الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حياة كأنها مزحة.. ملف عن الشاعر الراحل : .. عبد الخالق محمود

جاسم العايف

2011 / 8 / 13
الادب والفن


حياة كأنها مزحة.. ملف عن الشاعر الراحل : .. عبد الخالق محمود
يسهم فيه/محمود عبد الوهاب/محمد خضير/حسين عبد اللطيف/ جاسم العايف/ خالد خضير الصالحي /جبار النجدي/ عبد الحسين الغراوي/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حياة كأنها مزحة
*محمود عبد الوهاب
إلى أخي الشاعر عبد الخالق محمود..إهداء متأخر
***
طالما قلتُ لكَ لا تُبدّد جسدك
واحفظه
ولملمْ عظامك
ليطول نهارك .
لكنك احتسبت نصيحتي
مزحة
ومثل مزحة ،
كانت حياتك
قصيرة ودائمة الابتسام .
***
قلتُ لك :
أفتح عينيكَ على سعتهما
مسافةَ
أن يخترق العابرون المتعجّلون
والحافلات الضاجّة
والصغار إذ يطوون طريقهم
مثل سلاحف
ليخترق هؤلاء جميعاً
بؤبؤي عينيك
لكنك لم تفعل ،
واحتسبت نصيحتي
مزحة
***
طالما قلتُ لك :
لتتسع عيناك
مسافةَ
أن ترى كيف يلامس هواء ذلك الصباح
خدَّيك ،
وكيف يطول الشارع بالمارّة ،
وكيف يناديك البائعون اليوم ، الهالكون غداً
إلمسْ بضاعتهم
وليحتكّ كتفك بطابوق دكاكينهم
كي يخفق قلب يومك .
تملّ الوجوه
وزوايا الحجرة
وستائر الحداد المخلوعة من نافذتك .
تملّ الأشياء
كما لو كنت ستغادرها الآن ،
لكنك احتسبت ذلك
مزحة
***
قلتُ لك ولم تفعل :
ليبتعد جفناك
مسافةً
وحاذرْ
حاذرْ
إن تطبقْهما
تخسر كلّ شيء
تكن أنت المرئي
لا الرائي .
***
لو كان
لو لم تحتسب نصيحتي
مزحة ،
لما مضى مثل ما مضى
ولما فات مثل ما فات
ولكن ما فات مضى ،
وما مضى قد فات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حانة الموت
*محمد خضير
عَبَرَ الشاعرُ عبدالخالق محمود الخمسين، وقد فاتته أكثر من ميتة، أو أنه فاتها، ولعلّه تشهّى الموت أكثر من مرّة، أو أنّ الموت تشهّاه، وكان منه على مرمى قذيفة يسمع صفيرها يتجاوزه فتصيب أصحاباً له وأنداداً. وكان مايزال في حانوت الموت يخلع رداءً ويلبس غيره، ترمقهُ عينا الحانوتي المفتوحتان أبداً، المُظلمتان أبداً، الفارغتان كمحّارتين خاويتين، حين عَلا صوت لبيد بن ربيعة:
كأنّي وقد خلّفتُ تسعينَ حجّة
خلعتُ عن منكبيّ ردائيا
نازعَ زهير بن أبي سلمى لبيداً على هذا البيت، وهو أقرب إلى أوابد لبيد الذي نيّف على المئة بعشر سنين، ثمّ تصالح الشاعران على ذمّ الدهر والشكوى من طول الحياة. قال زهير:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَنْ يعشْ
ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يسأمِ
وقال لبيد:
ولقد سئمتُ من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
* * *
دَرَجَتْ المرويّات العربية على إقران عُمر الشاعر بنصيبه من المال والنساء والأولاد، أو برضا الملوك عنه أو نقمتهم عليه، فذانك الشاعران: عَبيد بن الأبرص الذي عمّر مئتين وعشرين سنة خرافية (برواية السجستاني)، وطَرَفَة بن العبد الذي لم يَعشْ غير ستّ وعشرين سنة عابثة، يموتان حتف حماقتيهما، يوم أن كانت (الحيرة) حاضرة المناذرة، وموئل الشعراء المهاجرين من مواطن الصحراء.كان عبيد قد جاء إلى الملك الجبار المنذر بن ماء السماء في يوم نحسه، فأمر بفصد كاحله حتى نفد دمه مع الخمر الذي سُقيها. وكان طرفة قد شبّبَ بأخت الملك عمرو بن هند في مجلس خمر، فأرسله الملك الغضبان إلى عامله في البحرين برسالة يحضّه فيها على قتله. التحق الشاب المغامر بالشاعر المعمّر في المصير المؤلم، وأفرغ كلاهما نظرته إلى الموت في أبيات من الشعر سارت بعدهما مسير المزن تفرغ مدرارها على مَن عَثر حظه ولقي مالقياه في لحظة الغضب الرهيبة. قال عبيد بن الأبرص :
والمرء ماعاش في تكذيب
طـول الحياة لـه تعذيـب
وقال طرفة بن العبد:
أرى الدهر كنزاً ناقصاً كلّ ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
عاش طرفة خُمس حياة لبيد، وعُشر حياة عبيد، وعشنا بعد طرفة دهراً خرافياً ينقص كلّ ليلة ولا ينفد، فهل نحن نعلم أكثر مما علم أولئك الشعراء الشاهدون على سرمدية الشكّ في حقيقة الآجال والدهور المصبوبة على لسان زهير:
وأعلمُ مافي اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم مافي غدٍ عَمي
وهذا شبيه ببيت عمرو بن كلثوم:
وإنّ غداً وأنّ اليوم الذي بعده
وبعـد غــدٍ بما لا تَعْلَمـينا
* * *
يعيش الشاعر عُمراً ليس كمثله عُمر، إن واتاه الموت شاباً، أو عُمّر طويلاً كعُمر لبيد وعبيد. ولابدّ له أن يُسقى من خمرة الأعمار كلّها في حانة الموت، ويلتقي أطياف الشعراء الذين سبقوه إلى هذه الحانة. كان شاعرنا (عبدالخالق محمود) ينادم هذه الأطياف، ترمقه عينا الحانوتي المظلمتان، حين صحا على صوت زهير:
رأيتُ المنايا خبط عشواء من تُصبْ
تُمته ومن تُخطئ يُعمّر فيهرمِ
كانت الحانة تتاخم المقبرة، وموكب الأحياء يختلط بموكب الموتى في عيون الندماء كاختلاط الماء بالخمر في كؤوسهم، لا يفصل موكباً عن موكب غير أديم الأرض في أبيات النابغة الذي رثى بها أخاه من أمّه:
لا يهنئ الناسَ ما يرعـون من كلأ
وما يسوقون من أهل ومن مالِ
حسبُ الخليلين نأي الأرض بينهما
هذا عليها وهـذا تحـتها بالي
فإذا صَدَقَ تشبيه المتصوّفين للأحياء بالمسافرين الذين ينتظرون الرحيل في حانة الموت، فقد تصدق رؤى ندماء الحانة وأمانيهم وخرافاتهم، فيُدفن أبو محجن الثقفي ((في أصل كرمة تروّي عظامه بعد موته عروقها))، ولا تصدق رؤيا شاعرنا (عبدالخالق محمود) وإن تمنّى ما تمنّاه أبو محجن. إذ دُفن عبدالخالق -تحت وجه اليقين- في أصل ((أثلة)) بمقبرة الحسن البصري، خلعت حيّات الزبير جلودها في ثقوب رمالها حولاً بعد حول، منذ أن قال لبيد بيته الشهير:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
وكلّ نعـيمٍ لا محـالـةَ زائلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الر حلة القصيرة
*حسين عبد اللطيف
"...وقعت في الرأس الفأس
وجرى ما كان
ما جدوى أن تفتح باباً أو توصد كلّ الأبواب
ما جدوى هذا الآن
الزهرة: دفلى
وثياب "العرس" من الكتّان
أوَ ما تسمع تصهال الأفراس
وقفت عند الباب: العربة
فوداعاً ...
وأمان .
( ح.د)
تتحرّك قصيدة عبدا لخالق محمود - أي شعره- في مساحة تكاد تكون محددة تماماً وفيما يبدو أنها تتجه عامودياً كانت هي تتجه أفقياً فهو ليس بشاعر جهد او رؤيا وإنما شعره شعر (روح) أو طبع تلقائي "مزاجي" فهو ابن المشاعر أو الأحاسيس الآنية والخفقة.. بوح غنائي ذاتي، يكاد بشذاه هذا أن يكون رومانسياً.. فما كان يريد منه إلاّ التعبير عن ذاتيته هو وهمومه هو وحنينه إلى الماضي بانطباعاته الجمالية والعاطفية وكان رهيناً حسيّاً تغذّى شعره على تجربة انكسار الأمل وخيبة الحب وتمزّق الإنسان في عالمه بين منشودة وعدم تحقق مثل هذا المنشود مع سعيه في الأيام..ومن هذه النافذة - الوحيدة والمواربة- على الوحدة والصمت والغربة كان يطلّ علينا بألمه وعذاباته وهذا ما جعله يرتكن إلى زاوية -لم يبارحها- متخذاً منها بيتاً دائمياً صالحاً للسكنى -في كلّ الأحوال- حسب مايرى. وبدلاً من تبنّي الآخر ووجهة نظره بالدخول الى عوالمه... كان هو ينتحي جانباً ويؤثر انفراده لكنه ولحاجته الإنسانية الى الآخر كان يشيد من الآخر متلقياً أي مستمعاً لأن شعره كان موجهاً بهذه الصفة: المسامرة أو المنادرة أو الاستماع وحتى هذا الآخر لم يكن مطلقاً بل انه من نخبته المنتخبة.. ومن هنا كانت قلّة نشره وانقطاعه الى ذلك وظهوره في أوقات متباعدة ولكن تعبيره الذاتي هذا والذي هو ليس بصفة الإطلاق دائماً ربما وجد فيه الآخر ما يلامس ذاتيته أيضاً ولكن هذا ليس متطلب الشاعر نفسه بقدر ما هو شأن المتلقي وتطلبه.. فقد كان يعنيه أن يسجّل أحاسيسه أو أيّامه وتجاربه -التي هي- بكلمة-ذكرياته ومشاعره وملاحظاته عنها كي يؤرّخها..على أن شعره كان ينعم برهافة الحسّ وبعلوّ غنائيته وعذوبتها وبحزنه الشفيف وبسهولته ويسر تناوله وتداوله وبساطته.. وذلك أيضاً ما يحمد فيه: فقد كان الشاعر يحمل مفهوماً عن الشعر هو عين الحميمية والإخلاص وتجنّب الابتذال وسهولة النشر فقد كان شعره يمثل لديه اعتزازاً متناهياً مما جعله يترفّع به عن مهاوي التزلّف والمداجاة والمديح الكاذب... وكان قلقاً من ناحية نشره وهيّاباً –لا خوفاً- بل احتراماً لما سيقدم... حتى أذكر أنني اكتشفت قصيدة له كان هو قد أرسلها للنشر بإسم مستعار هو (عبد الله محمود) بدلاً من (عبد الخالق محمود) بإبدال(عبد الخالق) إلى (عبد الله) والذي هو اسم مرادف له -ليمتحن ثقته وتردده أو صلاحية شعره للنشر وخشية من فشله في ذلك- وقد نشرت القصيدة في السبعينات في مجلة الأقلام بعنوان "عذاب آدم"، وفيها تأثر واضح بقصيدة البريكان "حارس الفنار" الذي كان الشاعر الراحل عبد الخالق محمود يؤثر شعره إلى درجة كبيرة ويعجب به أيما إعجاب... وقد ظلّ زمناً -يدور حولي- ويسألني عن كيفية توصلي الى اكتشاف أن القصيدة له..