الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربيع العربي.. في نقد المقاربة القومية/البعثية

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2011 / 8 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


تعتبر مرحلة القرن التاسع عشر؛ البداية الحقيقية للانبعاث العربي في العصر الحديث؛ فقد عاش العالم العربي تحولات فكرية و سياسية عميقة؛ في علاقة بالحركية التي كان يعرفها العالم خلال هذه الحقبة التاريخية.
و إذا كانت النهضة العربية؛ قد جاءت كرد فعل على التحدي الحضاري الذي فرضه الغرب؛ من خلال الحركات الاستعمارية؛ التي عملت على خلخلة التوازن الذي كان قائما في المنطقة؛ فإن هذا لا يعني أن العرب كانوا خارج سياق التاريخ؛ فرغم التراجع الحضاري الكبير الذي بدأ مع مرحلة القرن الخامس عشر الميلادية؛ عبر سقوط الأندلس؛ رغم هذا التراجع بقيت الطاقة الحضارية كامنة؛ و بدأت في الإعلان عن نفسها؛ كجواب على التحدي الذي فرضه الاستعمار الغربي .
و لذلك فإن أول من استغرب هو الاستعمار نفسه؛ الذي استعمر شعوبا كاملة من المحيط إلى الخليج و بمجهود بسيط؛ لكنه سيفاجأ أن هذه الشعوب الضعيفة و المتداعية؛ تمتلك طاقات كامنة؛ كانت تنتظر فقط التهييج لتقوم بالاستجابة الفورية. و لعل هذا هو ما جسدته حركات التحرر الوطني؛ التي لقنت الاستعمار دروسا في البطولة و النضال؛ و نجحت بذلك في طرد آخر فلوله من البلاد العربية.
و قد كانت هذه المرحلة تؤذن بعهد جديد في تاريخ الأمة العربية؛ خصوصا بعد حصول جميع الدول العربية على استقلالها؛ و انتقالها من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر بتعبير الملك المناضل محمد الخامس؛ من الجهاد الأصغر المتمثل في مواجهة الاستعمار؛ إلى الجهاد الأكبر المتمثل في بناء الدولة الوطنية الحديثة؛ على أسس سياسية حديثة .
و إذا كانت حركات التحرر الوطني قد نجحت في جهادها الأصغر؛ فإن الجهاد الأكبر ظل رهينة بين يدي تيارات سياسية؛ لا تخرج عن سياقين:
• السياق الاستعماري؛ حيث تم احتكار السلطة؛ من طرف تيارات موالية للاستعمار؛ و ترتبط به بوشائج قوية سياسية و اقتصادية؛ و لم تكن مستعدة للتفريط في هذا الزواج الكاثوليكي؛ لأنه يحمي مصالحها.
• السياق الإيديولوجي؛ و قد ارتبط هذا السياق بالفورة الإيديولوجية التي عرفتها المنطقة العربية؛ في علاقة بالاتحاد السوفييتي؛ الذي قدم نفسه كمحارب للإمبريالية الغربية؛ و كداعم لحركات التحرر الوطني؛ و كمدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها.
و إذا كان السياق الأول؛ لا يخدم مصالح الشعوب العربية في التحرر من ربقة الاستعمار؛ فإن الشعوب العربية انضمت إلى السياق الثاني؛ و اعتبرته المخرج الوحيد من الهيمنة الاستعمارية. و ضمن هذا السياق؛ يمكن الوقوف على خليط من الإيديولوجيات؛ التي وحدتها تحديات المرحلة؛ و لذلك فقد تداخلت الإيديولوجية الاشتراكية؛ مع الإيديولوجية القومية؛ و تم تأطير الإيديولوجيتين معا تأطيرا عسكريا .
و قد شكل هذا التداخل منذ البداية أزمة عميقة في المسار النضالي العربي؛ و ذلك لأن البناء الإيديولوجي كان فجا و غير واضح بالتمام؛ و خصوصا لما دخل العسكر؛ ليحتكر الاشتراكية و القومية؛ لبناء شرعيته السياسية المزورة؛ باعتباره حامي العرين؛ و الذائد عن الحياض!
هكذا ستتم قرصنة المشروع النهضوي العربي؛ من طرف النخبة العسكرية؛ و بذلك سيتم الإجهاز على أهم المرتكزات الأساسية التي عملت النخبة الفكرية و السياسية العربية على تشييدها؛ و لذلك سيتم التراجع عن النضال الذي دشنه النهضويون؛ من أجل بناء الدولة الحديثة؛ و ترسيخ القيم الليبرالية الحديثة؛ من ديمقراطية و مساواة و حرية ... و نقيض ذلك تم استغلال المنظومة الاشتراكية؛ لترسيخ قيم معاكسة؛ تقوم على أساس دكتاتورية الحزب الوحيد و الزعيم الوحيد؛ مع ما سيرافق ذلك من ترسيخ لقيم الاستبداد و التسلط في الثقافة السياسية العربية الحديثة.
إن التجربة السياسية الاستبدادية في العالم العربي؛ لا تجد تفسيرها في التراث السياسي العربي وحده –كما يروج الكثيرون- لأن النخبة الفكرية و السياسية النهضوية؛ قامت بمجهودات جبارة؛ لتنقية هذا التراث من قيم الاستبداد و التسلط؛ و لكن تجد تفسيرها أكثر؛ في السياق الأيديولوجي؛ الذي استثمر القومية كما استثمر الاشتراكية؛ ليفرض على العالم العربي أنظمة عسكرية؛ تصل إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية؛ لترسخ فيما بعد الاستبداد و التسلط؛ لمواجهة أية معارضة محتملة؛ لنموذجها السياسي الاستبدادي الذي يتمحور حول الحزب الوحيد و الزعيم الوحيد .
فقد ظهرت في الثقافة العربية طوال مرحلة القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين حركية فكرية و سياسية و فنية نشيطة ؛ كانت تحمل بين طياتها معالم مستقبل جديد للأمة العربية؛ و قد ارتبطت هذه الحركية بفكر التنوير و الليبرالية و التمدن؛ الذي قدمته نخبة المرحلة باعتباره البديل؛ للخروج من التخلف و الجمود الذي عرفته الأمة العربية طيلة عصور الانحطاط .
لكن هذه المسيرة لم تستمر طويلا لأن الانقلابات العسكرية ؛ ستقلب الأوضاع رأسا على عقب؛ و ستأتي بنخب فكرية و سياسية لا علاقة لها بتلك الطموحات الليبرالية التي بدأت تتبلور؛ و هكذا سيتم الاستغناء عن هذه الطموحات وسيتم استبدالها بطموحات (قومية)؛ تتخذ بعدا يسارويا ؛ و تتحالف مع النخبة العسكرية كأداة للتجسيد على أرض الواقع .
حدث هذا في مصر و العراق و سوريا و الجزائر و ليبيا... كدول كانت قبل الانقلابات تبشر بمستقبل مغاير للثقافة العربية؛ و الدليل على ذلك؛ الحركية الفكرية و الفنية و السياسية التي عرفتها؛ و هي حركية كانت تتخذ بعد ليبراليا؛ و تسعى إلى نشر ثقافة التنوير و التمدن في الوطن العربي .
لكن مصير هذه المشاريع سيتوقف على وقع طلقات مدافع العسكر؛ و الذين يرتبطون بمرجعيات ثقافية؛ تحارب كل قيم الليبرالية و العلمانية و التمدن؛ باعتبارها قيما استعمارية؛ لا تتلاءم مع ماضي الأمة العربية؛ أو باعتبارها قيما بورجوازية متعفنة؛ يجب محاربتها؛ في إطار الصراع الطبقي بين ملاك وسائل الإنتاج و ملاك عضلات الإنتاج !
هكذا –إذن- سيتم الإجهاز على قيم الحداثة و التنوير؛ و في المقابل سيتم فتح الباب أمام التطرف العسكري؛ الذي سيتخذ طابعا قوميا متطرفا و يساريا مذهبيا؛ هذا التطرف الذي سيستعيد المكبوت الديني؛ مع توظيفه تحت شعارات مغايرة .
و هذا ما يمكن ملامسته من خلال الاستبداد السياسي الذي يقوم على الحزب الوحيد و الحاكم الوحيد؛ مع التنكيل بجميع أشكال المعارضة ( حدث هذا مع جمال عبد الناصر و حافظ الأسد و صدام حسين و القذافي...) ؛ كما يمكن ملامسته من خلال استعادة العلاقات القبلية و العشائرية و الدموية كمعايير في تسيير دواليب الدولة؛ و يمكن ملامسته كذلك من خلال تكريس اقتصاد الريع الغير منتج؛ و يمكن ملامسته من خلال فرض النموذج الثقافي و الفني المساير للنموذج السياسي ( هذا ما تؤكده اتحادات الكتاب و نقابات الفنانين ) .
و يمكن أن نستفيض أكثر باستدعاء مظاهر أخرى من التردي ؛ الذي أسس له المتياسرون و القوميون المتطرفون؛ الذين فرضوا نموذجهم السياسي و الثقافي و الفكري و الفني المتخلف؛ عبر التحالف مع العسكر؛ و من هنا كانت بداية التردي الشامل؛ الذي سيتطور فيما بعد ليتحول إلى تطرف ديني؛ سيأتي على الأخضر و اليابس .
إن وظيفة الربيع العربي اليوم؛ تتجلى في العمل على مواجهة كل أشكال التطرف القومي الذي اتخذ طابعا عسكريا؛ و فرض على العالم العربي عقودا من الاستبداد و التسلط؛ تحت أسماء مزورة؛ تقوم على أساس البعث الحضاري العربي؛ و من هنا تأسست أحزاب البعث و تياراته في جميع الأقطار العربية؛ لكن الطابع اليساروي/العسكري لهذه الأحزاب و التيارات؛ سيضعها في مواجهة مع الشعوب العربية؛ التي لم تقبل يوما استغلال تاريخها و رموزها؛ لبناء منظومة الاستبداد و التسلط .
من هنا فإن المطلوب اليوم من المثقف العربي؛ هو القيام بمهمة مزدوجة في إطار نقد مزدوج :
• المهمة الأولى؛ ترتبط برفض كل أشكال الاستبداد و التسلط و العسكرة؛ التي طبعت مسار مجموعة من أحزاب و تيارات البعث؛ و في هذا الصدد فالواجب يفرض على المثقف العربي؛ أن يصطف إلى جانب شعبه؛ و أن يعلن صراحة أن الرهان الديمقراطي اليوم؛ يفرض علينا مواجهة كل أشكال الاستبداد و التسلط كيفما كانت طبيعتها. إنه من غير المقبول بعد اليوم؛ أن يصطف المثقف العربي؛ إلى جانب العسكر في مواجهة شعبه؛ بادعاء المحافظة على الأنظمة البعثية؛ التي تجسد الرهان الوحدوي/القومي!
• المهمة الثانية؛ ترتبط بنشر الوعي بين الشعوب العربية؛ للتمييز بين مطالب الديمقراطية و الحرية و الكرامة؛ و التي تعتبر مطالب شعبية مشروعة؛ و بين كل أشكال التدخل الخارجي؛ الذي يهدف إلى استغلال هذا الحراك الشعبي لتحقيق أجندته الخاصة. و من هذا المنظور يجب أن نكون حذرين من جميع أشكال الدعم الخارجي؛ نرحب بما يساعد الشعوب العربية؛ على الانفلات من قبضة الاستبداد و التسلط؛ و نرفض كل ما يسعى إلى تشكيل حراكنا الشعبي لخدمة مصالحه الخاصة.
و من هنا يجب أن نرفض جميع أشكال الاصطفاف التي عبر عنها الكثير من المثقفين (القوميين) مع النظام البعثي السوري الذي يقتل شعبه و يمارس في حقهم جميع أشكال التدمير و الإبادة.
و جميع المبررات التي يمكن أن تساق؛ لا تشفع لهؤلاء بدعم الاستبداد و التسلط؛ سواء بادعاء دعم النموذج البعثي القومي؛ أو بادعاء دعم نموذج المقاومة و الممانعة . و ذلك لأن الأحداث الجارية تؤكد بالملموس؛ أن هذا النظام العسكري التسلطي؛ لا يمكنه أن يرقى أبدا إلى تجسيد القيم الحضارية العربية الراقية؛ كما لا يمكنه أن يرقى أبدا إلى تجسيد نموذج المقاومة و الممانعة؛ الذي يعني تحصين الجبهة الداخلية؛ عبر ترسيخ قيم الديمقراطية و دولة المؤسسات؛ للنجاح في مواجهة تحديات الخارج .
و نفس هذا الرفض نعبر عنه؛ بخصوص النموذج الليبي؛ الذي يسعى بعض المثقفين المأجورين إلى مساندته؛ في تقتيل شعبه و تدمير بلاده؛ بادعاءات واهية؛ لا تخرج عن أسطوانات الممانعة و الاشتراكية و القومية؛ و هي اسطوانات أصبحت مشروخة و لا يمكن أن تقنع حتى البلهاء من الناس .
إن المثقف قبل أن يكون قوميا أو يساريا... هو قبل كل شيء "مثقف" يجب أن يستثمر رأسماله الرمزي في خدمة شعبه؛ و في مواجهة جميع أشكال التسلط و الاستبداد؛ و ذلك لان رسالة الثقافة أعظم بكثير من أية رسالة إيديولوجية أو عرقية أو مذهبية .
لقد غاظني بعضهم و هو يميز في دعمه لنضالات الشعوب العربية؛ بين الداخل و الخارج ! و كأن ما يقترفه نظام البعث في سوريا في حق شعبه ألأعزل من جرائم؛ أقل مما اقترفته إسرائيل أو الاستعمار الفرنسي من قبل؛ و كأن جرائم القذافي في حق شعبه أقل من الجرائم التي اقترفها الاستعمار الإيطالي في ليبيا !
إن دعمنا لقضايا الشعوب العربية العادلة؛ يجب ألا نميز فيه بين الداخل و الخارج؛ لأن ما يهمنا هو الإنسان العربي؛ الذي من حقه أن ينعم بالديمقراطية و الحرية و الكرامة؛ كما من حقه أن ينعم بالاستقلال و السيادة؛ و لا تمييز في ذلك بين رهانات الخارج أو الداخل .
لقد آن الأوان أن يميز المثقف العربي؛ بين انتمائه الحضاري الذي يفرض عليه مسؤولية دعم جميع القضايا العربية العادلة؛ و بين الانتماء الحزبي/الإيديولوجي الضيق الذي يستغل قيمنا المشتركة؛ لبناء نماذج سياسية استبدادية و اجتماعية مغلقة؛ و اقتصادية ريعية فاشلة؛ و هذا التمييز هو الذي يمكنه وحده أن يجنبنا السقوط في دعم منظومة سياسية تسلطية/عسكرية؛ بادعاء طبيعتها القومية و مشروعها الحضاري البعثي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال جد جيد
فؤاد ( 2011 / 8 / 25 - 23:33 )
مقال جد جيد لقد اصبت اخي د.ادريس جنداري بتحليلك الدقيق لقد دخلنا في هذه الأيام مع الأمم والشعوب المرتبطة بنا في سلسلة من التحوّلات والتغيّرات

اخر الافلام

.. بعد الهدنة التكتيكية.. خلافات بين القيادة السياسية والعسكرية


.. دولة الإمارات تنفذ عملية إنزال جوي للمساعدات الإنسانية على غ




.. تشييع قائد عسكري إسرائيلي درزي قتل في عملية رفح


.. مقتل 11 عسكريا في معارك في شمال قطاع غزة 8 منهم في تفجير است




.. بايدن بمناسبة عيد الأضحى: المدنيون الأبرياء في غزة يعانون وي