الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول البؤس السياسي

محمد القرافلي

2011 / 8 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


يدل لفظ البؤس في التداول اليومي على معاني متعددة، قد يشير إلى واقع الفقر والحرمان الذي تتخبط فيه شرائح اجتماعية عريضة، ويدل أحيانا على حالة وجدانية ونفسية تتصف بالحزن والكآبة كقولك يالك من بئيس، أو كنعت قدحي تحقيري يطلق على شخص تجرد من القيم الإنسانية واتصف بالخبث والنذالة إذ يصرخ في وجهه عادة بئس الرجل أنت مقابل نعم الرجل، كما يحمل أيضا على صنيع الإنسان وأفعاله، وعلى قراراته وأحكامه. أما السياسي فلا يقل دلالة عن البؤس بل يبدو اشد تعقيدا والتباسا ويطال كل مناحي الوجود الإنساني، يحيل السياسي إلى واقع جغرافي قد يتسع أو يضيق اتساع حدوده وآفاقه، من قبيلة إلى إقليم ثم وطن...كما يتخذ أبعادا تاريخية وثقافية بالتأشير على واقع من التمثلات والمعتقدات والأفكار والذاكرة والمصالح المشتركة بين أفراد جماعة ما. كذلك يترسخ حضور السياسي في حياتنا اليومية وفي نمط معيشنا إلى درجة أن الإنسان العادي أصبح يربط شؤونه الخاصة والعامة وهمومه وقضاياه بما هو سياسي، فهذا الأخير يمسه في قوته اليومي وفي حله وترحاله، وفي أفكاره ومعتقداته مادام السياسي يخول لنفسه مهام التنظيم والتدبير والتوجيه والضبط والتحكم والمراقبة والعقاب...أضف لذلك يربط لفظ السياسي بفئة مخصوصة من الناس تتوفر على مؤهلات وإمكانات وتحكمها منظومة قيم وضوابط وتتولى النهوض بعبء مهام، وتطلع يوميا على شاشا ت التلفاز وعلى صفحات الجرائد، إلى درجة صارت مألوفة عند المتفرج أكثر من أعلام الفن والرياضة وتحولت موضوع المقاهي وقنوات تصريف الغضب...هكذا يشكل السياسي نسيجا وبناء علائقيا يربط من جهة بين السياسي ومنظومة القيم والمبادئ والضوابط التي تحدد مجال السياسي وتنظم فعله وحركته ومن جهة ثانية يشير إلى علاقته بالواقع والحياة وبالبيئة والمحيط.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد استقراء أهم دلالات كل من الملفوظين البؤس والسياسي هو سر هذا الزواج بينهما في العنوان والعلاقة التي تجمعهما. ألا يمثل البؤس طبيعة وماهية السياسي؟ بمعنى أن حضور البؤس يلازم حضور السياسي ملازمة الظل لصاحبه وملازمة الاحتراق للنار أم انه مجرد عرض وحالة طارئة تصيب السياسي عرضية العلل التي تطارد الجسد؟ وهل نحتاج إلى تشخيص وتشريح خاصين للكشف عن خصوصية البؤس السياسي وتميزه وحتى لا نفتقده خلف أشكال البؤس الأخرى كالبؤس الفلسفي والبؤس الأدبي والفني والبؤس الديني والبؤس الثقافي...ألا يعتبر البؤس السياسي مصدر وأساس مختلف أشكال البؤس الأخرى بحكم أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه على حد تعبير المعلم الأول أرسطو.
أشكال البؤس السياسي ومظاهره
تضخ المنابر الإعلامية الرقمية وغير الرقمية آلافا من الصور والمشاهد اليومية التي تجسد البؤس الإنساني في أسمى درجاته خاصة في عصر الطفرات العلمية والتقنية وعصر اكتساح الرأسمال لمختلف بقاع الأرض،ومثلما نجح كل ذلك العتاد التقني والرأسمالي والادااتي في تأديب الجمهور ومصالحته وتزييف بصره وترويض ذوقه بحيث أصبح يتلذذ بعروض البؤس كما كان يحصل في صالات العروض الرومانية وتلته بعد ذلك الثورة الفنية والسينمائية لهوليود وغزوها للعالم بملايين الصور الدموية والتي تكرس سياسة البؤس السياسي. وذلك ليس بغرض مسخ القيم الإنسانية وتزييف الحقائق وقلب الوقائع التاريخية وإنما بجعل ذلك البؤس حقيقة واقعية ولازمة تستبطنها كثير من شعوب المعمور،إنها تشبه إلى حد ما لعبة الجلاد والضحية، الأمر الذي انتهي بترويض ذوق المتفرج وخلق ألفة بينه وبين مختلف مظاهر البؤس وحتى إن كان نفسه ذلك المتفرج جزءا لايتجزء من واقع البؤس وحامل للبؤس ومحموله. ويتجلى بؤس التزييف في تجريد الذات الإنسانية من كل مقوماتها الفكرية ومن قدرتها على الوعي بحقيقة أوضاعها، وسلبها إرادتها وقدرتها على الفعل وعلى التغيير وذلك بالعزف على أوتار الظروف المناخية والتحولات الايكولوجية التي يشهدها الكوكب الأرضي وانعكاساتها في اختلال التوازنات بين الشمال والجنوب واعتبارها سببا مباشرا في الفقر و في بؤس المجاعات التي يعرفها العالم خاصة دول ساحل الجنوب أو برد ذلك البؤس إلى معطيات تاريخية وثقافية والى تركيبات دينية عرقية....بالرغم من أهمية هذه المبررات التي يتم الدفع بها لتفسير واقع البؤس ومشروطيته إلا أنها لا تستبعد فرضية ارتباط البؤس البشري بما هو سياسي وببؤس السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الدول المهيمنة، أضف لذلك لم يعد البؤس السياسي محليا وعرقيا واثنيا بل في طريقه ليتحول عملة كونية، والمتتبع لمسلسل البؤس يلاحظ تطوره المتلاحق بدءا من تفجير الإنسان في التاميل بالهند وتحول الإنسان البئيس إلي قنبلة في ظل سياسة البؤس وانتقال هذه العدوى إلى الدول العربية التي يعشش فيها البؤس، تبع ذلك اختبار لسيناريوهات هوليود في حرب الخليج الأولى والتا نية وما سببته من بؤس طال بلاد الرافدين قتل معه كل معالم الحياة والتاريخ وكل محاسن بغداد الأسطورية والفنية وتشريد الأطفال دافعا بمختلف أشكال الحقد والكراهية وبمختلف العصبيات الدينية والطائفية، ثم ما حصل بعد ذلك في العالم ومن بؤس الشعوب المغلوب على أمرها في فلسطين أو في باقي الدول العربية. عموما أن مظاهر البؤس السياسي على مستوى الماكروسياسي تمثل واقعا راهنا لا ينكره إلا جاحدا بئيسا وان آثار هذا البؤس قد ألقت بآثارها على الكون من خلال استنزاف طاقاته وإمكاناته وتحويل مناطقه الجميلة إلى فنادق وكازينوهات لا فراغ الليبيدو ولإشباع رغبات الإنسان النزوي وبالمقابل التخلص من المناطق التي تم استنفاذها وتحويلها إلى مزابل وربما إلى مقابر للسلالة الآدمية غير المرغوب فيها ،أما على الإنسان فقد حصل ذلك من خلال مسخه وتجريده من آدميته وترويضه حتى يتصالح مع عالم البؤس ويتلاءم مع سياسة البؤس ويتوحدا إلى حد التماهي،ومن يتحقق له ذلك يصبح إنسانا عاديا ومنفتحا ويحظى بالحماية والرعاية أحيانا داخل محميات...أما من تحدى واقع البؤس أفرادا أو شعوبا فإنهم يشردوا ويهانوا ويرمى " بهم في المزابل ويهانوا ويعتبروا لقطاء وغير مرغوب فيهم . l’homme jetable "
أما آثار البؤس السياسي على منظومة القيم فانه يطال كل مستوياتها، الفكرية والأخلاقية والفنية الجمالية والدينية لقد تساوت اليوم كل القيم وأصبحت قيمتها رهينة بمنطق السوق وبفلسفة التسليع وبلعبة المضاربات والمراهنات وبميزان القوى،أما معايير وموازين الصواب والخطأ، الصدق والكذب، الخير والشر، القبح والجمال،قد عفا عليها الزمن وتاهت في مدى القفار والصحاري. إذا كان هذا حال البؤس السياسي في بعده الماكروسياسي فإن حاله على المستوى الميكروسياسي يبدو أبشع وأشنع وأقبح وقد لانحتاج إلى التجول في ممالكه أو اختراق تضاريسه ما دمنا نعيشه يوميا في حياتنا اليومية ونتنفسه في هوائنا ونرضعه عند المهد ونتعلمه من أفواه الفقهاء وبين جدران المدارس وعلى صفحات الجرائد ومن أبواق الإعلام، وهو بؤس عام يخترق سياسة الجسد والقوت اليومي وسياسة الغرائز والإشباع النزوي وسياسة الفكر والانعتاق الروحي وسياسة المجال والتهذيب الذوقي....ترى ما هي مصادر هذا البؤس الذي يتربع عرش المجتمعات العربية؟ وما هي شروط إمكانه؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: مزارعون في الهند مصممون على إلحاق الهزيمة بالحزب ا


.. السباق إلى البيت الأبيض: حظوظ ترامب | #الظهيرة




.. ماهو التوسع الذي تتطلع إليه إسرائيل حالياً؟ وهل يتخطى حدود ا


.. ترامب: لم يتعرض أي مرشح للرئاسة لما أواجهه الآن | #الظهيرة




.. -كهرباء أوكرانيا- في مرمى روسيا.. هجوم ضخم بالصواريخ | #الظه