الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعيد الشرايبي أو -سماعي البهاء-*.

حدجامي عادل

2011 / 8 / 15
الادب والفن


علاقتي بالأستاذ سعيد الشرايبي لا تعدو و لا تتجاوز طريقين، الأول و هو الأضعف طريق الفيسبوك، هذه الجغرافيا الافتراضية الجديدة التي نفت ما دونها من الجغرافيات، إذ هو واحد من الحاضرين في قائمة أصدقائي القلة، و أنا واحد في قائمة عشاقه الكثر، في هذه الجغرافية التقينا و تحادثنا عن أعمال له و عن شجون المقامات و الموسيقى ؛ و لعله يذكر أن آخر حديث لنا كان منذ مدة حول طرف من مقطوعة فاتنة من عمل له بعنوان "سليمان" ، و بالضبط عن اللحظة التي تجسد انتظار النبي لمعشوقته بلقيس، و أذكر أني حاصرته حينها حتى يبوح لي بالمقامات التي صور عليها هذا الانتظار، فأجابني بتفصيل و رحابة صدر ينمان عن أريحية و كرم. و أعرف الأستاذ سعيد عن طرق ثان و هو الأهم، أعرفه كمتتبع لأعماله ، وهذه المعرفة في الحقيقة هي الأهم في نظري و الأقوى، فلا معرفة بالمبدع إلا في أعماله، فالإنسان هو عمله، و المبدع هو منجزه ، و أما الباقي فماركوتينغ ودعاية لا غير، وحدها الأعمال تهم، و أما الأشخاص فمجرد كيفيات عابرة في الوجود، هذا ما آمنت به دائما.
على أن كون الفنان هو عمله وليس شيئا آخر هو أمر يصير مع الأستاذ سعيد تحديدا أصح و أقوى، لأن سعيد هو أعماله، سعيد و مقطوعاته شيء واحد، سعيد و بدافع من خجل فطري جميل و رفعة و صفاء معدن لا يعرف كيف يتحدث عن ذاته، و لعل بعض الحاضرين ما يزال يتذكر كيف حصل في أحد اللقاءات التلفزية حين استضافه أحد أصدقائه أن قال مجيبا مضيفه و المذيعة حين حثاه على الحديث، بلثغته المراكشية " عرفتيني أنا ما كنهضر بزاف، وجدت واحد الشغيل ، غذي نقدمو ليكم و السلام"، فقدم مقطوعته وصمت. وفي نظري إن هذا الشمم الروحي و العفة الفطرية هي ما يجعل الأستاذ سعيد غائبا عن اللقاءات الاحتفائية في الإعلام، على عكس كثيرين أقل شأنا، فلا نعرف للأستاذ سعيد حوارا تلفزيا أو صحافيا مطولا عن شخصه، و كأن كل حديثه هو حديث عوده، و لمن شك أن ينقر اسمه على رابط اليوتوب مثلا، فلن يجد أبدا حديثا منه، بل لن يجد إلا قطعا و عودا يشدو، و ذلك عنده أبلغ الكلام.
طيب ما الذي يمكن أن يقوله المرء عن سعيد في عمله أو عن عمله، بما أنهما شيء واحد ؟
في اعتقادي ثلاثة أمور، أولها أن الأستاذ سعيد عازف و مؤلف ملحمي، بالمعنى التقني للكلمة، فهو رجل طويل النفس في التأليف، متنوع المشارب، و قد بدا هذا منذ ضميمته الموسيقية الأولى، حيث تمازج العبق التركي مع الزخارف الأندلسية مع بعض الالتماعات الإفريقية، و حيث المقامات الشرقية القاصية تمزج بالمقامات المغربية الدانية، نكريز وسيكا و بياتي يتداخل مع رمل الماية و رصد الذيل و العشاق، في جمع رفيع بين أرباع المقام و أنصافها، ولعل هذه القدرة الفائقة على التنويع و الجمع هي التي جعلت وقع عمله الأول يكون على المتلقين ، وقع مجرى هواء الذي يمر فينعش. على أن هذا النفس الملحمي تبينه عناوينه أيضا، "مفتاح غرناطة" و "حلم بفاس" و "أبواب فاس" "آشور"، "سماعي الطائر" ... هنا ينفتح العود على الجغرافيا، الممكن منها و المتخيل.
