الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليبرالية الإجتماعية ومستقبل النظام السياسى العربى

عماد مسعد محمد السبع

2011 / 8 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


يثور التساؤل حول طبيعة النظام السياسى و الإجتماعى المقترح فى مرحلة مابعد الإنتفاضات العربية المتلاحقة . واللافت - فى هذا الصدد - أن الإجتهادات الفكرية والرؤى الإستراتيجية المتعلقة بالمستقبل العربى وفن أدارة تطوره تبدو غائبة بوجه عام عن هذا المحيط الثائر .

ثمة معطيات موضوعية تقف وراء غياب هذا الإهتمام المستقبلى , فأبنية القمع السياسى حالت دون دمج العرب فى سياق منظومة التطور الديموقراطى والحقوقى العالمى , كما فشلت دولة مابعد الإستقلال فى أنجاز عملية البناء الإقتصادى الرافد لإنتاج بنى مغايرة لتكويناتها الإجتماعية التقليدية .

فضلآ على أن هناك ولع ثقافى ودينى عربى بتقديس التاريخ و الوقوف عند الماضى على حساب العناية بقراءة المستقبل وصيرورة التطور . وماصعود و شعبية ظاهرة الإسلام السياسى و السلفية الدينية الإ برهانآ على الإنسحاب " لماضوية " لا تعبر عن روح العصروالإرتباط بجديد نظمه وقيمه وأنساقه .

ومما لا شك فيه أن أنتفاضة و حراك شباب الفئات الوسطى - التى ارتبط قاسمها الأكبر بجانب من منجزات العولمة التكنولوجية والإتصالية - يمثل محاولة لبناء تاريخ مغاير لشعوبها .فالفعل الثورى القائم هو بمثابة سيطرة على أدارة التطور وعلى الوعى بالمستقبل الذى يمثل المدخل الحقيقى لصناعة التاريخ الحقيقى لشعوب هذه المنطقة .

وتكشف الشعارات التى رفعها الجمهور العربى الثائر من ( حرية و ديموقراطية و عدالة أجتماعية ) , وكذا التحليلات الراصدة للطبيعة الطبقية لتلك الإنتفاضات وطليعتها عن أنحياز- بشكل أو بآخر - لنموذج : الليبرالية الإجتماعية.

ومما لاشك أن هذا النموذج – بصيغته التى تتداولها بعض الفعاليات والإتجاهات السياسية و الإجتماعية العربية – يبقى حتمآ خارج سياق التاريخ ما لم ترفده أرادة حرة وواعية من جانب الفئات الوسطى التى أضطلعت بالفعل الثورى والإنتفاضى .

ورغم عدم تبلور هذا الوعى بشكل حاسم فأن هذا النموذج يبدو الأكثر قبولآ من جانب القوى العلمانية الناشطة فى الساحتين المصرية والتونسية , واللافت أن مطالعة البرامج السياسية التى طرحتها الأحزاب الدينية ( الإخوانية خاصة ) – التى تتبنى مرجعيات دينية أو مابات يسمى بنظام مدني ذو مرجعية أسلامية – تكشف نظريآ عن محاولة للإلتحاق بمفرداته والتسويق له باعتباره ترجمة لمبادىء الشورى والعدالة والحرية التى يدعو إليها الإسلام .

التبشير بأطروحات ومؤسسات " الليبرالية الإجتماعية " - بتشوهاتها و تنويعاتها ودرجاتها المتداولة بين التيارات المدنية والدينية - يستوجب وقفة لبيان خصائصها ومقوماتها الفلسفية والسياسية وفق الطرح النظرى والعملى الغربى .

يمكن تعريف "الليبرالية الإجتماعية " بأنها رؤية تجتهد لإيجاد همزة الوصل بين الفرد والإمكان الإجتماعى . ومن ثمة تعترف بالأزمة كظاهرة بنيوية فى التاريخ ومستقبله . وهى لاتسلم بوجود غايات نهائية للتاريخ ولكنها تروم البقاء داخله من خلال التأكيد على قدرتها على أنتاج حلول مناسبة للإشكاليات السياسية والإجتماعية الجديدة و المتلاحقة .