متعجّباً ! إذ انه لم يخبر أحداً بالموضوع الذي كان بينه وبين نفسه. ولعلّ إعجابه بشعر البريكان بثقله الفكري وعمقه الرؤيوي، هذا الإعجاب، كان يعوض عليه من ناحية إنجازه -المتواضع- ما تفتقد إليه قصيدته هو، إذ أنه شعر في بنيته وأسلوبه وأطره وموضوعاته وبالإجمال محتواه وتقنيته أقرب إلى شعر الخمسينات العراقي بطروحاته والميل فيه إلى شعر سعدي يوسف في "النجم والرماد" و"51قصيدة" خاصة هو الأوضح لواقعيته وغنائيته أو رومانسيته وبساطته المعمّقة..إذ أنه لم يكن ميّالاً إلى "التجريب" أو المحاولات الشكلية وكذلك لم يكن يعني بالمنطلقات النظرية أو المناهج النقدية الحديثة، كالبنيوية والتفكيكية أو أساليب ما بعد الحداثة...بل كان يعتبرها "موضات" شائعة وعابرة تؤدي إلى "التغريب" والإشكال وسرعان ما ستنحسر أو تأفل وهو موقف غير جاد وفيه بعض القصور أو التقصير الثقافي...لكنه- من ناحية أخرى- كان ذا وعي تراثي بحكم دراسته ومهنته..كذلك مع وعيه هذا فلم تكن لغته متقعرة أو متفيهقة بل كانت لغة اعتيادية جداً أنيسة ومألوفة بلا لواحق أو تفضيلات..وكان "الموضوع" هو المتحكم في شعره وهو الذي يأخذ من عنايته الكثير.. كما إن العديد من قصائده كان في المستوى نفسه تقريباً من التوصيل أو الإنجاز أو التكرار أيضاً، فقد كان يعاود الطرق او الزيارة الى مناطق سبق لأقدام قصيدته أن وطأت عتباتها..(انظر مراثيه الست لأمه، مثلاً ،مقارنة مع بقية قصائده) فمن نقطة الانطلاق حتى نقطة التوقف وهو في دوران مستمر مغلق على دائرته. ولا نخطيء القول اذا ما قلنا إن مجموعته "مراثي الشمس" بمجملها تدور في الدائرة نفسها حيث حسّ الندب الفاجع هو ما يريد أن يستوقفنا طويلاً عنده..:
ستلمس الوتر الحزين بخافقي
فيعود للشفة المريرة
لحن كئيب مثل ألحان الحياة..!
ومثل هذه النفحة نجدها عند صلاح عبد الصبور أيضاً.إنه شاعر..، أوان الليل أوان قصيدته:
أحسّ الليل يعرف كلّ أسراري
ويطويني الدجى وحدي .
وكذلك قوله :
يغرق الليل في الليل
أغرق في الليل ،
يغرق هذا المدى في الظلام .
أو قوله :
ونامت الطيور فوق الحائط القديم
والأشجار
إلاّ فؤادي فهو يشكو للدجى ..
نحيبه.
ونحن نقرأ في قصائده -توكيداً على ذلك، مثل هذا:
ليل بلا أحلام/كأنه الردى . أو/ فجر بلا أضواء ، وفجر أسود العينين
أفق معتم/ وسماء بلون الرماد، في ليلة أقمارها سوداء، صداي دون صوت/ وصوتي دون أصداء، ياليلة سوداء، تجيء الظهيرة سوداء، القلب جلّله السواد، السواد ارتقاب / وما في المدى غير ليل يجيء، والأرض في ظلامها تدور...الخ..الخ...كما أن قصائد موجزة ومكثفة ذات نفس قصير ملحوظ تحتال عليه - إن أرادت أن تطول أو تتمطّى قليلاً- بالتنويع على مقطعها الأول بفاصل أو رابط هو لازمة متكررة مثل (مرة أخرى التقينا) أو (مَن تُرى مثلها)، أو (أفق معتم) أو (ليلة داجية) أو (قابيل..) أو (هابيل..) أو (حمل و ذيب) أو (على راحتي..) أو (تندفع الأقدام فوق الرصيف) أو (القطار المغادر) أو (عيناك..) أو (في غد) الخ. ويلاحظ ذلك في معظم قصائده غالباً (التابوت، قبرها، شجر، مشهد، الأيام، الشموع، قابيل وهابيل، أقدام فوق الرصيف، ألوان الظهيرة المائية- التي هي من أكمل قصائده مع تعالقها بقصيدة لسعدي يوسف-، القطار المغادر، سماء، الغجري، حوار، المسافر، لست وحدك..الخ). أما في ساعاته السعيدة فإن الشاعر يتوهج عاطفياً وينمّ عن فرح وجذل عارم ويكتنفه السرور وتضيء الإشراقة وجهه وكأنه يرتشف كأساً أو ينادم خليلاً عندما يتكلم عن وردة تتفتح أو بلبل يترنم أو عن شمس تهبط إلى الماء عند الغروب وتمشّط شعرها الريح أو عندما يدخلنا معه الى حدائق الشاعر الإنساني الرهيف طاغور الذي كتب عنه قصيدة أو قصيدتين كنت أحتفظ بها ضمن ما أحتفظ من قصائد للشاعر كتبها لي عام 1966 أو 1967 والتي أذكر منها الآن لازمتها المتكررة التي تقول:
فباركوني إنني من فرحي مجنون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر راحل.. يرثي شاعراً رحل قبله
*جاسم العايف