ثاني الامور في نظري هو أن الاستاذ سعيد رجل عصامي، ليس لأنه كوّن نفسه بنفسه منذ أن كان سنه 13، بل لأنه أيضا، و بعبارة لا أعرف كيف أترجمها "بريكولور"، رجل تجريبي، في تقنيات العزف كما في موضوعات العزف كما في آلات العزف، و مظاهر التجريبية هذه تتجلى في كون الأستاذ سعيد رجلا يؤلف بغريزته، و يعزف بغريزته، ولا يكتب أو يسجل إلا عرضا ، وكأن الموسيقى عنده أولى من قواعدها، وهذا ما يفسر قلة نصوصه المكتوبة، فهو رجل يعمل، و أما القواعد و التسجيلات فأمر يتركه لغيره من محبيه و هم كثر جدا، و منهم أساتذة كبار، وقد شهدت ذلك بعيني في معاهد الموسيقى بالرباط و البيضاء و أكادير، حيث كنت أحضر نقاشات مطولة في قاعات آلة العود حول كيفية تسجيل جملة من جمله، و هو نقاش كان يمتد بهم ساعات،
أنام ملئ جفوني عن شواردها و يسهر الخلق جراها و يختصم
وكون الأستاذ سعيد فنانا تجريبيا يتبدى في شيء آخر مهم لا يعرفه كثير من الناس، وهو كونه باحثا في مجال صناعة الأعواد، فبيت الرجل يحتوي كما قال لي أحدهم - و لست أدري هل هذا أمر صحيح أم هو من مبالغات المعجبين الذين يعشقون المبالغة- أكثر من 30 عودا من كل الأنواع و الأصقاع، زد على ذلك أنه رجل لا ينفك في كل مرة يطلب من صناع الأعواد المغاربة أن يغيروا شيئا أو يستبدلوا عنصرا أو مادة حتى يرى مفعول ذلك على الصوت، و هو بذلك قد ساهم بقوة في تطوير صناعة العود بالمغرب، و تطوير أداء مجموعة من الشباب، من أبناء المعلم حسن إلى عبد الله مريد، المرجاني و غيرهم كثير.
ثالث الأمور و أهمها في نظري هو كون الأستاذ سعيد فنانا "مغربيا" حقيقيا، ليس لأنه صاحب معزوفة اشتهرت تحت مسمى "سماعي المغرب"، و ليس كذلك لأنه يأبى إلا أن يرتدي في كل محفل دولي لباسا مغربيا أندلسيا جميلا، بل لأنه وعلى الخصوص، الفنان الذي اختص بالدفاع عن الطبوع والمقامات المغربية الأندلسية، فلا تكاد تخلو قطعة أو عمل عنده من توقيع مغربي، فقد يبتدئ بالنكريز كما في قطعة سليمان، أو بالرصد أو بالنهاوند كما في تقاسيمه التي تحمل هذه الأسماء، لكن لا بد و أن يعرّج في الطريق، و لو في جملة، على مقام مغربي، رصد الذيل، رمل الماية، المزموم ، غريبة الحسين، الحجاز لكبير، أو غيرها، بذلك اشتهر، و بهذه الصفة استدعي للمحافل ممثلا عن المغرب، مدافعا عنه، معرفا بمقاماته، حتى صار يستدعى كخبير في هذا الأمر، و حتى صار للطبع المغربي اسم إلى جانب المقام العراقي و التركي مثلا.
بقي أمر آخر لا بد من ذكره، و هو التمكن التقني الباهر للأستاذ سعيد من آلته، يعرف المختصون أن تمكن الأستاذ سعيد من آلته هو تمكن حقيقي، و كبير جدا، فقلة من العازفين من يرتقي لهذا المستوى، غير أن للأستاذ سعيد ميزة، وهي أن تمكنه لم يدفعه يوما للسقوط ضحية نزوع أو ميل استعراضي أو تبرج تقني بغرض الإبهار ، هذا حتى و إن كان العالم العربي قد عاش مؤخرا موضة وقع ضحيتها للأسف عازفون كبار، ممن بدأ يتحدث عن العزف بيد واحدة أو أصبعين، و غيرها من البهلوانيات التي لا علاقة لها بالموسيقى، وليس ذلك عجزا من الأستاذ سعيد ، و لكن توقيرا لعمله و جمهوره، فالموسيقى عنده عمل جدي، و ليست مجال لعب، فقد يكون الفن، كما قال أحدهم، أهم أو أسمى من الحقيقة ذاتها.
سي سعيد، كيف أختم معك و أنت اليوم قد بدأت للتو؟ فقد صرت شابا شديد العود، إذ يؤثر عن المعلم الأول أرسطو أنه قال، حين يلج المفكر أو صانع الجمال سن الكهولة يبدأ شبابه، وأنت صانع جمال، و الجمال وعد بالسعادة ، فموعدنا معك سي سعيد، دائما السعادة.



• قدمت هذه الورقة كشهادة في الحفل الذي نظمته حلقة "أصدقاء ديونيزوس" يومه الخميس 29 يونيو، احتفاء بالعازف و المؤلف سعيد الشرايبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي