الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990-القسم الاول

نزار ياسر الحيدر

2011 / 8 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


شاء القدر أن أكون عشية غزو صدام للكويت على مشارف حدوده البرية (جندي احتياط كاتب) في موقع الدريهمية بسبب وشاية مؤلمة من قبل أحد (المندائيين) والتي نقلت بسببها من بغداد إلى البصرة ، وبعد معاناة كبيرة استمرت لأكثر من سنة ، ثُبِّتُ في هذا الموقع العسكري كجندي كاتب ،حيث كان يتمحور العمل فيه على تقديم الخدمات الإدارية لقطعات الجيش في منطقة البصرة، كالطعام والأرزاق ، وكان يقع بجوار مدينة الزبير مقابل مصنع البتروكيمياويات ، لأن شعلة هذه المؤسسة كانت تنير ليالي الموقع بدون انقطاع . لقد كان لهيب صيف الصحراء أثناء النهار لايطاق؛ لكننا كنا نستمتع ببرودة هوائها ليلا، إذ نفترش شبه أسرة صنعت من نفايات الجيش وبقايا معداته المتآكلة أصلا؛ كي نرتفع عن الأرض لمسافة قدم أو أكثر قليلا، هروبا من العقارب السامة الصفراء التي تكثر في تلك المنطقة، التي يصعب عليها تسلق أرجل السرير ، كي تلسع الجنود المساكين المستلقين في العراء، الذين طالت خدمتهم العسكرية حتى أنهم يجهلون متى يعودون إلى أهلهم بسلام ، بعد أن خاض الكثير منهم حرب الثماني سنوات مع إيران، ونجا كل منهم بأعجوبة، فاستمروا بخدمة (العلم) أو الاحتياط حتى ذلك الوقت، وأنا كنت واحدا منهم .
نظرا لكوني أعمل بقلم إدارة الموقع وأطلع على المراسلات والبريد، أنا ومن معي من ضباط الصف والجنود الذين يقل عددنا عن العشرة؛ شعرنا أن هناك حركة غير طبيعية للجيش دخلت قاطع البصرة قبل أيام من الغزو، حيث دخلت قطعات من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، والكثير من القطعات المدرعة والساندة بشكل يثير الانتباه ، وكان ضباط الإعاشة والميرة يراجعون موقعنا للتزود بالأغذية والمواد التموينية لوحداتهم ، بحيث أننا فوجئنا بكثرة هذه الطلبات غير المسبوقة ، وكنا نسأل ضباط هذه الوحدات عن الغاية، وسبب تواجد قطعاتهم في البصرة ، فكانوا يجيبون بأنهم لايعلمون أي شيء عن الواجب !! لكننا كنا نربط الأخبار التي نستمع لها عن طريق المذياع والمحطات الأجنبية بما نراه على الأرض ، وما يدور من أنباء حول الأزمة السياسية بين العراق والكويت، ومطالبة نظام صدام بمبلغ مليارين ونصف المليار دولار كتعويض من الكويت للعراق عن خسائر مُني بها العراق جراء انخفاض أسعار النفط، أو الاتهام الذي وجه إلى الكويت لسحبه كميات من نفط الرميلة الجنوبي العراقي، كذلك كنا نسمع بلقاءات الوفود العراقية الكويتية والوساطات السعودية؛ لكن الجميع - بصراحة - كان يستبعد أن تُشنَّ حرب جديدة والعراق لايزال يئن من حربه مع إيران، التي أكلت الأخضر واليابس، وخرج العراق منها بخفي حنين !! .
كنا نسأل ضباط تموين الوحدات الذين جاؤوا إلى وحدتنا يطلبون الأرزاق عن أوضاعهم العامة، فكانوا يشكون لنا حالهم ويقولون نحن لانعرف ماهي مهمتنا في البصرة وليس لدينا مكان نعسكر به ولاتزال قطعاتنا تقف في مداخل وشوارع البصرة، والجنود يستظلون بالنهار تحت سيارات الجيش ودباباتهم هربا من حر وشمس تموز القاتلة ، واستمروا على هذا الحال لأكثر من أسبوع ، فمنهم من يتجه إلى البصرة ومنهم من يتجه إلى الكويت وآخرون يتجهون إلى الناصرية وآخرون إلى الفاو، حتى أن منهم من يتجه إلى الشلامجة / إيران !!! .
كانت الأخبار تتلاحق وتتصاعد المواقف بين العراق والكويت لكن الجميع يستبعد أن تكون هناك حرب بالمطلق ، والكل يقول إن هذه القطعات جيء بها للضغط على الكويت ليس إلا .
