الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدن كالنساء

حنين عمر

2011 / 8 / 2
الادب والفن


المــــــــدن كالنــــــــساء
لـ: حنين عمر

أحب المطارات التي تأخذني بعيدا....، لا اقصد هنا المطارات التي تأخذني لحضور احتفاليات أدبية، فأنا بصراحة لا أهتم كثيرا بمطارات تحملني نحو بهرجة الكتابة بقدر ما أهتم بالتي تحملني نحو نفسي وصدقي ورغبتي في البحث عني، إنما أقصد أنني أحب المطارات بمفهوم مطلق قد يبدو فلسفيا بعض الشيء، أحبها لأنها تشبه الحياة :لحظة فراق لماض...لحظة لقاء بآت....لحظة ألم... لحظة ضياع ... لحظة إثارة..إنها لحظة حقيقية بالمختصر. تلك اللحظة الحقيقية هي ما يهمني فعلا من كل القصة: غصتي على مقعد الطائرة، شعوري بالضياع الجميل، ارتفاعها أعلى وأعلى ... ثم أعلى ... علي أموتُ محلقةً!!!!

ثم لابد انني أبحث شيء ما في هذا العالي؟، شيء تركوازي الملامح يسمى انتماءً ربما و شيء يسمى أمانا، شيء يسمى ... لا أدري ماذا أسميه؟؟؟، وليس مهما أن أسميه على كل حال فأجمل الأشياء هي ما يبقى بلا أسماء. لكن هناك شيء آخر أحبهُ يأتي بعد المطار إسمه "المدن"....من منا ليس لديه مدينة في ذاكرته ؟؟؟
تلك المحطات التي تدهشني ، تحيّرني ، تأخذ مني وتعطيني، تمزجني بحالاتها وبعطرها وتجعلني أجفل كلما فرشت الخريطة وتأملتها، تتراءى لي فيها خيالات الناس العابرين في الشوارع، وشبابيك البيوت وواجهات المحلات، تتراءى لي ذاكرتها التي تشكل جزءً منّا ونشكل جزءً منها ولا نشعر بهذه العلاقة عميقا إلا حينما نتركها خلفنا أو تتركنا خلفها.

يقول التاريخ – بالمناسبة- أن أقدم مدينة على الأرض هي أريحا الكنعانية القديمة، ويعود تاريخها إلى العصر الحجري، وأصل اسمها هو مدينة القمر بالكنعانية - من كلمة اليرح بمعنى قمر- ومع أن القمر مذكرٌ إلا أنّي مصرة على أن المدينة امرأة ....امرأة تضع في شعرها وردة الليل ، وتتعطر بأنوثة الانتماء و بطيبة الاحتواء وتكتحل بالذاكرة، امرأة تحبل بآلاف النجوم الصغيرة وتمطر عشقا على خطى العابرين و تخيط بالأغنيات ثياب الشجر.
كل المدن التي دخلتها كانت امتدادا لأنوثتي وكنت امتدادا لأنوثتها، هناك مدن طيبة أصبحت صديقتي، وهناك مدن شريرة طردتني من بابها، هناك مدن علمتني كيف أجعل الريح يمشط شعري الطويل، وهناك مدن ركضت خلفي بمقص لتنتقم منه، هناك مدن أحببتها وأحبتني فمنحتني شوارعها لأمشيها طويلا واترك في هدأة ليلها رائحة عطري موسيقى كعبي، وهناك مدن أحببتها ولم تحبني فأقفلت في وجه قلبي بابها و أغلقت خلفه مزلاج العودة، وهناك مدن لا أنا أحببتها ولا هي أحبتني فعبرتها كأنما لم عبرها ونسيتني ونسيتها.

هناك مدن أصبحت صديقتي ...صرت أعرفها وتعرفني، أشتاق إليها وتشتاق إلي، نتواعد دائما بين الحين والحين ونشرب فنجان شاي بحميمة في مقاهيها البعيدة ونحن نثرثر عن الحياة وفلسفة المسافة، وهناك مدن رفضت الحوار معي فلم أحادثها ولم تحادثني ...حييتها ومررت، وهناك مدن لا مبالية لا هي اكترثت بزائرة غريبة ولا أنا اكترثت بتخفيف غربتي فيها.
هناك مدن عرفتني طفلة تبحث عن لعبة في محلاتها... ومدن عرفتني مجنونة تفلسف العابرين فيها على إيقاع التأمل والقصيدة... ومدن عرفتني حزينة أغسل مساءاتها بالدموع ...ومدن عرفتي سعيدة ألون جدرانها بضحكاتي وأرسم عصافير تخرج منها لتحلق في سماءات بعيدة.
هكذا أرى أن المدن كالنساء ...وكل مدينة بالنسبة لي هي كائن أنثوي علي أن اكتشفه بحزني أولا، أن أحدد ملامح علاقتي به منذ أول شهقة آخذها من هوائه مباشرة بعد فتح باب الطائرة.

هكذا أرى المدن المتناثرة على الخريطة الكونية ....ولكنني سأميّز بينها وبين مدننا العربية التي تتعدى كينونتها كونها من النساء إنما تصل لدرجة :الأمهات....
إنها مدن حنونة وطيبة ، تغمرنا بالحب والحميمة والخصوصية وتزرع فينا عرائش الياسمين وأشجار الزيتون وأزرق السماء وعظمة التاريخ و رائحة الزعتر و أغنيات الحنين...إنها مدنٌ "أمهاتٌ"....أما الانتماء فهو الرجل الذي يتزوج مدينة ما منها لـ "ينجبنا". .. ربما لهذا أبتسم الآن لولادةٍ جديدة أشعر بها فأرسم 22 قلبا على الخريطة.
حنين
سلسلة مقالات فانيليا - الصدى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أنت أديبة بالمولد
عبدالله صقر ( 2011 / 8 / 3 - 01:00 )
ما أروع كلماتك التى إن دلت على شيئ إنما تدل على أنك كاتبة وشاعرة فالكلمات التى كنت أقرأها فيها من أحساس الشاعرة وأيضا وكأنى أقرأ مقطوعة شعرية جميلة , وفقك الله يا أبنتى العزيزة , لانى متنبأ لك بمستقبل باهر فى مجال الادب عموما , ولك أحترام الاب لابنته .

اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??