الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنية

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2011 / 8 / 16
الادب والفن


هنيــــــــــــــة ...

لم تدم جلستها الأخيرة أمام المرآة سوى دقيقتين حسب ، أمعنت خلالها النظر في وجهها الذابل مثل فاكهة استباحها العفن وقالت بصوت مرتفع "يا للهوان، حتى المرآة باتت تكذب علي !؟" حاولت النهوض فلم تفلح وراحت تزحف متعلقة بمساند الكرسي حتى وصلت الى سريرها الواطيء ، دفعت نفسها لترتقيه وتشبثت أظافرها بالغطاء الناعم الأحمر الذي بث أجواء إغراء جوفاء ، وأحست بقلبها يخفق بإيقاع غريب يشبه قرع طبول الجنائز ، بطيء ومشتت تطول فترات صمته ، مدت رجليها بصعوبة وأغمضت عينيها المثقلتين بنذر الموت .
منذ عقود مرت كالسحاب ، وعندما كان العمر بأوله حيث الشمس تنثر الذهب شعاعا ممتعا و العنفوان يغمر الروح فيهزها كموجة بحر منطلقة والأماني مثل جواد جامح يقفز نحو المدى والنفس ريانة تنعم بالامتلاء ، في تلك الأيام التقت هنية قدرها وكان عرافة شابة لا تخلو من ملاحة وجمال التمع في فمها سن صنع من الذهب فكسى وجهها ضوءا أصفر جذاب ، وفي جلستها القلقة لفت نفسها بعباءة تزخر بالألوان والثقوب الصغيرة ، ووضعت على رأسها عمامة مزركشة تتدلى منها خرزات زرقاء بينما قبضت بيمناها على خمسة حصوات صغيرة لامعة ، حدث ذلك في باص مصلحة نقل الركاب ذو الطابقين عندما كان جمع مضطرب من الناس ينتقل صوب غاياته في ذلك المركب الضخم الجميل ، وبلا أية مقدمات ألقت العرافة الحصوات في حجر هنية الجالسة معها على نفس المقعد الخشبي ثم سحبت يدها وراحت تخبرها بظرافة وسلاسة عن كل زوايا حياتها ، رغباتها القديمة ، مشاعر الكره الدفينة لصديقتها اللدود ، بواعث حزنها وفرحها ، ذهلت من دقة معرفتها وأحست بحرارة كلسع النار في كفها فتخلصت من قبضة العرافة بقوة وآمنت تماما بنبوءتها الأخيرة عندما بشرتها بنصف دزينة من الأولاد ستسعد بهم وكأنها في النعيم ، وتعجبت أنها كانت أمنيتها التي طالما فكرت بها ، ولم تكلفها تلك التجربة الغريبة سوى درهم واحد فقط .
كانت العرافة قادرة على معرفة كل ما يفكر به جليسها وإن أمسكت بيد شخص فإنه سيغدو كتابا مفتوحا تقرأه بكل يسر وهذا ما أرعب هنية وجعلها تترجل من الباص بعيدا عن منزلها إذ أحست بخوف يسري بجسدها كصعقة كهربية مستمرة ، بينما استمرت العرافة تتطفل على من حولها وتتنقل بين المقاعد برشاقة وخفة لتفضح أسرارهم ولم تمض إلا ربع ساعة حتى انفض جمع الناس المدهوشين إشفاقا على أنفسهم من أن تعلن أسرارهم واول من ترك الباص رجل ستيني وقور بملابس محترمة ومسبحة سوداء طويلة لم يشك أحد أنه كان نشالا محترفا منذ طفولته بينما ظلت العرافة تهذي بكل ما يخطر على بالها ولم ينج من وهجها حتى قاطع التذاكر المسكبن الذي أبلغته بحزنه وغضبه لكساد يومه وعدم وجود فائض في مداخيله هذا اليوم .
