الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. القطاع الفلاحي نموذجا (الحلقة الرابعة)

عبدالله بنسعد

2011 / 8 / 16
الادارة و الاقتصاد


تصدير : »أن تصدير الرساميل المتعاظم إلى البلدان المستعمرة والتابعة وتوسيع "مناطق النفوذ" والممتلكات المستعمرة حتى شملت مجموع الكرة الأرضية وتحوّل الرأسمالية إلى نظام عالمي قوامه الاستعباد المالي والاضطهاد الاستعماري لأكثرية السكان العظمى في الكرة الأرضية من قبل قبضة من البلدان "المتقدمة" – كل ذلك أدّى ، من جهة ، إلى جعل مختلف الاقتصاديات الوطنية ومختلف الأراضي الوطنية حلقات من سلسلة واحدة اسمها الاقتصاد العالمي وأدى من جهة أخرى إلى تقسيم سكان الكرة الأرضية إلى معسكرين : إلى قبضة البلدان الرأسمالية "المتقدمة" التي تستثمر وتضطهد المستعمرات الشاسعة والبلدان التابعة وإلى أكثرية عظمى من البلدان المستعمرة والتابعة المضطرة إلى القيام بنضال في سبيل التحرر من النير الاستعماري«. -ستالين -
شركات الإحياء والتنمية الفلاحية : التجربة الفاشلة لإعادة هيكلة الأراضي الدولية
لقد رأينا في الحلقة السابقة تداعيات الإختيارات الإقتصادية اللاوطنية واللاشعبية المملات من طرف دوائر النهب الإمبريالي ومنها خاصة برنامج الإصلاح الهيكلي. وبقطع النظر عن الأهداف السياسية لهذا البرنامج التي لا تخفى على أحد فإنّ الهدف الإقتصادي الرئيسي يتمثّل في ضمان خلاص الديون المتخلّدة بذمة الدول الفقيرة (أنظر مقالنا بجريدة الشعب بتاريخ 24 جوان 2005 بعنوان "كيف يدفع الفقراء 250 الف دولار في الدقيقة").
إذ عرفت سنة 1982 بسنة أزمة الدين (بفتح الدال) حيث أصبحت الأغلبية الساحقة من تلك الدول غير قادرة على خلاص ديونها وبدأ الحديث عن المطالبة بإعادة جدولة الديون أو إلغائها تماما مثلما تطرحه بعض الأحزاب الماركسية أو المنظمات التقدّمية في العالم مثل "لجنة إلغاء ديون العالم الثالث" (Comité d’Annulation de la Dette du Tiers Monde). فكان برنامج الإصلاح الهيكلي الحل الذي إبتدعته الإمبريالية لقطع الطريق أمام إلغاء الديون حيث ترتكز سياسة الإصلاح الهيكلي على خوصصة المؤسسات العمومية وبيع الأراضي الدولية لتتمكّن الدول من سداد ديونها من مداخيل تلك المؤسسات والأراضي. وسنرى في هذه الحلقة ما فعله النظام العميل بأخصب الأراضي الدولية في القطر عبر التفويت فيها لما سمّي بشركات الإحياء والتنمية الفلاحية (Société de mise en valeur et de développement agricole : SMVDA).
البداية كانت بالتشريع لهذا الإجراء وذلك بإصدار الأمر عدد 88ـ1172 المؤرّخ في 18 جوان 1988 والمتعلّق بشروط إستغلال الأراضي الدوليّة من طرف شركات الإحياء والتنمية التي بلغ عددها حاليّا حوالي 200 شركة تستغلّ حوالي 000 240 هك من جملة حوالي 500 ألف هكتار هي مجمل الأراضي الدولية لكنها الأخصب على الإطلاق بإعتبار وأنّها الأراضي التي إستحوذ عليها المستعمرون ثمّ وقعت "تونستها" بداية من 12 ماي 1964 (نقول تونستها وليس تأميمها لأنّ نظام بورقيبة العميل لم يقم بإفتكاك الأراضي من المستعمرين الذين إستحوذوا عليها بالقوة وإفتكوها من أصحابها الأصليين وإنما قام بشرائها منهم ودفع لهم اموالا طائلة وكأنّهم أصحاب حق بعد أن تحصّل على قروض لهذا الغرض من البنوك الإستعمارية).