أنصار الليبرالية الإجتماعية يؤكدون دومآ على أنها لا تقوم على " عقيدة مسبقة " , وأنها ولدت بشكل تلقائى من رحم المجتمع المدنى فى مرحلة النظام التجارى ماقبل الرأسمالى ( المركانتلى ) , وأنها تفاعلت مع مشكلات هذا المجتمع وارتهن تطورها بتطوره الإقتصادى والإجتماعى و أنها أنحازت لفكرة " الدولة القومية " وعيآ بماهيتها التى تصل الفرد بالكل الإجتماعى .

فالدولة وفقآ لمفهوم الليبرالى الإجتماعى هى ذروة الفعل الإنسانى داخل حركة التاريخ و مستقبله , فهى ليست نقيض المجتمع المدنى و ليس هناك ما يبرر الفصل بينهما – فالمجتمع المدنى الذى يقف فى المسافة بين الفرد و الدولة يظل الحارس على شرعية هذه الدولة كما أن هذه الأخيرة هى الحارس على الحريات المدنية .

ويمثل الموقف من الدولة والمجتمع المدنى أحد أوجه التمايزالهامة بين الليبرالية الإجتماعية والجديدة . فالليبرالية الجديدة تتبنى فكرة الفصل بين الدولة و المجتمع المدنى حيث عقدت مصالحة تاريخية بين الرأسمالية و الليبرالية فى مجال التقدم التكنولوجى و المعلوماتى وفى أطار الفكر الفردى التقليدى . ولذلك فهى ترفض أفكارالمجتمع المدنى ولا تراهن على الدولة القومية بل تؤكد على أطروحة " نهاية التاريخ " باعتبار أن ما تم تاريخيآ هو نفى لكل الصيغ المضادة للحرية الفردية.

وفى حين تدعم الليبرالية الإجتماعية أمكانية تلبية الحاجات الأساسية اللازمة للفرد باعتبارها حقوقآ أيجابية تستخلص من أفراد آخريين وتقدم عن طريقهم , وتحرص على تأييد التدابير الحكومية الخاصة بتوفير الحد الأدنى من مستوى معيشى يحقق رفاهية البشر و يأتى قبل منظومة الحقوق الفردية .
فأن الليبرالية الجديدة تلتزم موقفها من أن هذه الحقوق الإيجابية تمثل تعديآ على حقوق الآخريين وأفتئاتآ على الدور المرصود للحكومات وأنتهاكآ لمشروع التجارة الحرة و تمدد العولمة الرأسمالية .

وأذا كانت الليبرالية الإجتماعية قد أنتصرت لحقوق الإنسان , فأن " الكل الإجتماعى " عندها هو وحدة التحليل و ليس الفرد أو الطبقة , وهو كل يرتبط بتوسيع رقعة الفئات والشرائح الوسطى بمفهومها الثقافى . فالإنسان فى هذا المجتمع الليبرالى يجب أن يملك فرصة قائمة للعمل ليكون مسئولآ عن أستثمارها فى تنمية قدراته و بما يمكنه من المشاركة فى الشأن العام , فهو ليس الفرد الذى يأسره أشباع الحاجة وأنانية الرغية كما تتمثله الليبرالية الجديدة المعولمة .

وأذا كان " الكل الإجتماعى " هو وحدة التحليل الأساسية وفق الليبرالية الإجتماعية فأنه لا يمكن فهم حقوق الإنسان إلا فى ضوء التطور الإجتماعى . ومن هنا يتعين تجاوز الجدل بشأن الماهية الأولى للطبيعة البشرية - ما أذا كانت خيرة بالفطرة كما يقول " روسو " أو شريرة كما يقول " هوبز " - لأنها أشكالية هذه الماهية موضوع " خارج التاريخ " , فالمهم هنا هو " الوعى و القدرة على الإنتصار للحرية فى سياق تاريخى معين " الأمر الذى يدفع نحو تزكية التوسع فى منظومة الحقوق الإجتماعية كى تتطابق مع دائرة الحقوق الطبيعية والسياسية – وفق هذا المنطق .

تلك هى الملامح الأساسية لليبرالية الإصلاح أو الرفاهية reform , welfare Liberalism فى التجربة الغربية - التى تقدم كمنهج عملى و ليس كعقيدة سياسية - وحيث يستلهم مفرداتها التوافقية وخطوطها العريضة جانب مؤثر من التيارات السياسية الصاعدة فى مرحلة الإنتفاضات العربية .

ومما لاشك فيه أن أنجاز القدر المقبول من مشروع " الليبرالية الإجتماعية " فى واقعنا العربى ووفق الأطروحات والبرامج الحزبية والسياسية التى تتبناها بصيغ مختلفة يصطدم بمعوقات عديدة .

فالتكوينات الإجتماعية والإقتصادية العربية التى تتداخل فيها علاقات أنتاج أقطاعية وما قبل رأسمالية مع نظم ريعية وتجارية وأحتكارية - بموزاييك تحالفاتها الطبقية المتباينة - والتى تحتضنها أنظمة أوليجاركية أو خراجية أورأسماليات دولتية تابعة تحول دون أعتماد النسق الليبرالى الذى يفترض وحدة وأتساق وحرية المبادلات داخل السوق الإقتصادى والسياسى .

كما أن البنية السياسية التحتية العربية تبقى قاصرة لأن مرتكزات وقواعد الدولة والسياسة والحزبية و المؤسسات الحديثة لم تنضج فى ظل أنظمة الحكم الشمولية والطغيانية المتوالية . فضلآ عن سيطرة الإنقسامات والتباينات الطائفية والأثنية والقبلية والعصبية و الجهوية على المشهد السياسى والإجتماعى , الأمر الذى يعيق نشأة و تطور " مجتمع مدنى و فضاء أهلى " فاعل فى المسافة بين الدولة والفرد .

كما أن التيارات الإسلامية السلفية والراديكالية – وهى تتمتع بنفوذ وشعبية لا يمكن جحدها - تختزن عداءآ أصيلآ للفكرة الليبرالية والحقوقية فى طرازها الغربى وباعتبارها نتاجآ وضعيآ ينال من الحاكمية لله ويعلى من شأن القانون البشرى والحق الدهرى فى مواجهة أحكام الشريعة الربانية .

أان أفكار الليبرالية الإجتماعية لم تتبلور داخل النموذج الغربى الإ عبر الممارسة و تنافس المصالح وتوازن الصراعات الإجتماعية و السياسية داخل النظام والمجتمع و المجال العام مع قدرة هذا النظام على أستيعاب هذه المنافسات و الصراعات و الضغوط فى أطار سلمى . وتلك أمور لم يخوضها الجماهير العربية التى مازالت ترفل نسيج القيم السياسية والأخلاقية التقليدية والبدوية .

عوائق أستعارة و تمثل وهضم المنظومة السياسية و الحقوقية الليبرالية ليست باليسيرة وتمتد إلى عوامل أكثر تركيبآ وبنيوية فى ثقافة المجتمعات العربية , ومع ذلك فأن القوى التقدمية والعلمانية والإشتراكية مطالبة فى هذه المرحلة بالوقوف خلف هذه الأطروحات والدفاع عنها كمرحلة أنتقالية لإعادة دمج الفواعل الإجتماعية فى سياق السياسة والعمل العام .

وفى ظل غياب الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة فى التغيير الجذرى للبنى الإجتماعية وعلاقات الإنتاج المادى والملكية السائدة عن مشهد الإنتفاضات العربية - فأن دعم أفكار الليبرالية الإجتماعية يصبح واجبآ كخطوة نحو الإعتداد بالكل الإجتماعى ولجذب مزيد من الأنصار لمنظومة الحقوق الإجتماعية ولتأكيد حضورالأفكار المدنية والوضعية فى مواجهة المد الدينى ومنظومته الحقوقية اللاهوتية .

ولعل ذلك يسهم للمرة الأولى فى أن نملك بإرادة حرة واعية صناعة التاريخ داخل واقعنا العربى , وألا نقف عاجزين كالعادة نتأمل جديد تحولاته ومتغيراته .
عماد مسعد محمد السبع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مخاتلة 1
عبد القادر أنيس ( 2011 / 8 / 5 - 19:24 )
أتبنى تماما عرضك ومع ذلك فما أنهيت به مقالك مخيف: ((القوى التقدمية والعلمانية والإشتراكية مطالبة فى هذه المرحلة بالوقوف خلف هذه الأطروحات والدفاع عنها كمرحلة انتقالية لإعادة دمج الفواعل الإجتماعية فى سياق السياسة والعمل العام .))، وقولك ((وفى ظل غياب الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة فى التغيير الجذرى للبنى الإجتماعية وعلاقات الإنتاج المادى والملكية السائدة عن مشهد الإنتفاضات العربية)).
وكأنك تقولوا: تعالوا يا رأسماليين وطنيين، تعالوا يا لبراليين، تعالوا يابرجوازيين صغار، تعالوا يا من لا تتفقوا معنا حول الشيوعية، تعالوا جميعا نهزم القوى الأصولية، وبعدها نطبق بيننا قانون الغاب، من تمكن من افتراس أخيه فليفعل. و((القوى التقدمية ووو مطالبة فى هذه المرحلة بالوقوف خلف هذه الأطروحات ... كمرحلة انتقالية لإعادة دمج الفواعل الإجتماعية فى سياق السياسة والعمل العام .))، وعندما ينتصر هذا اليسار يجمع الجميع قسرا في كتلة واحدة يذوب فيها الجميع تحت أصحاب الحقيقة المطلقة... أليس هذا ما يفعله الإسلاميون بدولتهم المدنية الإسلامية؟
يتبع


2 - مخاتلة 2
عبد القادر أنيس ( 2011 / 8 / 5 - 19:37 )
بعد هزيمة الأصولية والاستبداد يواصل اللبراليون المخلصون للبراليتهم التمسك بالديمقراطية والحريات ويواصل اليسار المخاتلة ((فى ظل غياب الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة فى التغيير الجذرى))، وعندما تأتي هذه الكتلة التاريخية مثلما يأتي المهدي المنتظر تنقلبون على شركائهم وتنفونهم من الساحة.
طبعا أنا لا أومن بأن الديمقراطية اللبرالية هي نهاية التاريخ، ولكني أعتقد، وبسبب الانحرافات التي تسببت فيها أيديولوجيات القرن العشرين، أن الواجب اليوم يحتم علينا العمل من أجل دول وطنية ديمقراطية تتعايش فيها كل الطبقات ويتصارع فيها الجميع سلميا من أجل الدفاع عن مصالحهم نحو مزيد من العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة. لا يحتاج العمال إلى كتلة تاريخية لتحل مشاكلهم، بل إلى نظام سياسي يمكنهم من التنظيم النقابي والسياسي والإضراب والمشاركة في تسيير المؤسسات لينالوا حقوقهم. وهو ما حدث في الأنظمة السياسية اللبرالية حيث لا يتوقف مستوى العمال الاجتماعي عن التحسن فيها بفضل نضالهم، أما من يريد تحريرهم فإنما يفعل ذلك لكي يستعبدهم من جديد وهذا ايضا حدث.
تحياتي

اخر الافلام

.. سباق بين مفاوضات الهدنة ومعركة رفح| #غرفة_الأخبار


.. حرب غزة.. مفاوضات الهدنة بين إسرائيل وحماس| #غرفة_الأخبار




.. قراءة عسكرية.. معارك ضارية في شمال القطاع ووسطه


.. جماعة أنصار الله تبث مشاهد توثق لحظة استهداف طائرة مسيرة للس




.. أمريكا.. الشرطة تنزع حجاب فتاة مناصرة لفلسطين بعد اعتقالها