الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآباء الثلاثة والشغل اللغوي المحض

كمال سبتي

2004 / 11 / 24
الادب والفن


ثلاثاء الكتابة..
تجد الشعرية العراقية الراهنة في ثلاثة من كبارها آباء روحيين لها و مؤسسين ، هم : بشار بن برد وأبو نؤاس وابن الرومي. وقد أنزل الثلاثة الشعرَ من علو لغوي فارغ إلى الحياة والتأمل فيها من خلالها لا من خلال معادلات ذهنية يخلقها ترف لغوي بارد.
والثلاثة مجددون. وكل واحد منهم شكل ثورة أسلوبية وشعرية في زمنه.
والثلاثة ضد الشغل اللغوي البارد في الشعر.
ومما هو مضحك أن يرتبط الشغل اللغوي البارد بدعاوى الحداثة في العقود الأخيرة بل وفي هذه الأيام أيضاً. وقد عانيت ، شخصياً ، في أكثر من مناسبة هذا الأمرَ ، فالمتلقي لم يكن يحسن سماع داعية حداثة يعادي اللعب اللغوي.
كنت أراني أزاء تزوير تاريخي في نسب الحداثة إلى الشغل اللغوي الذهني المحض. قام به شعراء عرب مخادعون من خلال بث شغلهم الشعري في الشعرية العربية وكأنه هو الحداثة وردده ببغاوات من مناصريهم.
والحقيقة الساطعة هي أن هؤلاء الشعراء – بالمخاطبة - ( وقد يكونون في القصد شاعراً واحداً) لم يصلوا إلى رقي الشغل الشعري العراقي النازل تاريخياً من الآباء الثلاثة.
الشغل الشعري العراقي فيه قص سردي وفيه ذكر أسماء وفيه حياة تسمع نبضها داخل النص. ولم يشذ عن هذا في التاريخ الشعري العراقي غير أبي الطيب المتنبي الذي اشتغل في اللغة الذهنية ووجد له مناصرين ليسموه الشاعر الأعظم ، لأن الشغل اللغوي المحض يرهب الضعفاء من الشراح (نقاد ذاك الزمان) عادةً بهيبته وفخامته.
لكن الشعر العراقي ، على الرغم من وجود شاعر ذهني عملاق مثل أبي الطيب ، تسلسَلَ تاريخياً بسجيته الأولى وبرقيها الفني عند الآباء الثلاثة ، ولم يستطع المتنبي أن يزيحها .
وسنختصر الزمن فأقول إن الجواهري نفسه لم يكن كما يقول هو عن نفسه إنه ( فرخ المتنبي) تماماً ، وأحسب أن الآخرين من مناصري الشغل اللغوي ذي الهيبة والفخامة والجزالة الذين سموا المتنبي الشاعر الأعظم هم أنفسهم كانوا يرددون على مسامعه تأثره المتنبي في لحظات العلو اللغوي في شعر الجواهري فلم يفهموها بأنها صفاء لغوي غير ذهني محض ، يأتي رديفاً في الشعر ، عادة ، للعناصر الشعرية التي ذكرتها عن الشغل العراقي. ممكن أن يجد قارىء الجواهري شيئاً من المتنبي فيه وهذا أمر طبيعي ، لكنه كان ابناً لآباء آخرين أيضاً ، فكم قصيدة للجواهري تحيلك في روحها إلى الآباء الثلاثة ؟
يا "أم عوف" وما يُدريكِ ما خَبَأتْ
لنا المقادير من عقبى ويُدرينا
أنى وكيف سيُرخي من أعنتنا
تطوافنا.. ومتى تُلقى مراسينا
أزرى بأبيات أشعار تقاذفُنا
بيتٌ من "الشَعَر المفتول" يؤوينا
عشنا لها حِقَباً جُلّى ندللها
فتجتوينا..ونُعليها فتُدنينا..إلخ
وغير الجواهري ، الشعر الحديث منذ الشاعر الأول بدر شاكر السياب وحتى أي شاعر نعتدّ بوجوده الشعري من معاصرينا فهم كلهم أبناء لأولئك الآباء الثلاثة في شعرهم..
في صيغة أخرى للقول : لم أجد أحداً من الشعراء العراقيين ممن نعتد بوجوده الشعري كان متأثراً أدونيس.
ولمَ أدونيس ؟
أقولها بصيغة أخرى :
لم أجد شاعراً عراقياً واحداً ممن نعتد بوجوده الشعري متأثراً المتنبي تماماً. وأرجو الانتباه إلى مفردة "تماماً".
نعم قد تجد علواً لغوياً في لحظة شعرية ما عند شاعر ما، لكنه ، كما في حالة الجواهري ، الصفاء اللغوي غير الذهني المحض الذي يرافق العناصر الشعرية.
والصفاء اللغوي هو غير الشغل الأدونيسي بل هو غير شغل المتنبي نفسه.
فأنت تقرأ عند المتنبي :
شيمُ الليالي أن تشككَ ناقتي
صدري بها أفضى أم البيداء ؟
وهو أعلى مايمكن أن يولده الذهن من صورة ذهنية لغوية.
ولكن هذا هو غير ما يكتبه السياب في شغله الذهني :
فألتقي دمي ، كغيمة تعيد نفسها للبحر
أتعلم السحابة المرعدة المبرقة المجلجلة
بأن ماءها سيستحيل غيمة إليها مقبلة ،
تبذله في الفجر
وتلتقي به قبيلَ العصر ؟
أو :
أطلي فشباكك الأزرقُ
سماء تجوع
الشغل السيابي المشار إليه شغل ذهني أيضاً لكنه لم يكن ذهنياً محضاً ، إنما كان ذلك الصفاء اللغوي المرافق للعناصر الشعرية.
وفي ختام المقال أقدم لكم أبياتاً أربعةَ من الأب الشعري الأكبر للشعرية العراقية على مر العصور ، وأعني به أبا نؤاس :
وابأبي ألثغُ لا ججتُه فقال في سكرٍ وإخنــاثِ
لما بدا مني خلافي له كم لقيَ النـاثُ من الناثِ
نازعتُه صهباءَ كرخيةً قد جلبتْ من كَرْمِ حَرّاثِ
ابريقنا منتصـبٌ تارةً وتارةً مبتـركٌ جــاثِ

* زاوية الشاعر الأسبوعية في جريدة النهضة البغدادية 23-11-2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات


.. الشاعر أحمد حسن راؤول:عمرو مصطفى هو سبب شهرتى.. منتظر أتعاو




.. الموزع الموسيقى أسامة الهندى: فخور بتعاونى مع الهضبة في 60 أ