غدت تلك النبوءة محور حياة هنية لكل الزمن اللاحق ، وكانت تتصرف باطمئنان كامل وتشعر بانسياب سلس ممتع لحياتها كأنها نهر متدفق بحبور ودون عوائق ، لكن الأمور لم تسر طبقا لمشاعرها لينة بسيطة ، إنما راحت الحياة تعاظلها وتنثر في أيامها بقع الخيبة ، فرغم أنها خاضت تجربة الحب العاصف ، ولسنتين بقيت تأمل الزواج من فارس حلمها ، لكنه في يوم صيفي لاهب هرب منها واختفى مثل اللقلق الذي هجر عشه فوق خزان الماء الاسمنتي الضخم المقابل لبيتها ولم تره مرة أخرى ابدا فذبلت أوراق حبها كما فعلت اوراق شجرة العنب المشبوحة عند باب بيتها والمتكئة على بضعة أعواد ثبتت حول باب البيت ، ولم تتمكن من توجيه عواطفها بعد حادث الغدر ذاك كأنها سفينة تحطمت دفتها فتاهت عن كل المرافيء وخيم على حسها هاجس الحذر والخوف من الغرباء مما نفر الكثيرين منها رغم جمال فريد تمتعت به ، وتراكمت الأيام وغدت سنين طوال هرمت وبلت وأبلت معها جزءا خطيرا من نظارتها وحظيت في نهايتها وبعد أن تخطى مركب العمر الموجة الثلاثين بزوج يكبرها عشرين عاما نسي أن يتزوج في غمرة ركضه الماراثوني وراء المال والملذات ، ابتدأت علاقتهما بسيطة يشوبها الخجل ومجاهدة العادات السيئة وراحت تتصاعد وتتوثق حتى وصلت لمستوى" جابر" وهو مستوىً افتراضي وصفه ابوها ( وذاك اسمه ) لمصير كل الزيجات سواءكانت بحب جارف كقيس وليلى وروميو وجولييت أو بكره لا تصلح له الأمثال أو دون سابق معرفة كما هو حالها ، فالجميع سيستقر بعد مرور عام واحد عند نفس المستوى وذات المضمون وهو ما يعرف بالعلاقة الزوجية .
كانت النبؤة تحركها بتصديق تام ، فالصدق حتما بما قالت العرافة ، وعندها المسألة هي الوقت حسب ، لكن مرور عامين على الزواج دون علامة مفرحة واحدة للحمل كان كافيا لأن يلقيها في معمعة مراجعة عيادات الأطباء رغم ما في ذلك من تشكيك بتلك النبؤة - الأمنية ، لكنها لم تنف ذلك التشكيك فقط إنما فسرته بتوظيف الطب لصالح النبؤة وأن الأمر يأتي في سياقها و راحت عبر سنوات تلاحق أخبار تلك العرافة وتستقصي أماكن ظهورها لعلها تحظى بلقياها مرة اخرى لتسألها إن كانت نست شرطا لم تفعله فأعاق الحلم من أن يتحقق ، وكان العالم قد تغير كثيرا وتبدلت ملامح المدينة وندرت باصات النقل العام الحمراء ولم يعد آمنا أن تسير المرأة وحدها بالشوارع والساحات ، حتى طيور السنونو اختفت من كل فصول السنة ، فقط الغربان تكاثرت وصار نعيقها يملأ الاصقاع ، فلم تفلح في مسعاها ولجأت الى عرافة أخرى وصفت لها من بعض مقربيها ، لم تكن بمقدرة الأولى وحذاقتها وقدرتها لكن كل الغرابة كمنت في أن تلك العرافة أكدت لها النبؤة القديمة وقالت لها لا مفر من الاولاد الستة حتى لو انتهى الزمان وانمحت الاكوان وتاهت النجوم عن مداراتها فأسعدتها ورشت على روحها التي ضربها التصحر قليلا من رهام الأمل . لكن الحياة أقسى من كل ظلم وأصلف من كل عاق فقد مات أبوها وتبعته بأشهر قلائل أمها وغدت وحيدة مع زوج شاخ وراح يتهرأ تحت ثقل السنين فدبت فيه روح الانعزال والتوحد ، لكنها قط لم تتنازل عن أملها بتحقيق النبؤة ، وعندما كانت تفكر بالزمن الذي راح يحاصرها بمفاجآته المؤلمة ، تستحضر كل احتمال ممكن ولو كان محض خيال لا نصيب له من الواقع قط وفكرت مرة أنها لو امسكت كيسا مفتوحا وجلست فوق سطح الدار فلا بد أن يدخل ذاك الكيس يوما ما عصفور تائه ، وعللت نفسها بأخبار الحمل المتعدد الذي تسمع عنه في كل حين ، فثمة امرأة حملت بثمان توائم ولدوا جميعا بأتم صحة ، وهناك من أخبرها بحمل أعجب من ذلك بكثير ،فكرت "إذن ممكن ان يحصل لي ذلك" واستدركت " بل لا بد أن يحصل " . غدت المرارة طابع حياتها اللاحقة ولم تعد ترى زوجها على فراشهما بعد أن عجز عن السير وأصابته علل الشيخوخة فراحت أحلامها تبتعد أكثر مثل الشموع التي وضعتها على كربة نخل دفعتها الى النهرعند خضرالياس وشعرت بأنها محبطة تماما لكن المصيبة الأكبر حلت صبيحة يوم شتوي قارس البرد عندما حاولت ايقاظ زوجها كعادتها في كل يوم لكنه ظل هادئا وديعا وعلى وجهه تجمدت ابتسامة استحياء ، وعندما هزته بقوة تأكدت أنه هو الآخر غادر حياتها وتركها نهبا للإنهيار ، لم تصرخ ولامته قليلا على استعجاله الرحيل وذهبت الى جار قريب من أصدقائهما القدامى لتخبره بنبأ وفاة زوجها فتكفل الرجل باتخاذ كل الاجراءات وطبقا للشعائر حجزت نفسها لأكثر من ثلاثة أشهر عجاف لا تتصل بأحد ، فقط ابن جارها الصغير يدخل عليها ويأتيها بما تحتاجه ، ولكنها لم تفقد ثقتها بحلمها وإيمانها أن نبوءة العرافة لا بد ان تتحقق ، لم تفكر كيف يمكن أن يحدث ذلك تحت شروط حياتها المجدبة ، وهي ليست بحاجة لأن تفكر إنما احتاجت على الدوام ذلك الانتشاء الذي يسري في جسدها وهي تستعرض وجه العرافة الممتليء شبابا وحبورا ، مرت أعوام أخرى وعللت نفسها بزواج محتمل رغم انها عبرت سن اليأس منذ عقدين من الزمن لكن العجائب تحصل ، أفلم تقع المعجزات بعد أن أطبق اليأس على من فقد الأمل ؟ فلعل ثمة معجزة بانتظارها ، وراحت ترقب جلد جسدها وهو يكاد ينفصل عنها بترهلاته المخيفة وفي كل يوم تكتشف أنها ابتعدت عن نفسها كثيرا ، وألقت بها عواصف السنين بعيدا جدا في عالم الشيخوخة حيث لا عودة مطلقا من تلك الديار الحزينة ، وفي ذلك الصباح عندما جلست أمام المرآة للمرة الاخيرة كانت تحس بالموت يدنو منها على مهل حتى إذا ما أغمضت عينيها وسمعت قلبها يضرب بضعف شديد ضرباته الأخيرة فكرت أن النبوءة لم يكتب لها أن تتحققق في الدنيا إذن لابد وإن يحصل ذلك في العالم الآخر وشعرت بنشوة رائعة بهذا الهاجس الجديد واستعدت لانتظارات أخرى قبل ان تستسلم لمذل الأماني وقاتل الأحلام .
عباس يونس العنزي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس