الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرة الطباشير الأمريكية

صبحي حديدي

2004 / 11 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


لعلّنا بحاجة إلى دائرة طباشير قوقازية، من النوع الذي ألهم المسرحي الكبير برتولت بريخت فكتب عمله الشهير الذي حمل الإسم ذاته، نضع فيها الرئيس الأمريكي جورج بوش، فنتبصّر أيهما أمّه (السياسية ـ الإيديولوجية، وليس الفيزيولوجية بالطبع) الأوفي له والأحنّ عليه: فلسفة المحافظين الجدد، أم عقائد الأصولية المسيحية الصهيونية؟ (ولكي لا يتّهمنا الجهلاء بإلقاء الألفاظ جزافاً، نقول إنّ نعت الصهيونية من نحت أصحاب العلاقة، وليس من عندياتنا).
الوقوف على أسباب صعود المحافظين الجدد لا يبدو عجيباً ولا يحتاج إلى كبير جهد، في مقابل عجائب هذا الإحياء الدراماتيكي للعقائد المسيحية الأصولية. والأمر في الواقع بات مثيراً، بعد أن كان ويظلّ مبعث قلق: كيف يمكن لهذه الأمّة الأمريكية، أو لنصف أبنائها بالأحرى، أن تكون قوّة كونية عظمى أولى، ديمقراطية عصرية مصنّعة متقدّمة علمانية (بمعنى فصل الدين عن الدولة، في أقلّ تقدير)، وفي الآن ذاته محافظة قَدَرية سلفية متديّنة؟ بلانتو، رسّام الكاريكاتير في صحيفة "لوموند" الفرنسية ، التقط هذا الجانب بالذات في مناسبة استقالة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول: الأخير (بوصفه آخر الحمائم، دائماً!) يقول للرئيس بوش: "أنا ماضٍ، ألا تسمعني؟"، والرئيس المنشغل عنه يردّ: "صه! إنني أصلّي"!
شخصياً لم أعد مؤمناً بأنّ العودة إلى علم النفس أو علم الإجتماع أو علوم السياسة والاقتصاد والتاريخ تكفي للوقوف على أسباب هذا الإنشطار بين أقصيَي الحداثة والسلفية. وهكذا، ذهبت إلى أنثروبولوجي أمريكي بارز وبارع وغير تقليدي هو فنسنت كرابانزانو، وإلى كتابه الممتاز "خدمة الكلمة: النزعة الحرفية في أمريكا، من منبر الوعظ إلى منصّة القضاء"، بحثاً عن بعض إجابة.
ومقام كرابانزانو الرفيع في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية يجعل المرء يقرأ بثقة راسخة، ولكن ليس دون قلق، خلاصاته عن طرائق ومؤسسات وعواقب التأويل الديني لموادّ الدستور الأمريكي. هذا رجل سبق له أن أثار ضجّة في صفّ الأنثروبولوجيا البنيوية حين أصدر "الحمادشة: دراسة في طبّ النفس الإثني في المغرب"، 1973؛ و"تهامي: صورة مغربيّ"، 1980. وضجّة أخري في مناهج التحليل الأنثروبولوجي لنظام الفصل العنصري، الأبارتيد، في كتابه "انتظار: البيض في جنوب أفريقيا"، 1985. وضجّة ثالثة في صفّ الأنثروبولوجيا الثقافية، من خلال كتابه الاختراقي "معضلة هرميس ورغبة هاملت: حول إبستمولوجيا التأويل"، 1993.
المقولة الأساسية في "خدمة الكلمة" تسير هكذا: هذه الأمّة تحمل التوراة بيد والدستور بيد أخرى، وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور) فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة) من جهة أولى، وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية من جهة ثانية. وهكذا فإنّ منبر الوعظ يمكن أن يغادر الكنيسة لكي يستقرّ على منصّة القاضي في المحكمة، وليس غريباً أن يقول أحد قضاة المحكمة العليا (أي تلك التي لا يعلو على رأيها رأي قانوني أو تشريعي) إنّ موادّ الدستور الأمريكي هي "إلهام من الربّ"!
لكنّ الأنثروبولوجيا الميدانية ليست وحدها محطّ اهتمام كرابانزانو في تنقيبه عن الجذور الدينية الأصولية لظواهر ومظاهر نزعة التأويل الحرفي، لأنه أيضاً يلجأ إلى التحليل اللغوي والنصّي الثاقب لعدد من الأعمال التي تفسّر الدنيا بالدين، وتحيل موادّ الدستور الأمريكي إلى إصحاحات وأعداد خارجة مباشرة من أسفار الكتاب المقدّس. وحين نتذكّر أنّ الأولوية الكبرى عند الذين صوّتوا لبوش في الانتخابات الأخيرة لم تكن الإرهاب أو الأمن القومي أو العراق أو الاقتصاد أو التأمين الصحي، بل كانت ببساطة "القِيَم الأخلاقية"، فإن هتك كرابانزانو لأستار تلك الميول الكامنة يتجاوز النشاط الأنثربولوجي أو العلمي المحض، ليصبح استكشافات ثقافية وأخلاقية وسياسية بالغة الحساسية.
خذوا، مثلاً، حكاية يان ماتيس، زعيم فرقة المعمدانيين الألمان الذي أعلن، في عام 1530، أن روح أنوش (حفيد آدم الذي عاش 815 سنة، حسب سفر التكوين) تقمصت جسده وطالبته بالسيطرة على مدينة مونستر، والتمهيد للقيامة والمجيء الثاني ليسوع. خليفته يان ألليدني أعلن أن المدينة باتت تسمى "صهيون الجديدة"، فأباح فيها تعدد الزوجات، وأحكم قبضته عليها بالحديد والنار والقسوة الشديدة. وحين تمكنت السلطات من تحرير المدينة، قُيّد الرجل بكماشة من الحديد الحامي وتُرك في العراء لكي ينتظر القيامة لوحده. إنه اليوم أحد الأبطال الملهمين لنصف دزينة من الفِرَق المعمدانية الأمريكية، هذه التي حشدت واحتشدت وقاتلت وصارعت من أجل نصرة بوش!
وفي الأمثولة القوقازية تشفق الأمّ المربية على الطفل فلا تشدّه خارج الدائرة، عكس ما تفعل الأمّ الوالدة، فيقرّر القاضي أنّ الأولى هي الأمّ الحقيقية. ليست هذه حال جورج بوش، إذْ أنّ الأمّ المحافظة تشدّه خارج الدائرة بأغلظ مما تفعل الأمّ الأصولية، والمشكلة أنّ العالم بأسره بين الثلاثة كامخ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة