الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ذكرياتي مع الاتحاد السوفياتي

زكرياء الفاضل

2011 / 8 / 19
سيرة ذاتية


يصادف 19 من غشت-آب ذكرى أليمة وهي مرور عشرون سنة على انهيار أول وأعظم تجربة إنسانية في بناء دولة العدالة الاجاماعية وسلطة الشعب. وقد ارتأيت أن أحييها بذكريات لطيفة وطريفة خزنتها ذاكرتي للأجيال القادمة ربما قد تستفيد منها في بناء آخر لدولة الرخاء والعدل.
كان الساعة تشير إلى الثانية صباحا عندما استقلنا حافلة للذهاب إلى الفندق، بعدما طلعنا أخيرا من المطار. اسغرقت رحلتنا، يومها، من المطار إلى الفندق ساعات طوال تحت عامل نفسي تأثر بتعب السفر، والواقع أن المسافة تستغرق عادة من خمس وأربعين إلى ستين دقيقة لا أكثر، كما اتضح لنا فيما بعد. وصلنا أخيرا الفندق واستلمنا الغرف، فغبت في نومة عميقة مشوبة بالقلق من المستقبل المجهول، إذ كانت هذه هي أول مرة أغادر فيها أهلي لسنوات طوال.
بعد الفطور طلبت من المرتجمة، التي كانت تتكلم الفرنسية بطلاقة، أن تساعدني في الحصول على بطاقة بريدية كي أخبر أهلي أن الرحلة تمت بخير وأنني الآن بموسكو التي كنت أراها في الأخبار فقط. أخذتني المرتجمة إلى كشك في لوبي الفندق، وأخذت منه بطاقة بريدية بطابع دولي، ثم توجهت إلى المصعد قاصدا غرفتي لكتابة رسالة وجيزة على ان أكتب أخرى مفصلة عند وصولي إلى المدينة التي سأدرس بها. نادت علي المترجمة طالبة مني دفع ثمن البطاقة، فاستغربت الأمر:
- ألسنا في الاتحاد السوفياتي؟
- نعم!
- فعن أي نقود تتحدثين؟ نحن في دولة شيوعية وكل يأخذ ما يحتاجه دون زيادة، وأنا أخذت فقط ما أحتاج.
ابتسمت المرتجمة، ومعها صاحبة الكشك بعدما ترجم لها جوابي، وشرحت لي أن الاتحاد السوفياتي دولة اشتراكية كمرحلة انتقالية، لذلك الناس تتعامل بالنقود. ساعتها فهمت استغراب الجمارك مني حين أجبت أنه لا نقود لدي وكل ما أحمله معي من أمتعة عبارة عن ملابسي الشخصية وكتبي. دفعت عني المرتجمة ثمن البطاقة البريدية ورافقتني إلى غرفتي، حيث دار بيننا حوار طويل عن الاساطير التي تدور حول الاتحاد السوفياتي خارج حدوده. وهذه إحداها روتها لنا أستاذة الفلسفة بالأولى ثانوي.
كنا في درس الفلسفة حول الفكر الماركسي، فأخذت الأستاذة، في محاولة لإقناعنا بالتخلي عن الفكر الماركسي الصهيوني حسب تعبيرها وهي ليست وحدها في هذا الوصف، "تكشف" لنا عن خبايا المجتمع الشيوعي وانحلاله الأخلاقي. وروت فيما روت لنا أن خلية المجتمع أي الأسرة لا وجود لها بالاتحاد السوفياتي الشيوعي، حيث المرأة في متناول كل الرجال أي هي شيوعا بينهم. والأطفال تتكل بهم الدولة إلى سن الرشد. ما كان مني إلا أن أجبتها بأننا يمكن أن ننظر إلى شيوع المرأة بين الرجال من وجهة اخرى، بمعنى شيوع الرجل بين النساء. ضحكنا يومها كثيرا في الفصل، في حين احمر وجه الأستاذة ولم تعرف بما تجيب به علي.
كنا في السنة التحضيرية بمعهد اللغات الأجنبية، وكان الطابق الثالث، حيث نقيم، خليط الأقوام والجنسيات من عرب وأفارقة وقبرصيين ويونانيين وأمريكا اللاتينية. وصادف يوم، بعد الدوام، أن كنت أطبخ بجوار صديق يمني، من اليمن الديمقراطي ساعتها. وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث قاطع كلامه وصرخ لزميله، يمني أيضا:
- نجحت..نجحت.. (الجيم نطقها على الطريقة المصرية)
استغربت من أمره وسألته:
- من نجحت؟
- الطنجرة!
- كيف..؟ الطنجرة..؟!
- يخرب عاركم يا مغاربة، ما بتفهموش العربية. أقصد الطبيخ جاهز.
- لا تؤاخذني، فنحن نتكلم بالفرنسية يا أهل حضرموت..
استغرقنا في ضحك عميق شاركنا فيه زميله بعدما شرح له صديقي القصة.
في يوم ذكرى ثورة أكتوبر المجيدة، وهو كان عيدا وطنيا بالاتحاد السوفياتي، جرت العادة بقيام الكومسومول حفلات موسيقية يشارك فيها الطلبة الأجانب بأغاني ورقصات شعبية تعريفا بثقافاتهم المختلفة. وكان من بين المشاركين في الحفل، بالذكرى المجيدة، طلبة فلسطينيين من الحزب الشيوعي، واختاروا للمشاركة نشيد "بلادي". وبدأت المجموعة في الإنشاد ونحن نشجعهم بالتصفيق والترديد من ورائهم، لكن ما حصل لم يكن في الحسبان، حيث دبت هستيرية ضحك بين الرفاق السوفيات أثارت غضبنا وكادت تدفع بنا إلى الاحتجاج لو لا أحد الرفاق العرب القدامى الذي تناول المكروفون وشرح للرفاق السوفيات أن كلمة "بلادي" تعني بالعربية طأرضي ووطني"، ثم توجه إلينا وأفهمنا أن هذه الكلمة، أي بلادي، بالروسية تعني "الداعرات". نطق بالكلمة الأخيرة وهو يكابر ضحكته التي بدأت تسيطر عليه. لذلك عندما كانت المجموعة الفلسطينية تردد:"بلادي.. بلادي.." كان الرفاق السوفيات يسمعونها: "داعرات..داعرات..". ختمت المجموعة نشيدها وصفق لها الجمهور بحرارة وتناول ممثل الكومسومول الكلمة واعتذر للرفاق الفلسطينيين وتم الحفل كما برمج له.
كنا في الشهر الثاني أو الثالث من السنة التحضيرية وبدأنا نتحدث قليلا بالروسية، لكن ما خفي عنا بها كان أعظم وغزوناه بنجاح في آخر السنة الدراسية. بعد الدوام توجه رفيقان لي، أحدهما فلسطيني والثاني أردني، إلى محل بالقرب من سكننا الطلابي قصد شراءالسجائر. وجدا الباب مغلقا فطرقاه، فتحت مستخدمة بالمحل الباب وباشراها برغبتهما في شراء السجائر من "كوسموس". ردت المستخدمة عليهما بالروسية فلم يفهما منها إلا كلمة "بيريريف"، فسلما أمرهما لله وأجاباها بأنهما راضين ب"البيريريف". لم تفهم عليهم المستخدمة فقفلت الباب وراحت إلى من حيث أتت. ظلا صاحبانا واقفان فترة ثم رجعا إلى السكن بخفي حنين، ولولا الرفيق السوفياتي الذي كان يعيش معهما بالغرفة لبقيت كلمة "بيريريف" فضاء مجهول إلى حين يتقدمان في معرفتهما باللغة الروسية على نحو أفضل. فقد شرح لهما أن الكلمة تعني "الاستراحة" وليس نوعا من السجائر.
هناك نكتة كانت شائعة بين الطلبة السوفيات عن الأجانب تصنف كل جنسية حسب ما تميزت به. وإليكم النكتة:
عندما تقترب من السكن الطلابي حيث يقطن الأجانب، فإنك ترى أنوار ثلاثة نوافذ. تطل على النافذة الأولى فترى الأفارقة في عربدة ورقص وبنات، ثم تنتقل إلى النافذة الثانية فتكتشف الفيتناميين يدرسون، وعندما تنظر في النافذة الثالثة تجد العرب يتجادلون في السياسية.
والواقع غير بعيد عن هذه النكتة مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل قاعدة حالة استثنائية.
تحياتي لكل خريجي الاتحاد السوفياتي العظيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