بعد الرحيل، المفجع، للشاعر الصديق “مصطفى عبد الله”، في 1/11/1988 وصلني كتاب، عنه وله، بعنوان “الأجنبي الجميل” من إصدار" رابطة الكُتّاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين –دمشق" احتوى على كتابات لبعض الكتاب العراقيين والعرب حوله وحول رحيله المبكر المفاجئ ومختارات من قصائده وهو بمثابة ذكرى ووفاء لمصطفى عبد الله.. بدأت أسرب، الكتاب سراً إلى بعض الأدباء والكتاب والمثقفين في البصرة، ومنهم من الأصدقاء الذين اطلعوا على هذا الكتاب، الشاعر (عبد الخالق محمود).ليلة أسرّني عبد الخالق وكنا في حديقة اتحاد الأدباء البصرة - قبل حوسمته بعد سقوط النظام من قبل بعض العوائل البصرية ولا زال محوسما حتى الآن- انه كتب قصيدة رثاء في ذكرى مصطفى عبد الله وهو لا يستطيع نشر القصيدة وهي مهداة إلى (مصطفى) داخل العراق، كما لا يمكن نشرها خارج العراق وهي باسمه!؟. ضحكنا بمرارة، من هذه المفارقة والزمن الذي يلاحق حتى قصائد الرثاء . ثم قرأ القصيدة، ولاحظت سواتر الخوف المطبقة عليه، مع انه استبدل (الأجنبي الجميل) بـ(الغريب الجميل)، ثم علق: انه يأمل نشرها في الوقت المناسب والمكان المناسب. مع ارتخاء قبضة النظام القمعية،خلال زمن الحصار، بات تهريب الممنوعات سهلاً ،مرة وصلتني مجلة (الثقافة الجديدة) ومعها ديوان شعر صغير، للصديق الشاعر عواد ناصر، وكان استلام المجلة والاطلاع عليها يقتضي أقصى حالات الحذر والكتمان والمخاطرة التي ربما تودي إلى التهلكة،وهذا ما حصل لبعض الأصدقاء، والذين دفعوا ثمنا باهظا لذلك. ومع ذلك تسربت المجلة والديوان، مني، إلى عدد محدود جداً من الأصدقاء الأدباء.. كان من بينهم (عبد الخالق) وبعد أن أعاد ليَّ المجلة ملفوفة بكيس ورقي اسمر لا يلفت انتباه احد ،وجدت قصيدته عن (مصطفى) بداخلها.استوعبت رسالة عبد الخالق الرمزية الملغزة. ثم أحرقت المجلة بأسفٍ بالغٍ، واحتفظت بالقصيدة لديَّ. أخذت صحة عبد الخالق بالتدهور.. داهمه مرض (الكبد) ، بذل الأطباء جهداً لمساعدته دون جدوى، قال له الطبيب مرة-:
- لم يبق من كبدك شيء.. و لو التزمت بما أقوله لك، سوف يعود جزء منه على الأقل إلى سابق عهده.
سأله عبد الخالق:
- كم سأعيش، بما تبقى لي من كبدي؟
أجاب الطبيب:
- ربما سنة أو أكثر قليلاً.
رد عليه عبد الخالق، بصفاءٍ عجيب مملوء بالدهشة واللامبالاة:
- سنة..!؟.. إنها كثيرة جداً يا دكتور!!.
أصر (عبد الخالق) على السير، بإرادته نحو الحافة الأخيرة .. سافر لـ(عمان) في محاولة العلاج فيها واللقاء بشقيقته ، ثم عاد سريعا, دون أن يوضح لنا ما سمعه من الأطباء هناك.وأخيراً تمكن منه (الداء)..غاب التماع عينيه.. تهدم بناء قامته.. ازدادت الرعشة في يديه، تناوب المرض، والحصار في الأكل من جرفه شيئاً.. فشيئاً، إلا انه بقي على ولعه بالنكتة. كان راوي طرائف من طراز فريد.. لا بل كان صانع طرائف. ذات ليلة نُقل إلى (المستشفى التعليمي) وفي صباحها هناك رحل.. وثوي أخيراً في مقبرة (الحسن البصري) بالزبير. ((عبد الخالق محمود.. شاعر ينسجم والطريقة البصرية في الدأب الصامت على الكتابة)) هكذا قدمته مجلة (أسفار في العدد 15 آذار 1993) بمقال كتبه الأستاذ القاص محمد خضير بعنوان "الطبائع السبع لشاعر الظل" وأكد فيه أن قصائد عبد الخالق "تتدرج من البوح الواطئ إلى الصوت المرتج بالألوان والبروق والتقلبات" .وان الشاعر بذلك يضمن "وصول الإشارة إلى كهف المعنى" عبر "التعجيل المتعقل" وان عبد الخالق في نشره لهذه القصائد وباختياره فأنه يضحي من شبَابته قربانا لمجهوليته التي تكتمَ عليها بإباء وإيثار وزهد وحرمان ..وسيعود بسلام إلى مجهوليته ,غنائه الخافت،كهفه الصامت".وقد اعتبر القاص محمد خضير قصائد عبد الخالق السبع بمثابة " الذبائح"الموصولة بحبال القصائد السبع واقترح أسماء لها فالذبيحة الأولى باسم"الوحدة"والثانية"الانتظار" والثالثة"النقاء" والرابعة"الحزن" والخامسة"الصمت" والسادسة"الوهم"والسابعة"الحقيقة" ولم يكن هذا ترتيب القصائد غير إن الطبائع السبع- حسب الأستاذ محمد خضير- تجتمع في القصيدة الأخيرة"ألوان الظهيرة المائية"التي تجسد بالبرهان على"لحظة الإشراق الحقيقية"وفيها يحلق الشاعر نحو" أعلى مدارج الكشف في برج تكويناته الشعرية" ليعود بعد ذلك إلى ظله بعد سياحة محترسة مس خلالها حدود العالم الخطرة..يعود بسلام إلى مجهوليته ..غنائه الخافت ..كهفه الصامت. ولد الشاعر عبد الخالق محمود في البصرة عام 1945 وتخرج في جامعتها 67-68 كلية التربية قسم اللغة العربية و توفى ليل 15 / 11 / 2001 . مخلفاً ديوان شعر مطبوع بعنوان "مراثي الشمس..وقصائد أخرى " منشورات اتحاد الأدباء في العراق/ عام / 1994/ضم (30) قصيدة، وهي مختارات من قصائده المنجزة خلال الأعوام الممتدة من 1980- 1993 . وله ثمة دواوين مخطوطة أخرى. بقيت احتفظ بقصيدته هذه حتى سقوط النظام. وأرسلتها للنشر في مجلة" الثقافة الجديدة" في ذكرى المرثي"الشاعر مصطفى عبد الله" والراثي "الشاعر عبد الخالق محمود" .