في مساء 1 /2 آب 1990 استلقينا - نحن مراتب القلم - كل على سريره، وكان لدي راديو يعمل بالبطاريات أستمع منه إلى الأخبار، وكانت الأمور تبدو مثل كل يوم وليس بها جديد؛ عندها خلدت إلى النوم مستمتعا ببرودة صحراء الزبير الليلية، ومستعدا لنهار قائض جديد يعز فيه الهواء والماء البارد، حتى كانت الساعة الرابعة فجرا فإذا بأصوات أعداد مهولة من طائرات الهليكوبتر تمر فوقنا قد تصل إلى خمسين طائرة، وبنوعيات وألوان مختلفة تحلق بشكل مجموعة متقاربة المسافات متجهة إلى الكويت ، فاستفقنا جميعا على أصواتها المدوية، وبدأنا نتساءل ونبحث في موجات الراديو فلم نسمع شيئا مفيدا، وكان كل شيء طبيعيا، ثم توالت طائرات الهليوكوبتر بشكل ثنائي وأحادي متجهة إلى الكويت، واستمر هذا المشهد حتى بزوغ الشمس وطلوع النهار، ثم بدأت بعض هذه الطائرات بالعودة باتجاه البصرة، عندها بدأنا نستمع إلى نداء إذاعي يبدو أنه مسجل مسبقا للطوارئ، وكان بصوت الأمير جابر الصباح، أمير الكويت، وهو يستنجد بالعرب ويقول مانصه : ( لقد استباحوا الكويت... أنقذونا ياعرب... اليوم علينا وغدا عليكم ...) وكان هذا النداء يتكرر باستمرار، وتتحول الموجه بالراديو وكأنها تختفي ثم تعود مرة أخرى إلى نفس المكان، واستمر هذا النداء لمدة أسبوع بعد الغزو... ثم انقطع بعدها نهائيا !!؟ .
عند الفجر علمنا بأن سيارات الحرس الجمهوري المحمول عليها رشاشات ثقيلة انطلقت منذ الفجرمع توجه الطائرات إلى الكويت ، حينها بدأنا نستمع إلى الراديو، وإلى البيانات التي أعلن فيها العراق اجتياح الكويت، وعن انقلاب قام به ضباط كويتيون استولوا على السلطة، وهروب أمير الكويت إلى السعودية، وتفاعلات الأحداث المعروفة للجميع ، ثم استأنفنا عملنا الاعتيادي في مكتب الموقع، وبدأت تتوالى طلبات وحدات الجيش من احتياجات تموينية لوحدات اجتاحت الكويت .
عند انتهاء الدوام ظهر ذلك اليوم المليء بالأحداث، وتوالي الأخبار وتضاربها؛ ازداد الخوف والقلق الذي انتاب الجيش، وأيقن الجميع بأن العراق دخل بأزمة وحرب مدمرة جديدة، خصوصا ونحن نستمع إلى البيانات العسكرية التي تستدعي الاحتياط واستنفار الدولة. ذهبنا ظهرا لنستلقي على أسرتنا في ذلك اليوم القائض ، وتحت رحمة المروحة السقفية التي تنفث هواءها اللاهب علينا، حتى أمست الساعة الثالثة والنصف ظهرا، فإذا ببعض الجنود تتعالى أصواتهم ليعلنوا أن الجيش جلب أسرى كويتيين إلى الموقع ، فنهض الجميع وخرجنا إلى مقر الموقع، فإذا بنا نرى ثلاثة عشر باصا من باصات النقل الداخلي الكويتية الزرقاء من نوع مرسيدس( التي استخدمت لاحقا في شوارع بغداد لنقل الركاب) مملوءة بأعداد كبيرة من الرجال المختلفين في أشكالهم وملابسهم ،فيهم عسكريون، وشرطة كويتيون، وهناك مدنيون بدشاديشهم، وهنود وباكستانيون وفلبينيون وايرانيون، وغيرهم أجانب من جنسيات مختلفة، حتى عراقيون !!! وكان كل باص يحرسه جندي مسلح يجلس بجانب سائق الباص، يتقدم رتل الباصات سيارة بيكب مسلحة يجلس ضابط برتبة نقيب حرس جمهوري في مقدمتها، وفي مؤخرة الرتل هناك أيضا سيارة بيكب مسلحة .
لقد كان جميع الركاب يلهثون من العطش، ويطلبون الماء وبيدهم قناني ماء فارغة أجهل من أين حصلوا عليها ؟، يستنجدون بالجنود الذين أحاطوا بالباصات يتوسلونهم كي يملؤون لهم هذه القناني، وكان قسم منهم يتوسلون ويريدون أن ينزلوا من الباص كي يقضوا حاجاتهم، أو لغرض أداء الصلاة، والجنود الحراس المسلحون في الباص يمنعون إنزالهم؛ فقمنا - نحن جنود الموقع - بالتناخي واستنهاض بعضنا البعض كي نسقي هؤلاء الأسرى العطاش؛ لكننا كنا أصلا نعاني في الموقع من شحة الماء الصالح للشرب بسبب سوء خدمات الإعاشة العسكرية، وعدم وجود سيارة حوضية لجلب الماء للموقع، ولأن الجميع يريد أن يشرب ولثلاثة عشر باصا مليئا بالبشر، ولأننا لسنا مستعدين لتلبية طلبات الجميع مرة واحدة؛ قمنا بانتزاع (سطلات) الحريق الموضوعة في الموقع وأسرعنا بملئها من خزانات الماء ( الصدئة) وبدأنا بملء قناني الماء الفارغة كي نسقيهم، وعمل الجنود سلسلة بشرية لنقل الماء، وبعد أن سقينا الجميع تقريبا بدأنا نتوسط لدى الضابط النقيب الذي يقود الرتل بأن يسمح للبعض منهم بالنزول لقضاء حاجته، أو الصلاة؛ فوافق على شرط أن ينزلوا بشكل منفرد وكان يصرخ علينا : (تريدون تهجمون بيتي... كلهم معدودين علي واحد واحد... ولازم أسلمهم الى جهة لاأعرف أين هي !!!!) . وكان يغادرالسيارة ويتصل بالتلفونات من مقر الموقع ولاأحد يجيب أويرد عليه أو يخبره أين يجب أن يأخذ هؤلاء الأسرى ولمن يسلمهم !!!؟.
كنت أدور على الباصات وأنا أحمل ( سطل ) الماء الحار وأملأ لمن يريد المزيد من الماء حتى وصلت إلى آخر الباصات؛ فاذا بي أجد أربعة أو خمسة أشخاص أوربيي الشكل وهم مدنيون، ويبدو عليهم أنهم شخصيات مهمة، فاستنجدوا بي وقمت بملء قنانيهم الفارغة بالماء، وسألوني هل أجيد التحدث بالإنكليزية، فأجبتهم بالإيجاب فكلمني أحدهم عبر نافذة الباص بما معناه (إنه السكرتير الأول للسفارة السوفيتية في الكويت، وأبرز لي هويته الدبلوماسية، وقال إنه لايعرف لماذا هو هنا في هذا الباص، فقد فوجئ وهو ذاهب إلى مقر عمله صباحا بأن القوات العراقية أنزلته من سيارته الدبلوماسية هو وسائقه وتركوها في عرض الشارع وأصعدوه بالقوة إلى الباص ) وهو يتوسل لهم ويقول لهم إنه دبلوماسي وهويته هذه؛ ولكن ما من أحد يستمع له وهو لايعرف مع من يتحدث، ولايريد أحد أن يستمع له فقال الأشخاص الاخرون الأجانب الذين بقربه - وهم أيضا يتحدثون الإنكليزية - إنهم دبلوماسيون أيضا، ومن دول أوربية أخرى لا أتذكر بالضبط من أين، وتوسلوا بي أن أساعدهم بإقناع آمر الرتل بوضعهم الخاص، وإن الدبلوماسي السوفيتي أخبرني بأنه مريض بالقلب ولديه دواء يجب ،ن يتناوله بموعده ولا أحد يعرف عنه أي شيء، فتناخيت مع نفسي وذهبت إلى آمر الرتل النقيب، وبعد أن أديت له التحية العسكرية أخبرته بقصة هؤلاء الدبلوماسيين، وبوضعهم الصحي فأجابني بإنه استلم هذه القافلة بعدد مثبت لديه بكتاب رسمي ويريد أن يسلمهم في العراق إلى جهة لايعرف ما هي، وهو يجري اتصالاته مع المراجع وينتظر الرد، ولايستطيع أن يفرج عن أحد منهم لأنه سيُحاسَب على كل واحد منهم، لكنني توسلت إليه وأخبرته بأن في الباص الأخير يوجد دبلوماسيون، وهؤلاء أناس وراءهم دول يمكن أن تحصل مشاكل سياسية لها مع العراق بسببهم؛ وخاصة أن أحدهم مريض بالقلب فقال : ( أخي أنا أفهم كلامك؛ لكنني لاأستطيع التصرف بمفردي، وسأقوم بإخبار من سيستلمهم مني لعله يستطيع مساعدتهم ) فعدت مسرعا إلى الباص الأخير وأخبرت الدبلوماسيين بما دار بيني وبين آمر الرتل بعد ان ملأت لهم قناني الماء مرة أخرى من ( سطل ) الحريق الذي استخدم هذه المرة لإطفاء عطش الأسرى وليس حرائق الوحدة، حتى انطلق الرتل مغادرا وخرج من موقع الدريهمية إلى حيث لا أدري، أو يدري أحد، والله أعلم أين حل بهم الدهر.
المؤلم في هذا المشهد أن بعض الأسرى الموجودين في تلك الباصات رجال عراقيون يعملون في الكويت جرى أسرهم بشكل عشوائي من الشارع وهم يصرخون بأنهم عراقيون ولكن ما من مغيث !!! .

دمشق 2 آب 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - توضيح مهم من كاتب المقال
نزار ياسر الحيدر ( 2011 / 8 / 2 - 21:07 )

أود أن أوضح للقراء الكرام بأنني مندائي وأعتز بمندائيتي، وما جاء في بداية المقال من جملة
بسبب وشاية مؤلمة من قبل أحد (المندائيين) والتي نقلتُّ بسببها من بغداد إلى البصرة
هي من شخص كان مقرباً لي وكنت قد أغرقته بأفضالي وقد نكر الجميل وغدر بي بسبب مشكلة عائلية، ولهذا كان ذلك التصرف الرديء حينها ولا يزال بالنسبة لنا غريباً مؤلماً، وقاسياً، وشكراً لكم


2 - أنظمة رعناء جنت على وطن بأسره
مديح الصادق ( 2011 / 8 / 2 - 23:16 )
الأستاذ نزار الحيدر المحترم، تحية طيبة
كعادتك تخرج علينا بين الفينة والأخرى بموضوع تستله إما من خزين ذاكرتك، أو من الموروث الشعبي؛ لتوظفه وفق متطلبات الظرف الراهن، حيث المفاجآت والتغيرات التي لم تكن بالحسبان
لابد أن نستخلص درسا مفيدا من كل ما نوثق، ولعل في مقالكم دروس : الأول غطرسة النظام السابق وانتهاجه مبدأ القوة لحل المشاكل مع شعبه وجيرانه والنتيجة تدمير الشعب وما تحته
الثاني : مدى همجية حكام الكويت ووحشيتهم واستهتارهم بحقوق الجوار ما أعطى فرصة الغزو، وهاهم بنفس النهج حتى اليوم، الثالث : أن العملية كانت بعلم الأمريكان وموافقتهم؛ لكنهم انقلبوا عليه، مثلما انقلب عليهم فيما بعد، والضحية بعد كل هذا هم المساكين من العراقيين، لا غير

اخر الافلام

.. رئيس الوزراء الاسرائيلي يستبق رد حماس على مقترح الهدنة | الأ


.. فرنسا : أي علاقة بين الأطفال والشاشات • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد مقتل -أم فهد-.. جدل حول مصير البلوغرز في العراق | #منصات


.. كيف تصف علاقتك بـمأكولات -الديلفري- وتطبيقات طلبات الطعام؟




.. الصين والولايات المتحدة.. مقارنة بين الجيشين| #التاسعة