نلاحظ إذا بأنّ التحالف الطبقي الرجعي الحاكم إختار (إنسجاما مع سياسته الطبقية المعادية لجماهير الفلاحين المفقّرين) أن يمكّن قلة من الكمبرادور والإقطاع (200 فقط) من حوالي نصف الأراضي الدولية يتصرّف كلّ واحد في مساحة تساوي 1200 هكتار بالتمام والكمال بينما كان من الممكن ان يقع توزيع تلك الأراضي الدولية (التي وضع عليها الإستعمار يده كما سبق وأن أشرنا) على آلاف الفلاحين المفقّرين حتى يقوموا بخدمتها على أحسن وجه. فعلى سبيل المثال وإذا إفترضنا بأن يقع إعداد مقاسم تبلغ مساحة المقسم الواحد 100 هك (رغم أنّ معدّل مساحة المستغلات في القطر لا يتجاوز 10 هك كما ذكرنا في الحلقة السابقة) فإنّ عدد الفلاحين المفترض أن ينتفعوا بأراضي آبائهم وأجدادهم يصبح 2400 بالتمام والكمال وشتان بين هذا الرقم وبين المائتي فلاح (8.33 %) الذين إستحوذوا على هذه الأراضي عبر ما سمّي بشركات الإحياء والتنمية الفلاحية وأغلبيتهم الساحقة ليس لهم أي علاقة بالفلاحة فهم إمّا من أفراد العصابة التي كانت جاثمة على رقاب التونسيين او من أفراد التحالف الطبقي الرجعي الحاكم وخاصة من الكمبرادور.
لكن قبل أن نستعرض السياسة المدمّرة التي تعرّضت لها الأراضي الدولية نريد التذكير باهداف برنامج الإصلاح الهيكلي الذي تندرج ضمنه هذه السياسة لنتبيّن مدى تحقيق الأهداف التي وقع تسطيرها :
* الهدف الأول : تدعيم الإستثمار الخاص والرفع من أداء القطاع الخاص من خلال تحسين القدرة التنافسيّة للمؤسّسات وتعبئة رؤوس الأموال
* الهدف الثاني : توفير موارد ماليّة إضافية للدولة
* الهدف الثالث : خلق مواطن شغل إضافية
* الهدف الرابع : تحسين القدرة التصديرية للمؤسسات
ولنطّلع على حقيقة ما جرى بتلك الأراضي فإننا سنعتمد على عيّنة من 96 شركة (أي ما يمثّل حوالي نصف الشركات الموجودة في القطر : 48 %) قمنا بدراستها سنة 2008 موزعة كما يلي:
زغوان 17
نابل 16
أريانة 14
سليانة 13
باجة 12
بن عروس 10
بنزرت 8
الكاف 5
القيروان 1
الجملة 96
تمسح الشركات التي شملتها الدراسة 931 91هك أي أنّ معدّل مساحة كل شركة يساوي 957.6 هك منها 483 23 هك مساحة مروية فقط أي حوالي 25 % من المساحة الجملية أما حجم الإستثمارات فقد بلغ حوالي 141 مليون دينار من جملة 144 مليون دينار مبرمجة وهو ما يعني عدم تحقيق جزء من الهدف الأول والمتمثل خاصة في تدعيم الإستثمار الخاص وتعبئة رؤوس الأموال. أما إذا قمنا بتوزيع هذه الشركات حسب الصفة القانونية فإننا نجد 57 شركة عائلية (60 %) و36 شركة غير عائليّة (40 %) وهذا دليل واضح على ما سبق وأن قلناه من أنّ أفراد المافيا التي كانت تحكم تونس هم من إستولى بطرق غير شرعية ولا قانونية على الأراضي الدولية أي أراضي الشعب التي أستشهد من أجلها آلاف التونسيين.
والكل يعلم بأنّ الشركات العائلية لها سلبيات عديدة من أهمّها عدم إمكانية توفير موارد ماليّة كافية لإستغلال مساحة تقارب الألف هكتار إضافة إلى عدم تواجد الباعث بانتظام لتسيير المستغلّة أمّا أكبر تلك السلبيات فهو إحتكار القرار من طرف الباعث (رئيس العائلة) وما يعنيه ذلك من سوء تصرّف وزيغ عن الأهداف التي وقع بعث الشركة من أجلها وهو ما حصل فعلا وما سنتبيّنه في الأسطر التالية.
أ. في مجال التشغيل :
لم تقم شركات الإحياء والتنمية الفلاحية في هذا المجال بتحقيق الهدف المرسوم (الهدف الثالث المتمثّل في خلق مواطن شغل إضافيّة) مثلما يبيّنه الجدول التالي :
جدول عدد 1 : الفارق بين اليد العاملة المبرمجة والمنجزة في شركات الإحياء
العدد النسبة
اليد العاملة الفنية القارة المبرمجة 429
اليد العاملة الفنية القارة المنجزة 343 80 %
اليد العاملة الفلاحية القارة المبرمجة 2049
اليد العاملة الفلاحية القارة المنجزة 1209 59 %
اليد العاملة الموسمية المبرمجة 445201
اليد العاملة الموسمية المنجزة 997600 224 %

يبيّن هذا الجدول أنّ شركات الإحياء والتنمية الفلاحية ومن منطلق نظرة رأسمالية إستغلالية صرفة إعتمدت على اليد العاملة الموسمية أي غير القارة إذ لم تبلغ نسبة اليد العاملة الفنية القارة المنجزة سوى 80 % أمّا اليد العاملة الفلاحية القارة المنجزة فلم تتعدّى 59 % بالمقابل إعتمد أصحاب هذه الشركات على اليد العاملة الموسمية (بلغت النسبة المنجزة 224 %) والتي لا يتطلّب تشغيلها ثقل مالي كبير لا من ناحية الأجر الذي يكون دائما بعيدا عن الأجر الحقيقي ولا من ناحية التغطية الإجتماعية التي لا يلتزم بتوفيرها أصحاب الشركات. أمّا إذا تعمقنا في عملية التشغيل داخل هذه الشركات فإننا نجد بأنّ 60 % من الشركات أنجزت نسبة ضعيفة من التشغيل المبرمج من بينها 17 شركة لم تنتدب أي فني و 26 شركة إنتدبت فنّي واحد فقط. أما رتب الفنّيين المنتدبين فهي رتب دنيا ومتوسّطة (مساعدون فنّيون ومهندسون مساعدون) بينما المهندسون نسبتهم ضعيفة جدّا (المعدّل أقلّ من مهندس في كلّ شركة) كما أنّ الشركات العائليّة تشغّل أقلّ فنّيين من الشركات الغير عائليّة.
ب. في مجال مردودية الإنتاج :
أثبتت الدراسة أيضا بأنّ هناك 19 شركة فقط (أي 20 %) لها مردودية ممتازة بينما 44 شركة مردوديتها متوسطة وهو ما يمثل 46 % والبقية أي 33 شركة ذات مردودية ضعيفة (34 %). فإذا كان هذا حال هذه الشركات التي يملكها أفراد من الكمبرادور والإقطاع يملكون إمكانيات مالية هائلة فما هو حال الضيعات التي يملكها الفلاحون المفقّرون ؟. إنّ هذه الأرقام تدلّل بكل وضوح على ما سبق وقلناه في خصوص القطاع الفلاحي في القطر المتميز بالاستغلال التقليدي والحرفي للأرض في جزء كبير منه كما أن الإنتاج والاستغلال لا يخضع في معظمه للمعطيات العلمية وهو ما يجعل الإنتاج حتى في الملكيات الكبرى خاضعا في مجمله لعوامل الطبيعة.
ومرة أخرى يتبيّن بأنّ جزءا من الهدف الأول المتمثّل في الرفع من أداء القطاع الخاص لم يتحقّق هو أيضا.
ج. في مجال نوعية النشاط والقدرة على التصدير
الكل يعلم بأنّ هذه الشركات التي كانت في الأصل وحدات إنتاج على ملك الدولة والتي قامت طيلة عقود من الزمن بإنتاج المواد الأساسية التي يستحقها شعبنا مثل الحبوب واللحوم والحليب وقامت خاصة بدورها التعديلي على مستوى الأسعار ، تخلت تماما عن هذه الأدوار بحكم أنها أصبحت في يد القطاع الخاص الذي لا يهمّه إلاّ تحقيق الربح والربح الأقصى غير مبال بإحتياجات شعبنا ولا بالمقدرة الشرائية للطبقات المفقّرة.
فقد أثبتت الدراسة أنّ هناك 72 شركة (75 %) لا تنتج أي من المواد الأساسية التي ذكرناها (الحبوب واللحوم والحليب) حيث يرتكز إنتاجها خاصة على السكّوم والزهور والخمور والقوارص والغلال. وهذا طبعا يدلّ دلالة واضحة على ما سبق وأن قلناه بأنّ الفلاحة التونسية ترتكز على تصدير الخضر والغلال (Hors d’œuvre et dessert) وتوريد الطبق الرئيسي (Plat de résistance) وهو تأكيد أيضا على طبيعة الإختيارات الإقتصادية اللاوطنية واللاشعبية.
أمّا الهدف الرابع المتمثّل في الرفع من القدرة التصديرية للشركات فهو بعيد المنال بإعتبار وأنّ 77 شركة من جملة الشركات الـ 96 (أي أكثر من 80 %) ليس لها أي نشاط تصديري.
هكذا إذا لم تحقّق شركات الإحياء والتنمية الفلاحية إحدى الأهداف الإستراتيجيّة التي بعثت من أجلها ألا وهو تنمية التصدير حيث لم يبلغ عدد الشركات المصدّرة سوى 19 فقط أي 19,8 % من مجموع الشركات كما أنّه من بين الـ 19 شركة المصدّرة هناك 15 % فقط من الشركات العائلية.
د. في مجال المديونية وعدم خلاص معلوم الكراء
"المستعمرون الجدد" كما يحلو لسكان المناطق المجاورة لهم تسميتهم يتعاملون مع الأراضي التي مكنتهم منها دولة الإستعمار الجديد بعقلية "رزق البيليك" (عندما نتحدّث عن ملك الدولة نقول "رزق البيليك" و"البيليك" هي كلمة من أصل فرنسي تعني على ملك الباي : Beylical) وهي كلمة لازالت متداولة جدا حتى في أيامنا هذه. و"رزق البيليك" تعني أنه مسموح لك بأن تفعل ما تشاء بملك الدولة فلا يهمّ إن إستوليت عليه أو أفسدته أو أتلفته. هذا التقديم فرضه الإتجاه الذي اخذته شركات التنمية والإحياء الفلاحي التي أصبح أصحابها يتصرفون فيها كما قلنا سابقا وكأنّها "ملك البيليك" حيث لم تقم اغلبيتهم الساحقة بخلاص ديونها المتخلّدة بذمّة الدولة خاصة. فنجد أنّ حوالي ثلث الشركات فقط لها مديونية مقبولة (31 %) بينما ثلثي الشركات مديونيتها كبيرة (34 %) أو كبيرة جدا (35 %).
أما النسبة الكبيرة من الديون فتتمثّل في عدم خلاص معلوم الكراء للدّولة مثلما يثبته الجدول التالي:
معلوم الكراء الجملي 209 140 20 د 100 %
المعلوم الذي وقع خلاصه 329 817 6 د 34 %
المعلوم الذي وقع إسقاطه (إعفاء) 228 144 2 د 10 %
الدّين الذي لم يعق خلاصه 652 178 11 د 56 %
هذا مثال آخر أو لنقل تأكيد آخر على عدم تحقيق الهدف الثاني المتمثل في توفير موارد ماليّة إضافية للدولة بل الذي حصل هو العكس تماما حيث أنّه وقع إستنزاف لموارد الدولة.
هكذا إذا يتّضح بأنّ النظام العميل وبإشراف مباشر من الجنرال المجرم بن علي قام بتهميش حوالي نصف الأراضي الدولية (240 ألف هكتار) التي أصبحت تقريبا خارج الدورة الإنتاجية إذ مكّن منها أفرادا من عصابة المافيا ومن الكمبرادور والإقطاع لتتصرّف فيها كما يحلو لها ولم تؤدّ هذه السياسة إلاّ إلى سلبيات على المستوى الإجتماعي (ضعف التشغيلية ، هضم حقوق العمال في خصوص الأجر ووالتوقيت وظروف العمل والتغطية الإجتماعية ...) وسلبيات على المستوى الإقتصادي (تغيير صبغة الضيعة من إنتاج مواد أساسية إلى إنتاج مواد ثانوية ، التخلي عن الدور التعديلي ، حرمان ميزانية الدولة من مداخيل هامة تمثل معاليم الكراء ...) وسلبيات على المستوى البيئي (إستغلال مفرط للأرض لإنتاج مواد فلاحية ثانوية ، تلويث الأرض بإستعمال المبيدات والأدوية ، تدمير الموروث الجيني المحلي بالتركيز على السلالات الحيوانية والأصناف النباتية المستوردة ...). هذه النتيجة هي طبيعية جدّا بحكم أنّه لا يمكن لشخص تحصّل على هديّة (حتى ولو كانت أرضا) أن يوليها العناية اللازمة مثلما يوليها لملك تعب من أجل الحصول عليه.
في الختام أقول بأنّ إحدى أهمّ إنجازات الإنتفاضة العظيمة التي عاشتها تونس في المجال الفلاحي هي ثورة الفلاحين المفقّرين على هؤلاء "المستعمرين الجدد" بإفتكاك الأراضي التي إستحوذوا عليها في العديد من الجهات تماما مثل إفتكاك عديد الأراضي التي كانت على ملك الدولة وخاصة في الجريد (غابات نخيل دقلة النور) لتفليحها أي أنّ الفلاحين المفقّرين مارسوا ولو بشكل محدود في الزمان والمكان الإصلاح الزراعي الذي كان من المفروض أن تقوم به الدولة.
(يتبــــــــع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخبار الساعة | رئيس الصين يزور فرنسا وسط توترات اقتصادية وتج


.. الاقتصاد أولاً ثم السياسة .. مفتاح زيارة الرئيس الصيني الى ب




.. أسعار الذهب اليوم الأحد 05 مايو 2024


.. رئيس مجلس النواب الأميركي: سنطرح إلغاء الإعفاءات الضريبية عن




.. ملايين السياح في الشوارع ومحطات القطار .. هكذا بدا -الأسبوع