قصيدة إلى الغريب
في ذكرى: مصطفى عبد الله
*عبد الخالق محمود
****
قبل عشرين عاماً عرفتك،
كنت فتىً أخضر الشاربين.
قبل عشرين عاماً عرفتك،
كانت نجوم المساء
فوقنا، غابةً من ضياءْ
وسماءُ الجنوب الخفيضة نلمسها باليدين
قبل عشرين عاماً عرفتك،
أذكر:
ان السماء
هبطت وردة تستظلّ بنا،
وردة تحت قمصاننا نستظل بها،
وبها مابنا:
عطش وارتواء.
قبل عشرين عاماً،
بدأنا الطريق الذي ضمّنا،
ومن المهد، قُلنا، الى اللحّدِ:
نبقى، معاً، سائرين
* * *
بعد عشرين عاماً،
أنا، الآن، وحدي،
أنت وصلت الى آخر الدرب،
بَينْما بقيت انا في العراء
ضائعاً..
المدى ظلمةٌ وعويلْ
فالمدينةُ، حولي، مفجوعةٌ بفتاها القتيل
والفتى عائدٌ كالحسين
فوق مهرتهِ،
ظامئ الشفتين
دون رأسٍ،
يُسائل عن وردة إسمها كربلاء
أهذا الحبيب
بعد عشرين عاماً تجيء..؟
لقد شاب رأس الفتى،
والليالي تكرّ،
الليالي التي لا تفرُّ،
ولم يبق في العمر إلا القليل
وسماء الجنوب البعيدة مطفأة،
وأنا سائر، وفؤادي الدليل
أيهذا الغريب
أأنا العائدُ، اليوم، أم أنت،
أم أننا، قبل عشرين عاماً قُتلنا،
وصيرنا حبنا شهداء؟
أيهذا “الغريب الجميل”
كيف داهمنا الموت
والحب، لما يزل، دورةً في الدماء..؟؟
البصرة: 1992/6/17
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( مراثي الشمس )..السواد والفجيعة
*خالد خضير الصالحي
حينما كلفني الشاعر الراحل عبد الخالق محمود برسم غلاف مجموعته الشعرية (مراثي الشمس) استغرق ذلك منا عدّة جلسات، كان يقرأ الشعر لي فيها مساءً، حينما يكون منتشياً ليس بفعل قراءة الشعر وحدها، وكنت أستمع إليه بانتباه شديد. كنت استمع بعمق لأنجز غلاف مجموعته، ولأستمع بعمق يتيح لي تدوين ملاحظاتي عن شعره. كان يركّز على ما أسميته وقتها (القصائد الملونة) وذلك لاعتقاده أنها الأقرب إلى روح الرسم، بينما كنت أصغي إلى قصائد الرثاء، هذا الغرض القديم للشعر والذي جعله عبد الخالق محمود غرضه الأساس في المجموعة، رثاء نفسه، من خلال رثاء الآخر. لم أتحدث معه عن القصائد كثيراً، احتفظت بملاحظاتي لنفسي عَلّني يوماً ما أكتب عنها، و بعد أن تشبعتُ بروح الرثاء، أنجزت الخطاطة، فكان عبد الخالق محمود شديد الفرح بها، لأنها كانت هي الأخرى تجسيداً لذلك الرثاء المزدوج الذي كرّسته المجموعة. لا أعلم أين استقرّ المقام بالخطاطة، فلم يبق منها سوى صورتها السلبية (النجاتيف) على غلاف( مراثي الشمس). مرّت أعوام لم ألتقِ خلالها عبد الخالق محمود، وذات يوم التقت عينانا، كان هو يهمُّ بدخول مرآب ساحة أم البروم، وأنا أهمّ بالخروج منه، لحظتها كنتُ قد اتخذتُ قراراً غريباً، هو الهروب من مواجهة عبد الخالق محمود، لم يكن ذلك القرار سوى ردّ فعل وهروب من هول الصدمة التي سبّبها لي (هيكل الموت) الذي تلبّس عبد الخالق محمود، كان حديثنا قصيراً، كنت خلاله فاغراً فمي، بينما كان عبد الخالق محمود لحظتها يحمل أوراق التحاليل المرضية بيديه، كنتُ ذاهلاً ومرتبكاً، وكنت حزيناً، بل كنت أبكي في داخلي وهربت. رحلتُ بعدها إلى عمّان، وحين عدت إلى النشر في صحيفة الزمان، خابرني صديقنا المشترك كرم نعمة وسألني عن حسين عبد اللطيف وطالب عبد العزيز وعبد الخالق محمود، فلم أكن أعلم ما الذي حلّ بعبد الخالق محمود فقلت لكرم: أعتقد أن عبد الخالق محمود قد مات، ولم أكن قد سمعت بموته، وسألني وقتها لماذا أعتقد ذلك..؟ فأجبته أنه كان في اللقاء الأخير العابر الذي ذكرته قبل قليل ليس أكثر من ميت يحمل أوراق أمل زائف بالحياة.
* مالك بن الريب
يصف الناقد ناظم عودة في كتابه( نقص الصورة...تأويل بلاغة الموت) علاقة المرثيّ بنصّ المرثية، بأنه غالباً ما تتمّ إزاحة الراثي خارج فاعلية الحدث، فيهيمن لسان المرثية دوماً بوصفه وثيقة من وثائق المرثيّ، وربما آخر وثيقة، وقد تضخّمت هذه الإزاحة فكان التعويض هو الخطوة الأولى باتجاه الهيمنة على لسان المرثية من لدن الراثي نفسه، فكان أهمّ نموذج انشقاق على معيار المرثية هو (مالك بن الريب) الذي أراد أن يصوغ لسان مرثيته بنفسه، فهيمن على القوى الثلاث، فكان هو الراثي والمرثي ولسان المرثية. وكذلك هيمن عبد الخالق محمود على قوى المرثية الثلاث في (مراثي الشمس)، فكان خطابه في جوهره رثاء يبثّه عن نفسه كما هو عن الآخر:
مرّة أخرى التقينا
أنتِ في تابوتكِ المحمول فوقي،
وأنا الضائع في أرضٍ حزينة
وبذلك يتقنّع عبد الخالق محمود دور مالك بن الريب في الرثاء، فيجعل (مراثي الشمس) مراثيَ لنفسه أثناء حياته، وهاهي الآن مراثٍ لعبد الخالق محمود بعد وفاته، فقد كان عبد الخالق محمود يستغل مناسبة رثائه لأمّه ليرثيَ نفسه.
* القصائد الملوّنة
(البدء بالسواد والانتهاء بالفجيعة)
كان عبد الخالق محمود يحاول إلقاء، وإعادة إلقاء قصيدة (ألوان الظهيرة المائية) باعتبارها (نصّاً تشكيلياً بَصَريّاً)، وكنتُ أوافقهُ على ذلك، فقد كان يبني ذلك النصّ على بالية تبتدئُ باللون الأبيض (=الحياة)وتنتهي بالأسود(=الحزن=الموت)مروراً بأطوار استحالة لونية تشكّل ضربات تنتقل من الأبيض (تجيءُ الظهيرةُ بيضاء) ولون محايث ظلِّيّ لذلك البياض هو النهار وشمس الظهيرة وشموس، ثم الأخضر (تجيء الظهيرةُ خضراء) وظلّ الأخضر هو المراعي، أودية، حقول. ثم الأزرق (تجيء الظهيرةُ زرقاء) وظلّ الأزرق سماء، بحار، لازَوَرد. ثمّ الأحمر (تجيء الظهيرةُ حمراء) وظلّ الأحمر وهو جمرة ، حرائق، دماء. وأخيراً الأسود (تجيء الظهيرةُ سوداء) وظلّ الأسود وهو حزن مقيم، أفريقيا، جحيم، رماد. بينما يبثّ عبد الخالق محمود ألوانه خفيّة في قصيدة (موت الأمير)، حيث تمرّ الألوان كأطياف رمزية:
نامَ الأميرُ النومة الأخيرة (= الموت)
محتضناً أحزانه وحبَّه ( أحزان، حب ميت)
في ليلة شاحبة مقرورة (ليل)
نجومها عمياء (نجوم دون ضوء)
وتجتمع في المقطع الثاني الخضرة (عصفورة خضراء) والأمل الأخضر (انتهت غربتك المريرة) بالبياض (الوردة البيضاء)، وتختلط في المقطع الثالث الألوان بطريقة مشوشة كالأزرق (عطرها الزرق كالسماءْ) والموت الأسود (نومته الأخيرة) وحبّه الميت (أحزانه وحبّه) ثم حندس الليل (ليلة أقمارها سوداءْ). إلاّ أنّ الأمل قد يجيء ملاكاً أبيض (قد عاد روحاً حرّة). وكذلك في (ثلاثية....) نجد الألوان مبثوثة أما بشكل صريح (بيضاء، البيضاء، حمراء ، سوداء)، أو بشكل مضمر (دم=أحمر، الموت=أسود). وكذلك في (لست وحدك) وهي قصيدة مهداة إلى شاعر الألوان الإسباني لوركا، حيث يظهر اللون صريحاً، دونما مواربة حيناً: خضراوان، سوداء، وحيناً بشكل مضمر: عشب (=أخضر)، أفق مُضاء (=أصفر)، السماء (=أزرق)، الدماء (=أحمر)، الليل (=أسود). كلما اقتربنا من نهاية (مراثي الشمس) يبدأ الشاعر عبد الخالق محمود باختزال باليتة ألوانه ففي (هاملت يصحو) نجد صورة غير ملونة (بالأسود والأبيض) يملؤها: الحزن، الأسى، الضياع، الليل، الموت، مأتم، مغترب، المساء.. وكلّها ذات طبيعة سوداء، بينما يجيء الأبيض بقعة يتيمة: أوفيليا البيضاء، وهي ملطّخة ببقعة حمراء تحتل أرضية المسرح: يغرق في الدماء، دمنا المسفوح. حالما نقترب من نهاية (مراثي الشمس) يصطبغ النصّ في آخر قصائد المجموعة بالأسود، منذ عنوان آخر قصائده (الغراب) (=السواد) نواجه: الليل، رماد، ذبول(=السود) ويتصاعد الظلام ليغطي المشهد برمّته في آخر مقطع من الديوان من قصيدة (الغراب):
في غدٍ...
كلّ لونٍ سوادْ
.........
في غدٍ..
