوه ورائي وبدوني بأصوات هادرة.. أما الناظر الفاضل فكاد أن يفتك بي ولكنه في النهاية أفلتني .. ومشيت التظاهرة في شارع الثانوية حتى فوجئنا بسيارات النجدة والشرطة تهاجمنا وتعاملنا بقسوة، ووقعت بيننا وبينهم معارك كر وفر في الأزقة.. وكان السؤال الكبير الذي لم أجد له إجابة وقتذاك هو: هل الشرطة ضد الرئيس؟! وعندما كبرت استطعت تفسير هذا الموقف حينما قرأت للأستاذ هيكل عن ديمقراطية الموافقة..
وبعد نكسة 1967 بدأت الصحافة الحكومية تشغل الرأي العام ببعض القضايا الجانبية، وكان منها وقتذاك قضية أحمد الحداد أستاذ اللغة الانجليزية بمدرسة ابن لقمان.. فقد اتهم الرجل بتسريب امتحان الشهادة الإعدادية لمحافظة الدقهلية.. ومن الطريف أن الذي كشف واقعة التسريب هو المرحوم إبراهيم عبد الرازق رئيس اتحاد طلاب المنصورة الثانوية والممثل الشهير فيما بعد. وأصبح أحمد الحداد الموضوع الرئيسي تقريبًا للصحف، وتعرض الرجل لاستجواب قاس وقيل إنه هو الذي رمي بنفسه من نافذة التحقيق وظهر المانشيت الرئيسي للجمهورية (انتحار الحداد!!)..
وكان الرئيس عبد الناصر قد شكل لجنة للإشراف على التحقيق برئاسة أنور السادات.. ولما كانت التحقيقات تجري في مبنى مدرستي التي أعرف مداخلها ومخارجها جيدًا فقد تسللت إليها ذات صباح لأشاهد فجأة أغرب منظر يمكن أن تراه عيناي، فقد رأيت أنور السادات يجري وراء أستاذ يرتدي بدلة في عز الحر، وعرفت فيما بعد أنه مدير المنطقة التعليمية.. هاجم السادات الرجل بالقول والفعل.. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها السادات على الطبيعة.. ذلك الرجل الذي عرفت فيما بعد أنه كان (غلطة) عبد الناصر الثانية..
أما آخر مرة رأيت فيها عبد الناصر فكانت يوم وفاته.. فقد كنت في زيارة لأقاربي بالقاهرة، وبينما كنت واقفًا في الأتوبيس أتصبب عرقًا واختناقًا من أبخرة المازوت، توقف السائق فجأة لتمر بجوارنا سيارة الرئاسة وكان عبد الناصر في المقعد الخلفي وبجانبه شخص لم أتبينه وفي المقعد الأمامي كان الملك حسين يتحدث ملتفتًا بجسده كله إلى الخلف.. تسلل إلي شعور غريب بعدم الراحة..
وبعد ساعات تصادف أن كنت أقف مع ابن خالتي أمام القصر الجمهوري بالقبة حيث تقابلنا مصادفة مع شخص عرفت أنه ضابط بالمخابرات وكان يعرف ابن خالتي عن طريق نادي الجزيرة الذي كان الأخير يلعب في فريق ناشئيه في كرة السلة.. وعرفت من حديث الاثنين أن الضابط ينظم جلسات في بيته لتحضير الأرواح، الأمر الذي أصابني بالدهشة والقرف.. لكني لا أنسى كلماته أن هناك حركة غريبة في القصر اليوم..
حينما أعلن السادات وفاة الزعيم تجمدت الدموع في عيني، وكان الذهول هو سيد الموقف، ثم التحمت في موجات لا تنتهي من بحر الدموع الذي أغرق مصر كلها إلى حين وري جسده التراب..
كنت قبل ذلك بسنوات قد بدأت التعرف على مجلات الطليعة والكاتب والسياسة الدولية والفكر المعاصر وتراث الإنسانية التي أحدثت انفتاحًا كبيرًا في ذهني على تيارات حديثة في الفكر العالمي من كل الاتجاهات.. ورويدًا رويدًا بدأت أكتب أوراقًا بدائية أحاول فيها الجمع والتوفيق بين ماو تسي تونج وإرنستو تشي جيفارا وعبد الناصر.. وفي كل الأحوال ظل عبد الناصر جزءًا من روحي حتى لو افترقت السبل في مجال الفكر..
تطورت أحوالي فانغمست في السياسة بالجامعة حتى أذني.. وكنت أنزعج بشدة من أصدقائي الماركسيين الذين لا يريدون أن يضعوا عبد الناصر في ذات المكانة التي كانوا يضعون فيها محمد علي باشا بصفته (باني مصر الحديثة) رغم قسوة هذا المتسلط الإقطاعي ومغامراته التي أرسلت الجيش المصري للحرب في كل اتجاه حتى في شمال البحر المتوسط بل والمكسيك أيضًا..
بالقدر نفسه كنت لا أحب تحويل عبد الناصر من رمز وطني نحبه ونحترمه كلنا إلى كائن مقدس لا يجوز نقده.. كنت أقول لهؤلاء إن عبد الناصر نفسه كان ينقد نفسه موضوعيًا من خلال التطور في فكره وممارسته..
وحدث أنني حضرت لقاء ناصر الفكري الذي كان يعقد صيف كل عام بنادي اتحاد طلاب عين شمس.. وحينما دعوت الناصريين إلى ضرورة المبادرة بتشكيل حزبهم المستقل بعد تمام الانقلاب السياسي الذي أنجزه السادات.. غضب بعض الزملاء الناصريين الذين مازالوا مؤمنين بالعمل من خلال الاتحاد الاشتراكي بعد استرداده أو تثويره.. بل حاول البعض اتخاذ قرار بإبعادي من اللقاء ولكن أصدقائي الناصريين في جامعات عدة تضامنوا معي بقوة.. وقال أحدهم عني (إنه يمثل الحلقة المفقودة بين الماركسيين والناصريين)..
في مساء هذا اليوم عرض فيلم تسجيلي عن عبد الناصر .. وما أن أضيئت الأنوار حتى وجدت الزملاء الناصريين يشيرون إلى في تعجب شديد لأنني كنت أبكي.. قلت لهم : أتطنون أن عبد الناصر ملكية خاصة للتيار الناصري.. إنه قطعة من تاريخنا الوطني.. قطعة من حياتنا وصبانا وأحلامنا.. بغض النظر عن النظريات والاختلافات..
متى تعيد مصر للرجل ما يستحقه من تكريم..
بل متى نعطيه ما يستحقه من اهتمام وبحث ودراسة.. خاصة ولدينا الآن مجلس عسكري.. ومرشحون عديدون أيضًا للرئاسة.. ومع ذلك لا تجد فردًا بقامة عبد الناصر.. وهو ما يطلق عليه الكاريزما.. ونعلم جميعًا أن للزعيم الكاريزماتي صفات ومواهب ومواقف تاريخية خاصة، ولكنه أيضًا يتشكل بالتفاعل مع الحركة الوطنية التي نشأ فيها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الهرم الرابع
الحارث العبودي ( 2011 / 7 / 30 - 15:03 )
تحية لك ياسيدي على هذه الذكريات المؤثرة في عصر الراحل عبد الناصر..ان الرئيس عبد الناصر ليس بحاجة الى توصيف انه الهرم الرابع لمصر كما يصفه الشاعر نزار قباني وشكرآ.


2 - تحيه
منذر الخليلي ( 2011 / 7 / 30 - 18:14 )
في الاشهر القليله القادمه ستعرف مصر القيمه الحقيقيه لجمال عبد الناصر


3 - القابلية للاستبداد
دكتور سعيد غنيم ( 2011 / 7 / 31 - 01:56 )
بحكم تخصصي كطبيب امراض نفسية وعصبية هناك كائنات بشرية تعبد او تحب لدرجة الوله جلاديها وهذا ليس بجديد بل معروف منذ ماقبل الكواكبي الذي ارخ ونظر للقابلية للاستبداد


4 - مصر اليوم وعبد الناصر
Red W ( 2011 / 7 / 31 - 02:56 )
عندما أذاعت الاذاعيه المصريه في 8 يونيو 67 بيان القوات المسلحه بتعليمات للجيش المصري أن يعود إلي خط الدفاع الثاني إنهارت أمامي كل القيم الزائفه والمبادئ الملتويه التي تبناها نظام عسكر عبد الناصر الدكتاتوري الفاشل وأيقنت أن مصر هوت إلي درجه من الانحطاط لم أتخيلها وتوقعت أن يفعل عبد الناصر مايفعله قائد عسكري تسبب في كارثه وينهي حياته بنفسه... ولكن ماإنتهت إليه مصر كنتيجه لحكم هذا الديكتاتور هو ورثه السادات ومبارك ومصرالمنهاره المدمره اليوم... وماذا تقول ياأخي المصري الحبيب لأهالي ضحايا عبد الناصر اللذين راحوا هدر إرضائا لديكتاتور أحمق في حروب في سيناء واليمن وحتي الكونجو... ياحزني وحسرتي علي مصرنا


5 - حنانيك يا دكتور سعيد
مصطفى مجدي الجمال ( 2011 / 7 / 31 - 03:54 )
رغم أنني لست طبيبًا نفسيًا بالطبع.. إلا أنه لا يجوز تطبيق نظريات لآحاد من الباحثين في هذا العلم لإطلاق أحكام مرسلة في علم التاريخ.. صحيح أن علم التاريخ يجب ويفضل أن يستحضر الأجواء النفسية-الاجتماعية في اللحظة التاريخية المعينة، إلا أنه يعنى أساسًا بالوقائع.. وأنا أريد أن أعطي للرجل حقه كزعيم وطني ولست بالطبع من أنصار نهجه اللاديمقراطي.. وإن كان من الواجب ملاحظة أنه في عهده لم يكن هناك نظام ديمقراطي واحد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وشرق أوربا.. ومع ذلك فإن هذا لا يعفيه من أي نقد.. ومن الواجب تناول اللحظة التاريخية في سياقها دون استخدامها لتبرير واقع معين في الحاضر.. على الأقل انظر ماذا فعل الليبراليون بالشعوب .. وانظر ماذا فعلت الديمقراطيات الغربية ولا تزال من اعتداءات بشعة على شعوب العالم الثالث..وأخيرا أليس لديك أي تفسير آخر للحب الذي تمتع به عبدالناصر سوى أن شعوبما مريضة نفسيا.. لم لا تبحث في سياساته المعادية للاستعمار أم أنك تعتبرها مجرد حماقو.. ولما لا تبحث في سياساته الاجتماعية أم أنك تعتبرها مجرد نفاق للشعب المريض نفسيا.. ولم لا تنظر لسياساته التنموية ..الخ


6 - الثأر أم الإنصاف
مصطفى مجدي الجمال ( 2011 / 7 / 31 - 04:06 )
إلى صاحب التعليق أتمني لو أبلغ سيادتك أنني لست ناصريًا.. ولكنني لا أحب الانسياق وراء الدعايات الساداتية ثم المباركية التي أردات ضرب نهج عبد الناصر الوطني والاجتماعي بالتركيز على أخطائه في مجال الديمقراطية.. وقد آن الآوان للتعامل الرشيد مع زعماء تاريخنا الوطني.. فلا ننظر للتاريخ من زاوية واحدة أو خارج سياقه التاريخي.. إن كل التجارب الرأسمالية قد بنيت على أنقاض الديمقراطية والعدل والإنسانية.. ولم ترضخ النظم الرأسمالية للمطالب الديمقراطية إلا بعد خوض أنهار من الدم..وكان من الطبيعي أن تركز الدعاية الاستعمارية والرجعية العربية والاخوان المسلمون لتشويه الرجل وتقديمه على أنه مجرد هتلر على النيل.. وذلك حسرة على القناة وخشية على منابع النفط والموقع الاستراتيجي وخوفا من هذه الزعامة الملهمة في العالم الثالث كله.. ومن ثم كان استغلالهم لأخطائه واستدراجه إلى مزيد من الأخطاء.. وهذا ليس تبريرًا.. إنما هو الواقع بعينه.. أنا لا أريد تقديس أحد ولكني أريد الإنصاف للجميع وأرى أت هناك رموزا في تاريخنا لم تأخذ حقها مثل عرابي ومحمد فريد.. في وقت أخذ آخرون ما لا يستحقونه بالمرة


7 - هل نحن من نفس الجيل
جبريل ( 2011 / 7 / 31 - 11:28 )
الرفيق مصطفى
تحية من فلسطين
كيف لفلسطيني عاش طفولته تحت الاحتلال ان يرى نفسه فيما كتبته، لقد زرع في والدي الامي حب عبد الناصر، وبكيت انا وانا ابن الثالثة الاعدادية وفاة جمال كما بكيت انت، انا ابن فلاح فلسطيني بسيط في اواسط الخمسينات من العمر، ربما اكون من نفس الجيل، احببنا الرجل وعلقنا صوره في صغرنا، في كل مرة نقارن كل زعيم بنقطة مرجعية هي عبد الناصر، مشكلة الثورة الان ليس كاريزما عبد الناصر بل جرأته وجسارته في اتخاذ المواقف والقرارات وهو ما لا تملكه اية قيادة من اليسار الماركسي الى اليمين الديني المتطرف، مصر بحاجة الى تحالف يضم اليسار والقوميين الاشتراكيين معا هذا ضمانة لعدم انتصار الثورة المضادة.
على فكرة ايها الرفيق، اسكن في رام الله وللصدفة في شارع جمال عبد الناصر، اما اسم ابني الوحيد فهو جمال.
عاشت مصر العروبة
عاشت فلسطين حرة عربية
والى الامام بالثورة.


8 - العزيز جبريل
مصطفى مجدي الجمال ( 2011 / 8 / 1 - 00:54 )
هزني تعليقك بشدة .. وقد وضعته على الفيسبوك كي يطلع البعض على هذه الرؤية البسيطة والصافية.. فلم أجد خيرًا منها للتعبير عن علاقة عبد الناصر بالعروبة

اخر الافلام

.. الجيش الأمريكي يعلن إسقاط صاروخين باليستيين من اليمن استهدفا


.. وفا: قصف إسرائيلي مكثف على رفح ودير البلح ومخيم البريج والنص




.. حزب الله يقول إنه استهدف ثكنة إسرائيلية في الجولان بمسيرات


.. الحوثيون يعلنون تنفيذ 6 عمليات بالمسيرات والصواريخ والقوات ا




.. أمر أميري بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصباح ولياً