الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خوازيقُ لأستاهِكُمْ أُحْضِرَتْ، أيُّها المُفسِدُون

مديح الصادق

2011 / 8 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


ثانية عاد مشحوت على اللوح، ذلك الذي ما فتئ يلاحقني أنَّى ولَّيتُ وجهي؛ لأن ذِكره لم يرد في كتاباتي مذ زمن ليس بالقصير، وكأنه ذلك التابع الذي اعتاد من سيده على الضرب كل حين، حتى باتت له إهانة حين ينشغل عنه السيد فلا يحظى بما اعتاد عليه من متاع يومي، وأمثال مشحوت موجودون دوما، في كل زمان ومكان، كالحرباء يغيِّرون جلودهم، وحسب ما تمليه عليهم تغيرات الطبيعة والمناخ والحاجات، على أكتاف المساكين تراهم متسلقين، يصفقون للظالم حتى تُدمى أكفهم، فيسترون عوراتهم بما يلقيها عليهم من خرق باليات، يلعقون حذى المتسلطين طامعين بما يُلقى عليهم من فتات، قد يجود به الظالم، أو لا يجود
مشحوت - كعادته في تغيير مهنته والشكل - اشتغل المرة هذه سائسا للخيل عند شيخ معروف من شيوخ قبيلة { بني لام } الطائية القحطانية، المنحدرة من جبل العامل في لبنان، التي فرضت سيطرتها بقوة على قاطع جنوب شرق العراق، من ديالى حتى البصرة، أيام احتلال البريطانيين للعراق، فأغلقت عليهم منافذ المرور بين بغداد والبصرة برا أو عبر النهر، وأقضت مضاجعهم، يقودها الشيخ الفارس المُهاب { غضبان البنيَّة } الذي تحالفت معه قبائل كبرى في العمارة والبصرة والكوت، وكان شيوخ منها مستشارين له، ومن الجهة الأخرى فقد وقفت مع حلفائها سدا منيعا بوجه غزوات وأطماع الفرس - التي لم ولن تتوقف - من جهة إيران، وسببت لهم أوجاع الرؤوس

ظل مشحوت وعائلته مخلصا في خدمة الشيخ، يتجسس على أتباعه، ومقربيه ممن يسمون { الحوشية والسراكيل } ويعد عليهم الخطوات، ينقل عنهم بدقة، وأحيانا يزيد إنْ ينافسْهُ غريم، ومثله تفعل زوجته { طهمازة } الحافوفة إذ تتنقل بين نساء الشيخ، تحمل الخيط والإبرة من هذا المخدع إلى ذاك، وأحيانا تكشف لهن الحظ، هداياه للمدللات، بمَ يناديهن من أسماء حين يلقي الرجال جبروتهم تحت أقدام النساء، وساعة تتدحرج التيجان في أعنف الرعشات، ولها مع الصائغ موعد كل شهر لتستبدل الليرات الرشيدية بكيس النقود
لقد مكَّنت هذه المهمة مشحوتا من أن يحظى بمثل ما حظي الشاعر علي بن الجهم عند الخليفة العباسي؛ إذ صار له مفتاح الأمان ومستودع الأسرار، يكشف له ما يفعله الموسورون خلافا لما يُظهرون، أو ما عنه ينهون، وأعظم تلك الأسرار خزينة الشيخ التي غصت بالجواهر والأحجار الثمينة، والنقود، يُخفيها بعيدا عن الأنظار، في مربط الخيل، في زمن صعب لا يملك الفلاح سوى عرق الجبين، وعند الحاصل يحصد حجرا وصوان
هاهي الفلوس، يا مشحوت، التي أغرت الملوك حتى بها ذبحوا الخصوم، ولم يسلم الأتباع والمقربون، كم أفسدت من الحكماء، وأغرت من العقلاء، صديق تنكَّر لصديق، وأخ أدار ظهره لأخيه، حروبا أشعلت كان وقودها الفقراء، هي الفلوس - ألا لعنة الله عليها - ترفع الخسيس إلى مواضع الشرفاء، وقد تنال من حصن الشريف، فهاهي الفلوس، كلُّها بين قبضتيك، يا مشحوت

تربع عند موقع الخزينة، يمينا، يسارا، تلفت بكل الجهات، القوم جميعا نيام، والشيخ متأخرا عاد من حفلة عرس لأحد أبناء الشيوخ، لابد أنه الليلة في أحضان الصغرى، وحتما بملاعبها ودلالها سوف تُلهيه، الكلاب تعرفه وتعودت عليه، وهو لم يبخل عليها بما يشغلها عنه، الريح تصفر في أواخر تشرين وبرده اللذيذ، والنجوم تطارد بعضها في كرنفال بهيج
لا تبالِ، افرش عباءتك، يا مشحوت، ماذا سيفعل بك الشيخ لو أنك متلبسا بالجرم ألقى عليك القبض ؟ أيه يا روحي، قد يلقي بي في النهر مربوطا بحبل ليلا بكامله، أو يصب على رأسي اللبن ثم يحيل علي الكلاب بعد الجوع فتنهش وجهي والرأس، وقد يأمر بجلدي العبيد الحاقدين؛ لأني حرضته عليهم، وأشد العقوبات أن يطمرني في حفرة حتى حنكي، وعني يمنع الماء والزاد
وعند نهاية كل سؤال يرد على نفسه بعبارة : راضية يا روح، ولمَّا كنتِ راضية يا روح بكل ما توقعتُ فعلام الانتظار ؟ لأفرشنَّ عباءتي فأغرف كل ما من حمله تمكنت. فرشَ العباءة، أمسك الفأس، خرزة ظهره حزَّها نصل سيف لم يكن عنه بالغريب، واقتيد مربوطا بغترته إلى مجلس القضاء، واستأنس الشيخ بآراء المستشارين الحكماء كي يقرروا نوع العقاب، تهللت أساريره، وكشر أنيابه عن ابتسامة المنتصر الصفراء، فقد رأى كل منهم عقوبة من تلك التي شاور نفسه فيها فطاوعته، أما أية واحدة منها فذلك ما سوف يقوله الشيخ، وله القرار الأخير، ومنه تصدر الكلمة الفصل
صمت مخيف يطبق على المكان، تكاد تسمع رفيف القلوب؛ بل تعدَّ النبضات، الواقفون خارج المضيف أكثر ممن هم داخله، وجوه واجمة، وأنظار شاحبة تترقب ما سينطق به الشيخ، يا مسعود، نعم { امْحَفوظ } أحضر الخازوق، يا مسعود، صرخة مدوية من مشحوت هزت القرية، ورددتها حواف الصحراء، لا، لا ياشيخ { كلهن خايرت روحي بيهن ورضت؛ إلا سالفة الخازوق ما جت على بالي، ولا خايرت روحي بيها قط } وهنا انفجر الشيخ ضاحكا من غباء مشحوت الذي لم يدر بخلده أبدا أن يُدَق في استه خازوق يدميه

اخترت القصة الواقعية كي أمتع بها دواخلكم المتعبة - أحبتي القراء - وكي نستخلص منها درسا بليغا نقدمه لتلك المجاميع المُفسدة التي انتحلت لنفسها أسماء السياسة، وصفات السياسيين، وهم عليها بحرب، ومعها في خصام؛ لأن من أخلاق السياسة الحقة أن يكون السياسي خادما، متواضعا لشعبه، أو لفئات من شعبه التي أفرزت الحاجة أن يكون لها سياسيون عن حقوقها مدافعون، ولثرواتها حافظون، يصرخون مدوية بوجه الباطل، عن مطامعهم وملذاتهم يتنكرون، مصلحة الوطن العليا هاجسهم والقاسم المشترك الذي على صخرته تتكسر كل المصالح الفئوية والطائفية والشوفينية والمناطقية، أستحلفكم بكل ما تؤمنون، هل لمستم على الساحة هذا النموذج من تلك القوى التي تقاسمت الكراسي، والثروات، وعبثت بكرامة واستقلال العراق، وأدخلت المحتلين من كل الجهات، وضيعت الهوية، واستهترت بالثقافة والموروث الثقافي والأدبي والفني، وهجرت خيرة الوطنيين المخلصين، من كل التخصصات، والانتماءات ؟ لا همَّ لها سوى الابتلاع إلى حد الانفجار، ولا شك بأن الانفجار هذا قريب، وإلاَّ فإن شعبا قد أنهكه ضحك عليه ممن أسموا أنفسهم بالسياسيين قد جهَّزَّ { الخوازيق } كي يدقها في أستاههم، أولئك الذين يفعلون ما شاؤوا؛ لأنهم لا يستحون

بمناسبة العراك على ترشيق الوزارات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تسلم ثائراً دوماً ضد الظلم أديبنا الرائع
د.خالد الحيدر ( 2011 / 8 / 1 - 21:59 )

عزيزي الأستاذ مديح الصادق، الأديب المتمكن الرائع
قصة بليغة المعاني محبوكة كعادتك بإسلوب ناجح مشوّق وممتع لتؤدي غرضها وهدفها بفضح اللصوص ومافيات الفاسدين، وزراء التزوير وملفاتهم الطائفية العار على
حساب رفاه الشعب العراقي الأبي وما ناضل من اجله لأسقاط الديكتاتورية المجرمة وعلى حساب إبتسامة أطفاله وشيوخه وأيتام شهداءه
تسلم ثائراً دوماً ضد الظلم أيها الشاعر والأديب الوطني الأصيل


2 - سلمت يمينك التي خطت هذا المقال استاذنا المبدع
حسام هشام العيداني ( 2011 / 8 / 1 - 22:30 )
مرةً اخرى يأخذنا قلمك المبدع في سياحة إلى شواطئ إبداعك ، فتغمرنا الدهشة من سحر لغتك ، ورهافة حسّك في التعبير ، وجمال الصورة ، وقوّة المعاني ، فلا نملك وأنت تبحر بنا في أختيار اجمل الكلمات غير الانحناء لهذا القلم الساحر ، الجميل ، المتألق دوماً فتزداد انحناء شيخوخة اقلامنا أمام روعة قلمك ؛ ومرّة أخرى تفتح نافذتك الناقدة في مقالة جديدة لنغترف منها تلك الكلمات التي تعبر خير تعبير عما يجيش في صدورنا ، فيأخذنا الانبهار بقلمك الذي يصيب أهدافه بدقـّة كبيرة وبأسلوبك الجميل ، تتعلق كلماتها بصور جميلة في مخيتنا ، ايها الاديب المبدع الذي عرفناه دوماً بالتميّز والحرفية والاقتدار فيمايكتب سلمت يمينك ودام ظلالك وطال عمرك ودمت سالماً لشعبك ولدينك وكثر الله من امثالك. ـ
وتقبل مروري في صفحتك المنيرة ولك مني بعد الدعاء خالص واجمل التحيات
تلميذكم حسام هشام العيداني


3 - كم من المصائب تتحمل ياعراق !!!!؟
د.جبار ياسر الحيدر ( 2011 / 8 / 2 - 02:55 )
سلمت يداك ، وسلمت قلما وفكرا واسلوبا ايها الاخ الاديب المبدع ابا سولاف .. لقد تسلقت الجبال ووصلت الى القمم التي يتربع عليها العظام الراحلون ومنهم الشهيد عبد الجبار وهبي - ابو سعيد - والشهيد شمران الياسري - ابو كاطع - فهنيئا لك بهذه النعمة والموهبة .. والى المزيد من الابداع .. ودمت اخا عزيزا


4 - أمام المثقف خياران
مديح الصادق ( 2011 / 8 / 2 - 06:08 )
الدكتور جبار الحيدر، طبيبا ومثقفا مناضلا، الأستاذ حسام العيداني باحثا شابا متألقا، الدكتور خالد الحيدر أكاديميا مثقفا مناضلا، أحبتي الكرام
في ظروف كالتي يمر بها العراق حاليا، يوضع السياسي، أو المثقف الثوري أمام خيارين، فإما يكون واحدا من المطبلين للباطل، مثل مشحوت ومن يشاكله، أو أن يكون في الموقع
الذي يجب أن يكون عليه؛ وفي تلك الحال فإنه سيترك صفحة ناصعة للتأريخ، كتلك التي خلدت
الكرام، أبا كاطع، وأبا سعيد، وغيرهم كثير، شكرا لتعقيباتكم الموضوعية التي تبشر بأن شعبنا بخير ما دام فيه هذا الجم الغفير من المثقفين الشرفاء، الحريصين على مستقبله وكرامته، وأن المفسدين إلى زوال حتما


5 - من أمِن الخازوق ...أهان الشعب
ماجد الزهيري ( 2011 / 8 / 2 - 20:11 )
عزيزي واخي مديح الصادق المحترم
بهذه اللوحة الابداعية الرائعة التي جمعت على غير العادة بين ادب التاريخ والسيرة وادب المواجهة.. تكون قد اضفت لرصيدك الادبي اضمامة جديدة من الابداع والتالق المسجى بحسك الوطني وروحك الجنوبية التي لازالت تذكرنا بعبق الجنوب وروحه التواقة لمقارعة الظلم والفساد والغزاة
لقد ولى مشحوت ولكنه خلف لنا مشحوتين لا عد لهم ولا اصل وهذا ما يدفع الى تجهيز خوازيق لا عد لها ... ولكن لها اصل .... احييك ثانية واتمنى لك مزيد من الابداع والتالق والثبات على نهجك المبدئي المشرف ا


6 - من أمِن الخازوق ...أهان الشعب
ماجد الزهيري ( 2011 / 8 / 2 - 20:11 )
عزيزي واخي مديح الصادق المحترم
بهذه اللوحة الابداعية الرائعة التي جمعت على غير العادة بين ادب التاريخ والسيرة وادب المواجهة.. تكون قد اضفت لرصيدك الادبي اضمامة جديدة من الابداع والتالق المسجى بحسك الوطني وروحك الجنوبية التي لازالت تذكرنا بعبق الجنوب وروحه التواقة لمقارعة الظلم والفساد والغزاة
لقد ولى مشحوت ولكنه خلف لنا مشحوتين لا عد لهم ولا اصل وهذا ما يدفع الى تجهيز خوازيق لا عد لها ... ولكن لها اصل .... احييك ثانية واتمنى لك مزيد من الابداع والتالق والثبات على نهجك المبدئي المشرف ا


7 - اللعبة انكشفت، عزيزي ماجد
مديح الصادق ( 2011 / 8 / 4 - 04:14 )
الأستاذ ماجد المحترم
لا شك بأن حبل الكذب قصير، وإن كانت سيوفه مسلطة على رقاب المساكين؛ كما هو الحال منذ سقوط الدكتاتورية التي انجبت دكتاتورية جديدة مغلفة بالدين والشوفينية، حتى تلك اللحظة التي بدأت تتكشف فيها أمام شعبنا خيوط مؤامرة تقسيمه؛ بل بيعه مسبقا على مجموعة من المحتلين الطامعين، فشعبنا واع ومدرك، جنوبيا كان، أم وسطيا، أم شماليا، فالكل ضحية لتلك المخططات، ولم يجن الثمار سوى العملاء والمتسلطين مهما تستروا بالقومية والوطنية والدين

اخر الافلام

.. لا اتفاق بين زعماء دول الاتحاد الأوروبي على تقاسم المناصب ال


.. ما موقف الأحزاب الفرنسية ومقترحاتهم من الهجرة في حملاتهم الا




.. لتطبيع العلاقات.. اجتماع تركي سوري في قاعدة روسية| #الظهيرة


.. حارس بايدن الشخصي يتعرض للسرقة تحت تهديد السلاح




.. وول ستريت جورنال: لا وقت للعبث بينما يحرق حزب الله شمال إسرا