يستريح من التعب المُرّ
هذا الفؤاد
وبذلك يمتزج سواد الألوان بالموت الأسود المرّ فتكون (مراثي الشمس) قد ابتدأت بالأسود ابتدءاً من غلافه (الصورة = النيجاتيف) وانتهت بـ(الغراب) حيث اختتم بالسواد والموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هاوية الغياب
*جبار النجدي
أعطت النشأة القاسية للشاعر عبدالخالق محمود إدراكاً مبكّراً للموت ولم يستغرق أبداً في الحياة التي توحي بغياب الخطر فلامست بواكير شعره مستويات القرابة الاشتقاقية بين كلمتي موت وحياة المتأرجحتين بين قطبين متضادين لكنهما يبدوان مترادفين في آن واحد.. هذا التقريب بين طرفين متعارضين كشف له أسرار التوافق الدلالي بين الحياة والموت، فكلمة الحياة
لديه تدور في نطاق معنى كلمة الموت؛ ولعلّ ذلك من إشكاليات فرضية الوجود التي تقتضي برهاناً، ويبقى برهانها الأزلي, الحياة المشروطة بالموت وعلى وفق هذا الافتراض يتحول الموت الى مادة حيّة تتجلّى بعد أن تستنفد الحياة إمكانياتها استعداداً لسيرورة التوليد.إذن كان الشاعر عبدالخالق محمود يعي في شعره جدلية الحياة والموت وسرّ المناوبة فيما بينهما وأوجه التعارض في ذلك...لذا لم يخشَ عبدالخالق محمود الموت بقدر ما كان يُقلِقُهُ ويثيرُ في نفسه تساؤلاً.. مَنْ يضمن سعادة الأحياء..؟ تلك الحقيقة تفرض علينا إعادة النظر بخصوصيات الشاعر في النظرة الى الموت، فلم يحرص يوماً على تأخير أجله، فكان أن أنشأ لنفسه نمطاً شعرياً غنائياً مطبوعاً بالأسى الذي لا تختزله صرخة واحدة... شعرية متكتّمة تتوارى خلف البعد التداولي للشعر وتنأى بنفسها عن كل زهو وإدّعاء- خجلهُ وحبّهُ للشناشيل هما أفضل ما يدلّنا على بصريّته المفرطة..كان الشاعر يتعجّل النهاية ليصل الى هاوية الغياب وحينما كان ينتظر دنوّ لحظات الموت بَدَا هادئاً وأشدّ التحاماً بطبائعه البصرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عشنا معاً .. وتعلمت منه الكثير
*عبد الحسين الغراوي
عندما ألمح البناية التي جمعتنا أنا وأخي الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود، تستعيد ذاكرتي هامة صديقي الشامخة، فأُدرك أن هذا الإنسان الوديع الخجول وهو يُسرع لاستقبالي، إنما يعّبر عن عذوبته ودماثة خُلقه التي عُرِفَ بها. كان غالباً ما يكتب قصائده بسريّة تامة حتى أنني وخلال ثمان سنوات عشتها معه لا أعرف بالضبط الوقت الذي كان يكتب فيه قصائده، وهذه واحدة من طقوسه الذاتية. وعندما نجلس ليلاً معاً في غرفته يُسمعني إحدى السيمفونيات العالمية لباخ أو موزارت أو هايدن أو بيتهوفن، ثم يأتيني صوته الدافئ وهو يقرأ لي قصيدة جديدة.أن ساعات الليل تذوب لتتحول إلى نهـر مـن الحنـان والحـب والحوارات الإنسانية ومتابعة عالم الأدب، سيما متابعته الدقيقة لكتابات أصدقائه أدباء البصرة مثل القاص محمود عبد الوهاب ومحمد خضير وشاكر العاشور وجبار النجدي وحسين عبد اللطيف وفيصل عبد الحسن ومجيد الموسوي ، وأصدقاء آخرين كثيرين . ولن أنسى هنا مطلقاً الطاقة الإبداعية التي كانت تعتمل في دخيلة الشاعر المرحوم عبد الخالق واهتمامه وحرصه على كتابة قصائده لأكثر من مرة، حتى يستقر أخيراً على ثيمة القصيدة وجماليتها .لقد شكّلت مجموعته (مراثي الشمس) التي أهداها إلى روح أمّه تغمّدها الله بواسع رحمته، انعطافة إبداعية على مستوى الإبداع الشعري البصري، لما حملته من قصائد إنسانية رقيقة مشت فوق وجه الماء تبصره بروحها وعذوبتها. هكذا عشت مع صديقي وأخي الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود وتعلمت من مدرسته الذاتية أشياءً كبيرة يكفي أن أقول، إنّ كل قصصي التي كتبتها خلال سنوات رفقتي له ومجموعتي القصصية (أزهار ذلك اليوم الجنوبي) حطّت فوق كفّ الشاعر وقبّلت وجهه المدور الوديع الهادئ. هذا هو إذن عبد الخالق محمود الشاعر والإنسان.. الذي غادر إلى الأبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أشعار : عبد الخالق محمود
• النورس

ينبسط الساحل هشاً ، ناعماً,
يفترش الساحل طفل اخضر الشعر،
وشمس البحر في محفة الأفول.
*
تعبرني الريح اجهل ما تقول.
*
ويهبط الليل كئيباً
يختفي الساحل والطفل
وشمس البحر،
لا يبقى سوى الريح التي تجهل ما أقول
.......................
.......................
وهكذا ...
كنورس وحيد
أبقى أمام البحر
اجلس فوق الصخر
منتظراً ميلاد فجر العالم الجديد.
-----------------------------
• شجر

شجر في الرصيف
شجر من زمان الطفولة ارقبهُ,
شجر من زمان الطفولة يَرقبُني.
شجر ظل يسكنني
شجر ظل يتبعني
ويجيء مع الحلم غضاً وريف.
*
شجر كالربيع
شجر مثل أمي حنون..
وديع .
شجر كان يصحبني في السفر
وينادمني.
شجر ليس مثل الشجر
شجر كان يسقط إزهاره فوق روحي,
ويمنحني ظله،
ونداه،
وحلماً شفيف.
*
آه يا شجري،
قد كبرنا، معاً
وعلانا غبار السنين.
آه يا شجري ،
آه يا شجري ،
ذاك حطابنا قادم ..
فلنمت واقفين.
-------------------------
• إحزان كلكامش
" إن النازلة لتي حلت بصاحبي تقض مضجعي- ملحمة كلكامش "

أنا الذي رأيت.
أنا الذي رأيت.
*
رأيت ما لم تراه عين،
أنا كلكامش الحزين
احمل، وحدي، صخرة السنين
فصاحبي فارقني،
وسار
إلى مكان ما له زمان
إلى زمان ما له مكان
وقام ما بيني وبين صاحبي جدار.
*
من قال للفجر: انطفئ
وامتلئي يا ارض بالقبور؟
من أطلق النمور
من كهفها تفترس البشر ؟
من قال للموت : ابتدئ
كن خنجر القدر
لا مهرب منه ولا مفر؟؟
*
هذا انا كلكامش الوحيد
في حانة شاحبة ،
اشرب كأس غربتي
منتحباً ، شريد
عيناي دمعتان.
...
فراشة الأحزان
حطت على قلبي
وغابت نجمة الليال.
...
عيناي حفرتان
أعمى أهيم في البراري، شاحباً، طريد.
*
الموت بالمرصاد،
صوت صاحي يجيء من بعيد
يقول لي : ( تعال
لرحلة أخرى نصيد الوحوش فيها،
ونرود غابة المحال.)
*
الأرض في ظلامها تدور
وهاجس في الروح ينعاني ، ويبكي,
هاجس في الروح ينعى سيد الرجال
وسيد العصور,
*
أنا الذي رأيت .
أنا الذي رأيت .
...............
...............
في البدء كان الموت.
في البدء كان الموت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تمت الدعوة للمساهمة في هذا الملف من قبل الأستاذ"خالد السلطان" رئيس تحرير جريدة "الاخبار" التي تصدر في البصرة عن شبكة الإعلام العراقية ونشر فيها.(ج - ع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بورتريت سريع لعبد الخالق!
سنان أحمد حقّي ( 2011 / 10 / 11 - 23:41 )
بورتريت سريع لعبد الخالق!
مرّةً أجد ملامحه في الموسيقي كمال الطويل إذ أجده يشبهه، ومرّةً في بعض أوضاع للملحن الشهير فلمون وهبة ، كان يحبّ الغناء لا سيما على مائدة النشوة ويفهم في شئ من المقام العراقي ويجادل فيه إن كان عن يقين أو للتحبب فيه فقط، أحبّ الشعر جدا وقرأ فيه كثيرا ولكنه عشق لوركا جدا وأحبّ سعدي يوسف والبريكان وبدرا كثيرا كما فعل معظم أبناء جيله . تعرّفت عليه في عهد الصبا وفي المرحلة المتوسطة مع شلّة قليلة من الأصدقاء منهم عبد الحسين عبد الله الذي هو الآن الدكتور عبد الحسين والذي كان مهووسا بعلم العروض ذلك اليوم ومعنا مهدي محمد علي وبعض زملاء الدراسة، وعبد الخالق كان في بداية الأمر مثابرا محبّا للحياة مجتهدا في المدرسة وأذكر أنه كان من طلاب الأستاذة الكبيرة نازك الملائكة عند دخوله الجامعة وأن الشاعرة المذكورة كانت تلاحظ نشاطه ومثابرته ولكن ذلك فاق ما كنّا نتوقّع فقد تميّز لديها في الموضوعين الذين تحاضر فيهما وهما النقد الأدبي وعلم العروض ومن العجب أن الشاعرة الأستاذة كانت متشدّدة في الدرجات.. إلاّ أنه أحرز في كل من هاتين المادتين ــ يتبع رجاء


2 - تابع رجاء/بورتريت سريع لعبد الخالق!2
سنان أحمد حقّي ( 2011 / 10 / 11 - 23:43 )
لديها 100% وهذا أمر عجيب لأنها لا يمكن أن تمنح مثل هذه الدرجة ببساطة أبدا وقد حدّثني (عبد،وهكذا كنّا نناديه) أنه في الإمتحان النهائي لمادة علم العروض كان أحد الأسئلة يطلب تمثيل بعض البحور أو مجزوءاتها النادرة والمهملة ويقول ( أنه لمّا لم يجد فيما يحفظ من الشعر أي بيت يمكن أن يضربه مثلا لهذا البحر المجزوء فتوقف قليلا ثم وضع بيتين من تأليفه هوساعة الإمتحان وللأسف لم أعد أتذكرهما وخرج فجاءت الدرجة 100% وهي لا تزال كما هي في وثيقة درجاته المحفوظة في الكليّة كما روى لي عندما استخرج يوما نسخة منها.
لم تتدهور صحّته قبل أن تتداعى أركان حريّته التي كان شغوفا بها وحريصا عليها جدا
مزاحه ونكاته كانت سخرية وتورية ساخرة من فقدانه معظم الأصدقاء وتعذّر مواجهة القهر الإجتماعي والثقافي ومن مواجهة الخوف وإن لم يكن أحدٌ يستطيع أن يُشير إليه بهذا


3 - تابع رجاء /بورتريت سريع لعبد الخالق!3
سنان أحمد حقّي ( 2011 / 10 / 11 - 23:45 )
لو كان قد شغل نفسه بالإلتحاق بأية دراسات جامعيّة عليا فأنا كنت أعتقد أنه ربما كان مساره مختلفا فيما بعد
إنه مثال مجسّم للإنسان الذي يفقد الحياة وهو ما يزال فيها والحريّة التي لا بديل لها إطلاقا وهي الغيث الذي يسقي الإبداع فإن انطفأت فإن جذوة الإبداع تنطفئ لا محالة
كان طيب القلب جدا بسيطا ومتواضعا ووجدته يؤثر علاقته بالأستاذ محمود عبد الوهاب على جميع أصدقائه ومعارفه وهو محقّ في ذلك، إذ أنه أي الأستاذ محمود هو من حمله إلى مثواه الأخير فيما بعد كما حمل من قبله الشاعر البصري بدرا وربما في أيام خريفية سابقة تماثلها أيضا
صحبته كانت ممتعة لأنه متسامح وساخر ومحبّ للنكتة ويروي عند السهر شيئا من أروع الشعر قديمه وحديثه ويُغنّي وقد يقرأ بعض الآيات القرآنية على طريقة عبد الفتاح الشعشاعي ويحفظ من الأغاني العراقية التراثيّة الشئ الكثير لقد كان مقدّرا له أن يكون مشروعا أدبيا متفوقا لولا أن هجرته حبيبته ( الحريّة) في وقتٍ مبكّروجعلته لا يبالي بمفارقة أي شئ سواها.

اخر الافلام

.. إليكم ما كشفته الممثلة برناديت حديب عن النسخة السابعة لمهرجا


.. المخرج عادل عوض يكشف فى حوار خاص أسرار والده الفنان محمد عوض




.. شبكة خاصة من آدم العربى لإبنة الفنانة أمل رزق


.. الفنان أحمد الرافعى: أولاد رزق 3 قدمني بشكل مختلف .. وتوقعت




.. فيلم تسجيلي بعنوان -الفرص الاستثمارية الواعدة في مصر-