الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدالة عمياء ولا عزاء لمن يرون

نوال السعداوى

2011 / 8 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


صباح اليوم الثالث من أغسطس ٢٠١١، مشبع بالحر والرطوبة وتوجس شعبى جماعى من عدالة تخفى عينيها عن الواقع والحقيقة، وقاض طبيعى يبدو غير طبيعى، حين تتناقض الطبيعة مع العقل، ويختفى العدل تحت حكم القانون.

التليفزيون المصرى، الجهاز العتيق المدرب على التلفيق يتراكم عليه الهاموش والتراب مع قدر كبير من عدم الاحترام.

تهتز الشاشة تحت الأضواء والزحام والضجيج فى قاعة المحكمة، تبدو المسرحية غير محبوكة للعين التى ترى، وليست التى تنظر ولا ترى.

تبحث عيون الجماهير عن وجه واحد أوحد من بين القضبان، القلوب واجفة ترتجف، المتهم لم يكن من البشر، كان الإله الحاكم بأمر الله، لا يتبدى للعين البشرية، يتخفى وراء سحابة بيضاء أو عمود دخان، الملائكة البيضاء من جنوده الأوفياء تخفيه عن الرؤية، تتطلب هيبة الفرعون الإله أن يكون روحا محلقة لا يرى ولا يشم، يعلو فوق الحواس الخمس، الضوء يسقط عليه لحظة خاطفة لينكشف نصف عين أو نصف شفة أو نصف أنف مقدس، أو نصف يده، يرفعه إلى نصف رأسه ليهرش الأفكار العليا فوق العقل البشرى، أو شفته السفلى الممتلئة بنعم الدنيا، يمطها فى اشمئناط من الدنيا، ابتسامة ساخرة تفلت من زاوية عينه، كالروح القدس، تحوم تحت فتحتى أنفه الكبيرتين، تتسعان للاندهاش لكل شىء وعدم الاندهاش لأى شىء، الكل ولا شىء، صفة الفراعنة الآلهة فوق القانون والمحاسبة،

تطل النظرة المحفورة منذ خوفو الأكبر فى الذاكرة المصرية، نظرة تهديد ينتصب لها الشعر، لحم الجسد يقشعر، أرقده المؤلف على سرير، أدخله وأخرجه على نقالة، لكن نظرته الفرعونية لا تتغير، حركة يده حين ينظر إلى الساعة حول معصمه المعصوم، يضبط زمن الكون بنظرة واحدة أو نصف نظرة، يتحكم فى تسيير أعمال الدنيا والآخرة، الرئيس الأوحد الأبدى، ليس المتهم المريض المحمول على نقالة.

لم تكن فى عينيه نظرة من يساق إلى الإعدام، أو السجن أو عقاب شديد أو عتاب رقيق، لم تتعكر عيناه بالقلق لحظة أو نصف لحظة، النظرة المتعالية تتحرك هنا وهناك، تعطى أوامرها بحركة يد أو إصبع، يشير به إلى الحرس الأبيض من حوله، حاملى الكتاب المقدس من الملائكة الأطهار، دائمى الحركة حول الأب الكبير، رب العائلة، يحاول عقلى أن يقنعنى بأنها محاكمة حقيقية تجرى على أرض الواقع فى القاهرة، دون جدوى، داخل كل إنسان عقل يتفوق على العقل، مشاعر خفية أكثر وعيا من الإدراك، هذان النجلان الشبيهان بالفرسان البيض أو الخيول الصهباء، فى استعلائها ولهوها، يقومان بدورهما فى الملعب، بنشوة الجواد الفائز مقدما فى السباق.

والمصحف الذى يتلحف به كل منهما، يحمله فى يده أو تحت إبطه أو ينقله وراء ظهره حين يهرش رأسه، مشهد لا غنى عنه فى المسلسلات المتعجلة فى شهر رمضان، والجماهير الصابرة الصائمة الراضية بالمصير المكتوب، يتعمد المؤلف وجود كتاب الله فى المحكمة، يغفر الله الذنوب جميعا إلا الشرك به، لم يكن ملحدا أو علمانيا أو كافرا، كان مؤمنا موحدا بالله يصلى ويصوم، مثل غيره من الملوك والرؤساء، الرئيس المؤمن اغتالته يد آثمة فى غفلة من القدر، الملك الصالح خليفة الله فى الأرض، حبيب الملايين، غنت له أم كلثوم وعبدالوهاب، والأدباء العظام فى جريدة الأهرام كتبوا عنه مقالات وقصائد شعر حتى سقط فلعنوه وغنوا للثورة المجيدة، هتفت المآذن بدوامه إلى الأبد تحت قيادة شيخ الجامع الأكبر.

ظهرت الدموع تأثرا فى مآقى الشعب الوفى الأمين، الذى يدين بالولاء والطاعة، منقوشة فوق شغاف قلبه منذ العبودية، هتف صوت جهورى عبر الميكروفونات «الله معه»، هتفت حشود السلفيين «عفا الله عما سلف»، ثم سقط قرار المحكمة فوق رؤوس الجماهير مثل كوز ماء صاقع صاعق، تقرر تحويل فخامته إلى مستشفى أرقى درجة!

سؤال دار فى الرؤوس؟

هل غاب عن المؤلف أن يضع له ماكياج المريض الهزيل، تمهيدا لقرار إحالته إلى المستشفى؟ لماذا جعل له نظرات متغطرسة تتناقض مع مشهد النقالة؟ هل تغلبت الإرادة العليا على إرادة المؤلف؟ هل تغلب العناد الفرعونى على حبكة المسرحية والإتقان الأدبى؟!

الثورة المصرية حققت نجاحات كثيرة، أهمها نقل فخامته من كرسى العرش إلى القفص، خفقت قلوب الشعب الطيب وجلاً، حين نادوه باسمه الثلاثى حاف، رد قائلاً بقوة وزهو «موجود»، كأنما يقول «الله موجود»، كأنما ينادون عليه للحصول على جائزة أو وسام، هل غاب عن المؤلف أن هذا الصوت القوى يتناقض مع رقدته فى سرير المرض؟ وقد يحرمه من التعاطف المطلوب؟ هل يعلو التغطرس السلطوى على النص المكتوب؟

أم أن المحامى المخضرم صاحب البلايين رأى أن الصعود إلى المقصلة برأس مرفوع قد يوحى بالبراءة أكثر من الطأطأة لإرادة الشعب؟

نعم أيها السادة، إذا قام النظام الحاكم على القوة العسكرية والمال والبورصة، فكل شىء يبدو طبيعياً، ولابد أن يعلو القاضى الطبيعى على الحقيقة والعدل، لابد أن تصبح العدالة عمياء والقانون لا يرى، ولا عزاء لمن يرون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استهانة واستخفاف بالثورة
مريد نادر ( 2011 / 8 / 9 - 08:37 )
هذه المحاكمة تسفيه لعقل المواطن. طالما كان الرئيس يستخف بشعبه طوال هذه العقود وتنطلي عليه كل حيله فَلِمَ لا يستمر بها. إنه مايزال يحكم بإشارة من إصبعه ومن على فراش تمارضه. إنها استهانة بالشعب الذي كان يعتبرهم عبيداً أغبياء ومسرحية لتمضية الوقت وإلهاء الشعب لحين يهدأ ويرضى بأقل مما كان..


2 - أعجبني أسلوب الأستاذة..
محمد بن عبد الله ( 2011 / 8 / 9 - 12:30 )
أعجبني الأسلوب الأدبي للمقال وعبقرية الأستاذة في التصوير

ولم يعجبني قلة المنطق فيه..فلو ظهر مبارك بصوت ضعيف ووجه شاحب بشعره الأبيض الأشعث لصفقت الكاتبة وصاحت: أترون ! يريدونا أن نصدق أن مبارك على حافة القبر فنتركه لحاله؟...تمثيلية تمثيلية !


مافيش فايدة...التعصب لشخص أو ضده يفسد الحكم

يقول المثل عدوك يتمنى لك الغلط وحبيبك يبلعلك الزلط..مقال الدكتورة ينضح بكراهية مبارك وهذا من حقها لكن ما أبعدها عن الحكم العادل على الأمور !


3 - رجل السلام والتقدم حسني مبارك
مثنى حميد مجيد ( 2011 / 8 / 9 - 22:15 )
إسمحي لي سيدتي الجليلة أن أخالفك في موقع للحوار المتمدن
بالأمس بكيتم وشجبتم محاكمة أكبر جلاد ومجرم في تاريخ العرب والعالم هو صدام وأرسلتم المحامين للدفاع عنه مع عويل وأكاذيب وبهتان قناة الجزيرة فرفعتموه إلى الذرى وأغدقتم عليه ألقاب الأسد والبطل والشهيد وها أنتم اليوم تحاكمون أفضل حاكم عربي هو رجل السلام والتقدم حسني مبارك . مؤسف أن هذا الكلام يصدر منك أنت المرأة المثقفة والمناضلة .لقد خدم هذا الرجل شعبه المصري في الحرب والسلم ولثلاثين عاما من حكمه أصبحت القاهرة قبلة للمتحاربين والمختلفين والمتصارعين يؤمونها من كل حدب وصوب للتباحث وإيجاد الحلول فلماذا هذا النكران والجحود .وما معنى أن تلطموا بالأمس على مجرم وجلاد مثل صدام وتهينون وتحاكمون أفضل حاكم عربي ورجل حكمة وسلام وعقل مثل حسني مبارك .
مع إعتذاري أيتها الجليلة الفاضلة.
مثنى حميد مجيد.عراقي مازال يبحث عن قبور إخوته في مقابر صدام الجماعية


4 - ســؤال للدكتورة نـــوال
عايـــد aied ( 2011 / 8 / 15 - 10:30 )
أكتبي ، أكتبي يا نوال و لا نريد منك سوى أن تكتبي و تحللي و تعطري كتاباتك بالحقائق الدامغة و لكن فقط و فقط نريد منك الصدق و لا شيء غير الصدق
ســؤال يا دكتورة نوال بات يحيرني ، يتعبني ، يقلقني و هو نخشى أن هذه الثورات مجرد حالة غضب و تهييج للجماهير ثم تعود الاوضاع الى سابق ما كنا عليه و ربما أسوأ و دليلي على ذلك أن ثورة مصر و كذا جيرانها لم تقم على قناعات فكرية واضحة مثل فصل الدين عن الدولة أو الثورة على سطوة الازهر و آل الازهر أو ثورة المطالبة بحقوق المرأة و الطفل أو المطالبة بتغيير مناهج التدريس ؟؟؟؟؟؟ ما أراه في تقديري ازياد الفوضى و غياب مفهوم الدولة و الركض نحو المجهول ؟؟؟ سؤال يا ست نوال هل الديمقراطية و الحرية تبنى و تتحقق بأفكار نيرة و متحررة أم بأفكار منغلقة أكثر ظلامية و تطرف ؟؟ لا يفهم من كلامي أننا نريد الرضى بما كنا عليه خير مما سنصبح عليه ؟ اطلاقا لا أقصد هذا و لكن أقصد ما هو النغيير و ما شكل الحرية و الديمقراطية التي حققتها لنا الثورة المباركة ؟

اخر الافلام

.. كلمة ايريك سيوتي عضو اليمين الفائز بمقعد البرلمان عن نيس|#عا


.. قراءة عسكرية.. محور نتساريم بين دعم عمليات الاحتلال و تحوله




.. تفعيل المادة 25 قد يعزل بايدن.. وترمب لا يفضل استخدامها ضد خ


.. حملة بايدن تتعرض لضغوطات بعد استقالة مذيعة لاعتمادها أسئلة م




.. البيت الأبيض: المستوطنات الإسرائيلية تقوض عملية السلام والاس