الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورية الثورة: اللاءات الثلاث

فادي عرودكي

2011 / 8 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


ها أنا أكتب مجددا بعد فترة انقطاع عن التدوين تجاوزت الشهرين، فضّلت خلالها أن أوجّه جهودي في نواحٍ أخرى قدّرت أنها أكثر نفعا لسورية وصراع شعبها من أجل حريتهم وكرامتهم. ولكن يبدو أن الكتابة ضرورية جدا بل لا تقلّ عن نظائرها من الأنشطة، خاصة عند المرور بمستجدّات تحتاج إلى علاج فكري يضبط الإيقاع ويعيد برمجة البوصلة في الاتجاه السليم. سطرت هذه السطور في الأسفل منذ مدة طويلة جاوزت الشهر، وكانت أفكارها حاضرة في بالي لفترة أطول، ولكن في ظل ما تشهده سورية اليوم من عنف غير مسبوق من قبل النظام، مصحوب بمجزرة مروّعة في حماه قد يتّضح لنا لاحقا أنها لا تقل عن تلك التي تعرّضت لها في 1982، ومجزرة أخرى في دير الزور ذات الطابع العشائري، وما بين هذا وذاك من تجاوزات خطيرة جدا يهدف من خلالها النظام إلى إختلاق توتّر طائفي من جهة، ودفع السوريين إلى مواجهة إرهابه واستفزازاته بالسلاح من جهة أخرى، ينبغي نشر هذه الأفكار وترسيخها بشكل واضح لا لبس فيه لحماية الثورة من حرفها عن المسار السليم. وإذ أؤكد أن سورية تصنع معجزة بصمود شعبها محافظا على كينونات الثورة الثلاث: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي، إلا أن إعادة التذكير والتعريف بهذه اللاءات ضروري لضمان إيصال الثورة إلى بر الأمان.
فخلال قرابة خمسة الأشهر – هو عمر الثورة السورية منذ بدايتها – مرّت الثورة باختبارات عدة فرضتها الظروف والمستجدات، أو حاول النظام نفسه فرضها لإجهاض الثورة والهروب من مصيره الحتمي الذي بات جليّا للجميع، ألا وهو سقوطه بغض النظر عن الطريقة والزمان. وقد قاسى السوريون في هذه الفترة ما قاسوه من إرهاب دولة يتمثّل في القتل المنهجي العشوائي كهدف بحد ذاته، والاعتقال التعسفي المستمر رغم رفع حالة الطوارئ، والتعذيب الوحشي السادي الجسدي والنفسي الذي يلقاه المعتقلون في سجون النظام، ثم جرّ البلاد إلى الفوضى مستخدما الجيش الوطني في مواجهة الشعب الأعزل، فقصفه بالمدفعية والدبابات بدلا من أن يحميه، وحاصر المدن التي انتفضت على الظلم والاستبداد، معاقبا أهالي بلدات بأسرها في انتهاك صارخ لأبسط الحقوق الإنسانية. ومع كل ذلك حافظت الثورة منذ بدايتها على لاءاتها الثلاث التي مثّلت أعمدة الثورة السورية وصمامات أمانها نحو الحرية والديمقراطية والدولة التعددية المدنية. ولاءات الثورة لُخِّصَت في أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من شخص، وهي بكل بساطة: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي.
لا للعنف، أعلنها الثوار منذ يومهم الأول عندما هتفوا "سلمية، سلمية". وتمسك بها السواد الأعظم من الثوار رغم كل ما جرى ويجري ورغم كل المجازر والآلام. لقد تسامى شعب سورية العظيم على آلامه وجراحه وأعلنها أنها "سلمية" رافضا العنف وسيلة لتحقيق الحرية واستعادة الكرامة. لا للعنف، أي لا لمواجهة الرصاص الحي بمثله تجنبا لتحويل الثورة إلى كفاح مسلّح، ولا لمواجهة الدبابات بغير الصدور العارية، ولا لمواجهة القتل المستمر بغير كلمة "سلمية". وهذه الدعوة للسلمية لا تنطلق من ضعف أو عدم قدرة، بل دوافعها تنبع من أساس أخلاقي يستند إلى تجارب التاريخ التي علّمتنا أن الثورة السلمية دَوْما ما تنتصر دون اللجوء إلى العنف (حدث هذا في أوروبا الشرقية ورأيناه في ثورتي تونس ومصر)، وأن الثورة المسلّحة، إن انتصرت، غالبا ما تنتج سلطة غير ديمقراطية تغيب عنها الحرية. وكذلك، حتى لو تناولنا الموضوع من ناحية براغماتية واقعية لتبيّن لنا أن الثورة السلمية هي أجدى وأفضل من الثورة المسلّحة. فاستخدام العنف بوجه النظام اعتمادا على طاقات السوريين وحدهم سيؤدي حتما إلى هزيمة الثورة، فتجهيز شعب أعزل من حيث العدة والتدريب لا يمكن مقارنته بتجهيز نظام أمني-عسكري قائم على هذه الفكرة منذ خمسة قرون. ولو فرضا انتصرت الثورة المسلحة فستكون التكلفة أعلى بكثير من تكلفة الثورة السلمية، وعدد القتلى سيفوق بأضعاف شهداء ثورة سلمية، والمثال الليبي ما زال قائما (مع أكثر من 25 ألف شهيد منذ بدء الثورة). وحتى من الناحية القضائية نواجه مشكلة المحاسبة القانونية، فبينما يكون القتل المتعمد المستمر لشعب أعزل جريمة بحق الإنسانية يُعاقَب عليها في مختلف أنحاء العالم ولا يزول هذا الحق بالتقادم، فإن الثورة المسلحة تحوّل المتقاتلين إلى فرقتين مغلوبة وغالبة وتصعب المحاسبة القضائية في هذه الحالة. وعلى هذا فسلمية الثورة هي عماد أساسي وركيزة من ركائز الثورة السورية، لم يفرّط بها الغالبية العظمى من السوريين، ولا يجب التفريط بها، ونجاح الثورة يرتبط مباشرة بمدى قدرتها على الحفاظ على سلميتها.
وفي هذا الصدد، يجب أيضا توضيح بعض النقاط فيما يخص فكرة سلمية الثورة. فالدفاع عن النفس والعرض حق مشروع مكفول في الشرائع السماوية والوضعية، ولا شك بأن "سلمية الثورة" لا تعني بأن تدع من يصوّب عليك مسدسه يقتلك دون حول أو قوة منك. ولكن هناك خيط رفيع بين الدفاع عن النفس والاعتداء، ولا ينبغي الاعتداء على من لم يبدر منه نية قتل، حتى لو أهان وأذلّ واعتقل. كذلك، فإن تأمين المظاهرات وساحات الاعتصام بلجان شعبية وحواجز تمنع دخول مخربين أو من يحاول إيذاء المتظاهرين لا يخرج عن إطار السلمية، ولقد قام المصريون بذلك في ثورتهم في ميدان التحرير، وطبقها أهل حماه ودير الزور أيضا، ما منع سقوط شهداء في هاتين المدينتين قبل أن يقرّر النظام استخدام الجيش بكامل عتاده العسكري ليقتحم المدينتين وكأنها مدن معادية لا يسكنها أبناء هذا الوطن.
ومع التأكيد على "لا للعنف"، يترابط معها "لا للتدخل الخارجي" كركيزة أخرى أجمع السوريون كلهم – إلا من رحم ربي – على قدسيتها. ويكمن الإيمان بهذه القدسية في الثقافة الوطنية السورية التي تجلّ السيادة الوطنية وتبجّل الانتماء الوطني وترفض الوجود الأجنبي في شؤون الدولة بكافة صوره. ولقد أحبط السوريون تدخلات أجنبية عديدة فيما سبق، والشعب نفسه حمى النظام ورئيسه بشار من إسقاطه أميركيا يوم اغتيل الحريري ليس حبا في بشار ونظامه المجرم، بل عشقا لسورية وترابها وتقديسا لسيادة وطنهم وكرامة انتمائهم. والنظام نفسه يحاول اللعب على هذه النقطة الآن بربط ما يجري بمؤامرة خارجية أو محاولة جر البلاد إلى حرب أو تدخل خارجي كما حاول في الجولان مرتين مفضوحا وكما يحاول من خلال التصعيد مع تركيا، ولكن النظام قبل غيره يعلم أن هذه الثورة هي ثورة سورية خالصة وهي انتفاضة على الظلم والقمع لاستعادة الحرية والكرامة. ومع الرفض الكامل للتدخلين العسكري والمالي أيا كان مصدرهما، أولا لأنهما شكل من أشكال العنف، وثانيا لأن حرية يقدمها الخارج عادة ما تكون حرية مشروطة ترتبط بمصالحه، إلا أننا علينا أن نتذكّر أن سورية جزء من هذا العالم، وأنها عضو في منظمات دولية وإقليمية مختلفة وبالتالي يستوجب عليها الالتزام بالمواثيق المختلفة، وهذا ما يخرج الضغط الدبلوماسي والعقوبات المركزة على أفراد النظام والدعاوى القضائية، كما اللجوء إلى المنظمات غير الحقوقية المعنية بحقوق الإنسان، يخرج ذلك كله من إطار التدخل الخارجي خاصة في حالة مواجهة النظام عسكريا لشعبه الأعزل وغياب قضاء وطني مستقل يقدر على محاسبة المجرمين.
ويكتمل ثالوث لاءات الثورة بالتأكيد على شمولية هذه الثورة لجميع شرائح المجتمع السوري ورميها إلى إنتاج مجتمع ديمقراطي تعددي تسود فيه المواطنة كأساس ينظّم علاقة المواطن بالدولة. ومن هنا نبعت "لا للطائفية"، فالثورة السورية ليست ثورة دينية، وليست حكرا على طائفة معينة دون غيرها، وقد شارك فيها الجميع على اختلاف انتماءاتهم، وإن كانت نسب المشاركة متفاوتة لأسباب تتعلق أساسا بالحملة الدعائية الكاذبة للنظام، إلا أن من شارك من غير طائفة الأكثرية لقى ترحيبا شديدا، لأنها بكل بساطة ثورة كل سورية. الثورة قامت طلبا للحرية والكرامة، على نظام قمعي استبدادي لا يفرّق بين مذهب وآخر وطائفة وأخرى في قمعه وقتله. وحقيقة الأمر هو أن النظام هو من يدفع البلاد إلى توتر طائفي بتخويفه الأقليات من الثورة وتجييش وسائل إعلامه ناهيك عن استهداف السوريين بشكل طائفي، كما حدث ويحدث في حمص وحماه. ومع ذلك فإن الشعب السوري أوعى وأذكى من أن يقع في فخ النظام في جره لحرب طائفية، وليس لدى السوريين بعمومهم أي مصلحة في خوض غمار صراع طائفي، لا من الناحية المبدئية، ولا من الناحية البراغماتية.
إن وعي السوريين منذ بداية الثورة، وتمسّكهم بركائز "لا للعنف"، "لا للطائفية"، "لا للتدخل الأجنبي"، يستحق كل إجلال واحترام كونه وعي يبيّن أن الثورة تسير في الاتجاه الصحيح في سبيل إنجاز دولة مدنية تعددية تكون سيدة نفسها وتكون السلطة فيها للشعب لا لفرد أو عائلة حاكمة، وتكون علاقتها بالدول الأخرى علاقات ندية، لا علاقات عداوة مصطنعة، أو تبعية مهينة. إن هذا الوعي إذا استمرّ، وهو سيستمرّ حتما، سوف يقود سورية إلى برّ الأمان، وسنرى سورية يفخر بها شعبها .. وتفخر هي بشعبها الذي أنجز المعجزة، ويسطر بدمائه أسمى لوحات الحرية التي سيخلّدها التاريخ. عاشت سورية حرة، والرحمة لشهداء الوطن شهداء الحرية!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اوهام العلمانيين
احمد العراقي ( 2011 / 8 / 10 - 22:58 )
هذه نظريتك ذكرتنا بنظرية مثقفي العراق قبل الغزو؟ الشعب متماسك ومتألف؟وبعد ذلك تبين ان المجتمع طائفي اكثر من الدكتاتورية.او المجتمع واعي؟وبعد ذلك تبين ان خيرات العراق تنهب والاخرين مشغولين بايهما اولى بالخلافة علي او عمر.حتى المسيح المساكين فرضوا عليهم الحجاب.قلي ماهي قوة العلمانيين في سوريا؟هل لديهم اموال ؟هل يتبعهم رعاع؟هل تمؤلهم قطر والسعودية؟ اقسم لك غدا ستصحون على هول الكارثة حيث تنتشر الجثث في الشوارع .وبالمناسبة هذا ليس خيار الدكتاتورية وانما خيار المجتمع.لانه بات من الاكيد ان الاسد سيسقط ولاشك في ذلك وان الاسلاميين هم الوحيدين القادرين على السيطرة وغنم اللحظة

اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع