الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حياة المكان ، و علاماته الثقافية .. قراءة في رواية وردة النيل ل عزة دياب

محمد سمير عبد السلام

2011 / 8 / 12
الادب والفن


في نصها الروائي (وردة النيل) – الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية (فرع البحيرة) سنة 2011 – تمزج عزة دياب بين بساطة تشكيل الشخصية ، و الروح الإبداعية الفريدة للمكان ، و علاماته التاريخية ، و الثقافية ؛ و من ثم يلمح القارئ – منذ السطور الأولى للنص – هذا التفاعل الإيجابي بين الشخصية ، و وهج الحياة الملازم لبنية المكان ، و تجاوزها المستمر للحظات التوتر ، و الاضطراب ، و القلق ؛ فللمكان جماليات استعارية أصيلة تؤكد السلام الداخلي ، و دائرية الحضور المتجدد في سياق لقاء الوعي ، و اللاوعي بالفضاء الممتد داخل الشخصيات ، و خارجها.
و تتداخل العوالم المختلفة – في النص – في مجال إنساني ذي شاعرية خاصة ، تتعالى على سطوة الحتميات ، و القيم النفعية ؛ فتتداخل حكايات الطفولة ، و طقوس الفرح ، و عادات الصيادين ، و انتصار الخصوبة ، و بهجة النجاة من الأزمات المتباينة ؛ مثل المرض ، و الغرق ، و الفقر ، و غيرها ، كما يلتحم خطاب الساردة بالإحساس الخفي بتجدد الحياة ، و صورها المجازية فيما وراء الغياب ، و كأننا أمام تواصل مستمر بين العوالم الإبداعية ، و الروحية ، و سياق الحياة اليومية الذي لا يمكن فصله عن تشكيل الشخصية ، و تطوير هويتها.
يقوم النص على الصيرورة الحياتية المصاحبة لشخصية عزيزة منذ انتقالها لبيت الزوجية ، و علاقتها بالزوج / علي الذي لم ينجب من زوجته الأولى / أنس ، و تنتقل بؤرة السرد بين الشخصيات الثلاث ، و تصف لنا الساردة شخصيات أخرى من الداخل ؛ مثل الأم / حسنة ، و حياة الأبناء ، ثم تضع إشارات جمالية عن المكان ، و العادات الثقافية ، و الأحاديث الوطنية قبيل ثورة يوليو 1952 حتى لحظات التأميم ، و بناء السد العالي ، و أرى أن المقاطع الثقافية ، و التاريخية ، و الجمالية الخاصة بالمكان تسهم في بناء الشخوص ، و تطوير عوالمهم الداخلية باتجاه النزعة التوافقية مع العالم ، و العناصر الكونية .
و يمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في النص ؛ هي :
أولا : الهوية الثقافية للمكان .
ثانيا : تشكيل الشخصية بين الأداء الإبداعي ، و التسامي ، و مواجهة الحتميات .
ثالثا : إيماءات تاريخية .
رابعا : السرد بين لحظات التوتر ، و السلام الطبيعي .
أولا : الهوية الثقافية للمكان :
للمكان – في النص – إيقاع ، و أصوات جمالية تنبع من الحكايات ، و العادات المرتبطة بالصيد ، و التجارة ، و التدين البسيط ، و الأحاديث السياسية للمتعلمين من الأبناء على المقاهي ؛ و من ثم يسهم المكان في بناء العوالم المشتركة بين الأصوات ، و يعيد تشكيلها جماليا .
و لا يمكن فصل العالم الداخلي للشخوص عن إيماءات المكان ، و إيقاعه الجمالي ، و أصواته المجازية المرتبطة بثقافته الكامنة في الذاكرة الجمعية ؛ فعندما تنتقل بؤرة السرد إلى الزوج / علي ، نعاين حكايات والدته عن حصان مقطوع الرأس ينتظر الثأر لصاحبه المقتول من المماليك ، و تجدد الشجار في الحارة المصرية ، و مخاوفه من المعارك الثأرية ، و اتخاذه موقع المراقب ، ثم تجدد أطياف عروس البحر في وعيه ، و لاوعيه ، و انتقالها من خنق الصبية إلى مصاحبته ، و تعريفه بملوك البحار .
و تعكس مثل هذه المقاطع ، و غيرها التفاعل الخلاق بين صيرورة الشخصية ، و وهج الحياة الكامن في المكان ، و إشاراته الثقافية ، و ذاكرته ؛ فصورة الحصان تعبر عن دائرية الحياة ، و تجاوزها لبنية الثأر ، أو الموت نفسها ، و سنعاين تجددها في صورة قبر علي حينما حرصت عزيزة على بروزه خارج المكان ؛ كي تكشف هويته في الذاكرة .
أما عروس البحر فهي تمثيل استعاري لولع علي بالبحر ، و تحوله إلى الصيد ، و امتزاج رزق البحر بانتشار أولاده ، و تجدد الخصوبة عقب زواجه من عزيزة .
هل استبقت صورة عروس البحر صيرورة علي ، و هويته ؟ أم أنها طيف داخلي ، و خارجي للمكان ، يسهم في تشكيل الرؤية ، و الوجود الذاتي معا ؟
للإيماءات الثقافية – إذا – فاعلية وظيفية في السرد ، و تشكيل وعي الشخصية بذاتها ، و بالعالم الخارجي أيضا .
و نلمح الاستقرار الروحي المصاحب للتدين البسيط في شخصية حسنة / والدة عزيزة ؛ فقد قرأت لأبيها الفاتحة عند مسجد الخلعي ، و تذكرت صورته ، و هو يقدم لها طبق الفول النابت ، ثم تمايله ، و اهتزازه في حلقات الذكر ، و تحول تلك الحركة الصوفية إلى الشجيرات حولها.
إن بساطة الرزق في السياق الروحي المتعالي تؤكد الارتقاء الإنساني في فعل الحكي ، و استرجاعه بصورة ذاتية – كونية في شخصية حسنة ، و كأن العالم يقوم على بساطة دائرية تعيد تشكيل نفسها في صيرورة العلامات الثقافية للمكان .
و تتجدد إشارات الفرح ، و الخصوبة في وعي أنس عقب إصابتها بالوباء ؛ فقد استعادت صورتها مع جاراتها ، و التفاف الصيادين حول علي ، و دورانهم بشبكة الصيد ، و كأن الأرض تتحرك من حولهم ، و ظهور النيل كنهر من فضة في أخيلتها ، و تهيؤها للاندماج به .
إن الإشارات إلى التسامي الروحي لأنس ، و تضحيتها بالاستئثار بالزوج / علي ، و تواصلها الإنساني مع عزيزة ، قد ولدت تلك الصورة التي يتحول فيها المجال الثقافي إلى الإحساس بالاتساع الكوني في اللاشعور الجمعي للشخصية ؛ و من ثم استعادة الوهج الدائري للحياة في سياق الموت نفسه ؛ فيتحول القبر إلى نهر فضي ، و المرض إلى رقصة بهيجة للصيادين ، بينما ينقطع عقم أنس ، و يستحيل إلى خصوبة مجازية في حدث العرس المستعاد ، و اندماجه بتجدد المياه في النيل الذي يبدو كإشارة ثقافية متحولة بين المكان ، و لاوعي الشخصية .
ثانيا : تشكيل الشخصية بين الأداء الإبداعي ، و التسامي ، و مواجهة الحتميات :
تشكل الساردة شخصياتها وفق مبدأ الانسجام الجمالي ، و ما يحويه من سلام داخلي يتجاوز الموت ، و يتباين هذا المبدأ الفني مع حالات الانشقاق المولد للأزمات الداخلية ، و كذلك التعارض المفرط بين الأنا ، و الآخر إلا في بعض المواقف الخاصة بعلي ، و علاقاته المهنية .
و أرى أنه يمكن تأويل الهويات الفردية ، و الفريدة من خلال جماليات السلام الداخلي للتكوين ، و هي تكمن في أخيلة الوعي المنتجة عن الذات في علاقتها بالآخر ، و مدى شاعريتها ، و تحققها المضاد لنوازع الشر ، و العدوان ، و تجاوزها للحتميات ، و النهايات الحاسمة ، و لقائها المجازي السري بالإشارات الكونية ، و تحولات المكان .
تتولد شخصية عزيزة من بساطة الإدراك ، و الأداء اللاواعي في انتقالها من مرحلة لأخرى في حياتها ، و لهذه البساطة قوة فنية فريدة تتجاوز الانتقاء الدقيق للرجل ، و تعلو على أحاسيس زوجته المحتملة . إنها قوة الطاقة الأصلية الشعرية للحياة بعيدا عن التفاصيل المكتسبة من الوجود الاجتماعي المعقد.
لقد انتقلت من الرفض الآلي لعلي يوم الزفاف إلى قبول عالمه الخاص ، و انفعالاته ، و حكاياته ، و مهنته ، و أزماته ؛ فالأداء الآلي لدى عزيزة يمتزج بروح بهيجة مسالمة توافقية ، تتمركز أخيلتها على الانحياز الإيجابي للخصوبة ، و الحياة منذ زواجها حتى خطبة ابنتها الكبرى / نوال ، و انخراطها في أفعال الأمومة ، و تناميها المجازي في النص .
و تتجسد آثار التضحية في شخصية أنس ، و كأن وهج الحياة في المكان ينتصر انتصارا مطلقا للبساطة الإنسانية ، و لا مركزية علامات الحياة ؛ و من ثم ظل التواصل الروحي القائم على الحدس المباشر هو ما يجمعها بعزيزة ، بينما أنتج وعيها الأنثوي عالما إبداعيا تجسدت فيه كعروس تتميز بالخصوبة ، و التعالي الشعري المولد من وجودها المتسامي الأول في واقع النص الروائي .
أما علي فتتصارع بداخله حتميات البحث عن الرزق الملازمة للإنسان في لقائه الأول بالأرض ، و ما يحمله هذا اللقاء من معان دينية ، و بهجة اندماجه بالأطفال ، و حرصه على وجودهم الطبيعي السلمي ، و قد تجلى الصراع الداخلي بوضوح في تعارض رغبته في توسع مشروع الصيد ، و حتمية غرق القارب ، ثم الانتصار الجزئي للقهر الآلي عليه ، و استعادته لصورة أنس قبل وفاته ، و تجسده الأخير في القبو الذي بنته له عزيزة ، و كأن بساطة السلام تتجاوز الأزمات الحتمية فيما وراء حضورها الظاهري .
إن إغواء الصور ، و الأطياف المتوافقة مع فكرة دائرية الحياة ، و تجددها يقاوم الغياب المطلق في الحتميات ؛ فثمة وجود استعاري كامن في لحظات السكون ، و التلاشي ، و الاختفاء .
ثالثا : إيماءات تاريخية :
رغم ارتكاز النص على خصوصية المكان ، و الشخوص ، و السياق الإنساني البسيط ، فقد وضعت الساردة بعض الإيماءات التاريخية التي تذكر المروي عليه بأن الأحداث تقع قبيل ثورة يوليو 1952 ، و الفترة التي تلتها حتى دخول الكهرباء إلى الريف المصري ، و تذكرنا بدفاع أهل رشيد ضد الاحتلال الإنجليزي ، و صد حملة فريزر في الماضي ، ثم الأحاديث عن تطور الحركة الوطنية ، و بعض الإشارات حول الوفد ، و الثورة ، و التيار الديني ، و غيرها .
و لهذه الإشارات دلالتان رئيسيتان :
الأولى : تأكيدها للأصالة الإبداعية للمكان ، و أصواته المصرية الحية ؛ فالبساطة الممزوجة بالسلام ، و الصراع ، و التناقض ، و الأزمات تشكل بنية صلبة للهوية تواجه نوازع الاستغلال لدى المستعمر من جهة ، و تعزز من التجاوز المستمر للهزيمة ، و الحتميات معا من جهة أخرى.
الثانية : الاقتران بالبهجة ، و النزعة التوافقية الداخلية لدى الشخصيات البسيطة الباحثة عن الجمال ؛ فالكهرباء في نهاية النص تبدو كنور روحي داخلي في المقام الأول ، و تؤكد تواتر فعل الحياة ، و تجدده فيما وراء الظلمة بدلالاتها المختلفة .
رابعا : السرد بين لحظات التوتر ، و السلام الطبيعي :
ينشأ السلام الطبيعي في رواية عزة دياب من الهوية الطيفية الجمالية النسبية الممثلة لشخصيات النص ، و التي ترتقي على المستوى المحدود من الوجود ، و تندمج باتساع الكون في المستويات العميقة من الوعي ، و تتضاعف في السياق اليومي دون أن تتبع عوامل القهر ، أو الأبنية المركزية ؛ و من ثم يبدو السلام كأصل تنحاز له الوحدات السردية ، و تتجاوز من خلاله لحظات الانشقاق ، و التوقف ، و المعاناة .
و قد خالف النص توقعات القارئ في أكثر من موضع يؤكد أصالة السلام الطبيعي داخل الشخصيات ، و خارجها ؛ فعندما تزوجت عزيزة من علي اتجهت وظائف السرد نحو انتصار أنس على دوافع الغيرة ، و حينما مرضت الأخيرة اتحدت بصورة حلمية للخصوبة ، و عندما أوشك القارب أن يغرق نجا سعيد / الابن الأصغر بعد أن استيقن الجميع من موته ، و عند موت علي اختلطت في وعيه صورتي الديون و الحتميات من جهة ، و بهجة توحده بأنس من جهة أخرى ، و كأن الهوية الفريدة للشخصيات تتجاوز التوقف ، و تتميز بالتسامي السلمي في الوقت نفسه .
تقوم بدايات مشروع عزة دياب الروائي – إذا – على عنصرين ؛ هما الانحياز إلى الأصالة الجمالية ، و الكونية للمكان ، و تشكيل وعي الشخصية من تقاطع الإيماءات الفنية داخل الذات ، و العوالم الفريدة خارجها .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث