الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا ينقلب فيها حجر دون أن يطلق معضلة تاريخية: القدس بعد عرفات، قبيل اندلاع لهيب جديد

صبحي حديدي

2004 / 11 / 28
القضية الفلسطينية


لم يكن ينقص الدولة العبرية إلا لعبة كراسٍ موسيقية، أخرى على غرار مؤتمر العراق في شرم الشيخ، تجعل وزراء خارجية الدول العظمى يتقاطرون على مكتب أرييل شارون، لمناشدته تقديم بادرة حسن نيّة تجاه الفلسطينيين، أو بالأحرى تجاه القيادة الفلسطينية ما بعد عرفات، محطّ آمال الغرب حتى إشعار آخر! بدأ الأمر من الأمريكي المستقيل كولن باول (الذي اختار أريحا لكي يتجنّب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حتى وهو في القبر). ثمّ تلاه الروسي سيرغي لافروف، الذي نقلت صحيفة "هآرتس" أنه طالب شارون بما يشبه المعجزة الثلاثية: تفكيك المستوطنات الأمامية، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، والعهدة إلى الرباعية باستئناف مفاوضات السلام! ثمّ جاء البريطاني جاك سترو، وحتى ساعة كتابة هذه السطور لم يكن واضحاً مَن هو الرابع، إذْ أنّ اللائحة تبدو مفتوحة...
ولعلّ شارون كان قد التقى جميع هؤلاء، ولسان حاله لا يردّد إلا عبارات من النوع التالي: ألا يكفي أنني منحتهم، فلسطينيي القدس الشرقية، حقّ الانتخاب؟ أليس في هذا الكثير من التراجع عن ثوابت إسرائيل التي لا تُمسّ؟ أليس التنازل في أمر يخصّ القدس أشبه بانتهاك المقدّسات؟ ولم يكن ينقص في الواقع سوى استكمال لعبة الكراسي الموسيقية بأخرى تاريخية حول مغزى القدس ـ عاصمة إسرائيل الأبدية ! ـ ومعنى السماح للمقدسيين الشرقيين بالاشتراك في انتخابات غير إسرائيلية. وكان في وسع شارون أن يقتبس ميرون بنفنستي... دون سواه!
وهذا "المؤرّخ الليبرالي"، كما يسمّي نفسه، في طليعة الإسرائيليين ذوي الاختصاص في شؤون القدس الجيو ـ سياسية، والجيو ـ تاريخية، والجيو ـ توراتية في آن معاً. وامتيازه عن سواه من أهل الباع في الشؤون ذاتها، أنه يتجاسر بين الحين والآخر على وصف العلّة واقتراح الترياق، حتى وهو يعلم أنه إنما يقامر بالكثير. يكتب، مثلاً، أنه لا يؤمن بإمكانية تطبيق سحر الخيمياء Alchemy من أجل اجتراح معجزات/حلول لقضية القدس، وكيفية تقاسمها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويطالب بتطبيق علوم أكثر حداثة وجرأة. وذات يوم بلغ به التفاؤل حدّ القول، في مقال طريف نشرته صحيفة "هآرتس"، بأنّ الدماغ البشري ليس عاجزاً عن اجتراح المعجزات الكفيلة بإيجاد الصيغة المناسبة لتقاسم السيادة على القدس، وعلى الأماكن المقدّسة بصفة خاصة.
لكنّ بنفنستي يضعنا ـ هنا، في هذا النقاش التقني حول حدود العقل البشري والفارق بين زمن الخيمياء وزمن الكيمياء ـ على مبعدة فادحة وفاضحة من الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ القدس محتلة، بالتعريف الفعلي على الأرض، كما في التعريف القانوني القابع في أدراج الأمم المتحدة ودول العالم قاطبة، بلا استثناء. وإذا كان يوسي بيلين قد تجرأ، مرّة واحدة فقط، على انتهاك المحرّم الأسطوري القائل بعدم جواز تقسيم القدس، فإنّ ميرون بنفنستي يواصل تغذية ذلك المحرّم الأسطوري ذاته، على طريقته الخاصة: استنهاض المعجزة وحدها من أجل حلّ مشكلات البشر الأرضية!
وفي آخر أعماله عن مدينة القدس، كتابه المعنون "مدينة الحجر: تاريخ القدس الخفي"، قال بنفنستي إن صهيونية الفلسطينيين شبيهة بصهيونية الإسرائيليين من حيث الإصرار على ذاكرة القدس بوصفها مدينة الفردوس المفقود: "كلا الصهيونيتين تتصارعان من أجل الهوية، وتقيمان الحداد على الكارثة الفاجعة، ولا تمييز عندهما بين الديني والسياسي، وبين السلام وسلام القدس". والنتيجة؟ يقول بنفنستي: "إما أن يكون السلام، وإما أن تكون القدس. ولكن لا مجال للحصول على الإثنين معاً".
غير أنّ الرجل ـ لمن لا يعرفه جيداً ـ كان نائب عمدة القدس الأسبق تيدي كوليك، وكان بذلك على إطلاع تام ويومي بكل تفاصيل عمليات التهويد. وليس من الإجحاف القول إنّ كتابه أشبه بوثيقة نعي لتاريخه الشخصي في مجلس بلدية القدس، ولعجزه عن تفكيك العلاقات الداخلية المعقدة التي ترسم خطوط ضغط التاريخ على الجغرافيا في مدينة لا ينقلب فيها حجر دون أن يشعل معضلة تاريخية. والحجر هنا ليس من نوع المعادن الخسيسة التي يحلم الخيميائيون بتحويلها إلى ذهب (وسياسة، وحلول، وتسويات...)، بل هو بالضبط ذلك الحجر التاريخي العتيق الذي يستعصي على كامل عمليات الخيمياء والكيمياء والسيمياء: الحجر الأثقل في معادلات رسم نهاية سعيدة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والحجر الوحيد الذي لا ينقلب إلا لكي يفتح بوّابات التاريخ على أكثر مصاريعها حساسية وترميزاً.
ومن المفارقة أن بنفنستي نفسه كان قد أعلن أن اتفاق أوسلو الأوّل أخذه على حين غرّة، هو الذي ظلّ يؤمن أنّ المآزق اللاهوتية والعاطفية أشدّ تعقيداً من أن تفسح المجال أمام تقدّم السلام. وفي مقال مشبوب نشره عشية توقيع اتفاقيات أوسلو، تساءل بنفنستي منذ العنوان: هل كنت على خطأ؟ نعم، أجاب بحكمة الليبرالي الذي ينحني أمام جبروت السياسة البراغماتية، واعترف أنه بالغ في تضخيم دور العوامل العاطفية والتقليل من دور السياسة والدبلوماسية. ولقد احتاج إلى أقلّ من ثلاث سنوات لكي يدرك أنه لم يكن مخطئاً أبداً، وها هو يعيد تكرار ما كان قد كرّره مراراً وهو يقف على يمين تيدي كوليك: الصراع من أجل هوية القدس لن يسفر عن ظافر ومهزوم، ما دام باطن الأرض يقذف حممه إلى السطح، فيصيب الصهيونيتين معاً، وبالتساوي كما يبدو.
وفي كتاب سابق، عن القدس أيضاً، تحدث بنفنستي عن إمكانية تطبيق الشعار الأولمبي "أعلى، أسرع، أقوى" على التاريخ المعماري للمدينة، أو تاريخ بنائها على الأرض مثلما في المخيّلة والنصوص الدينية، منذ المعماري اليبوسي المجهول وحتي الأب الروسي الأرثوذكسي أنطونين، مروراً بسليمان وهيرود وهادريان وقسطنطين وعمر بن الخطاب. الأديان الثلاثة تبارت في إعلاء صروحها طيلة قرون، ولكنّ بنفنستي لا يحتاج إلى مَنْ يذكّره بأن تاريخ المدينة يحتشد بمعادلات ضاغطة لا تتسع لها الجغرافيا، وأنّ مملكة داود لم تكن تتجاوز العشرين أكرة (مقابل 27.000 أكرة تحتلها الدولة العبرية اليوم!)، وأن الملك داود جاء إلى فراغ إسرائيلي مقابل امتلاء كنعاني يمتدّ ألف سنة على الأقلّ، قبل أن يقرر الملك تحويل القدس إلى بديل عن الخليل وبيت إيل.
وهكذا ترتدّ مدينة القدس إلى خصوصيتها الفريدة التي عجزت جميع الشعوب والديانات والعقائد والقوي الكونية الجبارة عن تبديلها: خصوصية المدينة المسكونة بالتاريخ حيث لا ينقلب حجر إلا ويتكشف عن صفحة غابرة تضيء الماضي ثم تمتدّ إلى الحاضر، وتستطيل أخيراً لكي تخيّم على المستقبل أيضاً. إنها البقرة المقدسة عند القومية الاسرائيلية والقومية الفلسطينية كما قال ليبرالي إسرائيلي آخر هو الروائي عاموس عيلون، ولكنها تصبح أكثر من بقرة لاهوتية مقدّسة حين يصطدم تهويدها بعبوة بشرية ناسفة من النوع الذي انفجر مراراً في قلب فلسطين الممسوخة إلى جغرافيا توراتية، أو ساعة تتدخل الأبدية في قرار الكنيست الذي يعتبر القدس عاصمة أبدية موحدة لشعب اسرائيل. وحين هندس مناحيم بيغين هذا القرار، توجّب أن تجري الهندسة اللاحقة على سطح الأرض وفي السجلّ التاريخي، وتوجّب على باطن الأرض أن يقذف الحمم بين حين وآخر... الحمم التاريخية ذاتها، الأكثر التهاباً وسخونة.
وبغية إشراك لاعب جديد في لعبة الكراسي الموسيقية إياها، نتذكر أن عمدة القدس السابق إيهود أولمرت استضاف رجل الأعمال اليهودي الأمريكي إرفنغ موسكوفيتز، الملياردير الذي تتكدّس ملايينه كل يوم عبر آلات القمار، والذي جاء لتقديم الكفارة التوراتية إلى أورشليم القدس كما يحلو له القول في التدليل على أبدية المدينة في وحدتها الأبدية. وفي النفق الحاسموني الشهير دون سواه، وعلى مرمى حجر من المجارير الهيرودية، شكر موسكوفيتز مضيفه والمحتفين به، وتبرّع بملايين إضافية لشراء المزيد من الأراضي والبيوت، وقال: "السيطرة اليهودية على أورشليم القدس، على الهيكل والحائط الغربي، أهمّ من السلام. واليهود على مرّ العصور لم يصلّوا من أجل السلام مع العرب، بل من أجل بسط السيطرة اليهودية على أورشليم القدس".
ولم يكن موسكوفيتز في حاجة إلى إيضاح ما يقصده حين يتحدث عن اليهود ، بصدد العلاقة مع مدينة القدس تحديداً. ذلك لأن تسعة أعشار هؤلاء يتساوون في هذه الحكاية: الديني المتشدد مع العلماني المعتدل، واليميني المستنير مع اليساري الليبرالي، وعمدة القدس آنذاك إيهود أولمرت (الليكودي الصقري) مع عمدة القدس سلفه تيدي كوليك (الليبرالي الحمائمي) أو العمدة الحالي المتطرّف أوري ليوبينسكي (الذي يدعو إلى هدم المسجد الأقصى!)... أكثر من ذلك، كان كوليك هو المسؤول عن عمليات التهويد الأولى، مباشرة بعد احتلال القوات الاسرائيلية للشطر الشرقي من المدينة. آنذاك بدأ كوليك بإلغاء عبارة "حائط المبكى" لأن زمن الدموع قد ولّى إلى غير رجعة، والجدار يخدم الآن في استذكار الخلاص والإنعتاق والحرية. بعد ذلك انتقل العمدة الليبرالي إلى تنظيف الفضاء الجغرافي المحيط بالحائط الغربي، فهدم حيّاً عربياً بأكمله بين ليلة وضحاها، وأقام الساحة الحالية لكي تخدم أغراض العبادة والسياحة، ولكي يتاح للجنود الإسرائيليين حمل المشاعل والطواف من حول الجدار قبيل تخريجهم وزجّهم في معـــارك اسرائيل.
والمؤسسة الصهيونية، وربما قبل زمن طويل يسبق إعلان تأسيس الكيان الإسرائيلي، انفردت عن العالم بأسره في تحويل علم الآثار إلى ديانة ودين، وليس مجرّد حفريات في التاريخ الغابر تضيء أو تستكمل حلقات غامضة من السجل الإنساني. وفي كتابه "نبيّ من بين ظهرانينا"، والذي يروي سيرة إيغال يادين "المحارب وعالم الآثار و صانع أسطورة اسرائيل الحديثة"، يقول نيل سيبرمان إن التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين التاريخية كان بمثابة "ترخيص شعري للإستيطان الاسرائيلي المعاصر"، بحيث تنقلب الرقيمات والألواح المكتشفة إلى ما يشبه عقود ملكية العقارات، مع فارق أنها عقود مقدسة مكتوبة بمداد الآلهة.
لقد انحصرت مهمة علم الآثار الصهيوني في إثبات هذا الزعم أو ذاك حول تاريخ اليهود في فلسطين التاريخية، أو في الأراضي المقدسة لمن يشاء، وليس في استكشاف المواد الناقصة من تاريخ يحتمل درجة علمية نسبية من الإجماع أو الاختلاف، كما هي الحال عند العثور على أي لُقى آثارية في أية بقعة على وجه هذه البسيطة. وذات يوم قطع المدير العام للآثار والمتاحف في الدولة العبرية ذلك الشوط القصير الأخير بين الحلم الأقصى والهستيريا المفتوحة حين اقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو اليهودي التالي: منذ الآن سوف نطلق على عصر الحديد اسم "عصر بني إسرائيل"، وعلى العصر الهيلليني اسم "العصر الحشموني"، وعلى العصر الروماني اسم "عصر الميشنا"، وعلى البيزنطي اسم "العصر التلمودي"...
وفي أعقاب نزهة شارون الشهيرة في الحرم الشريف اندلعت انتفاضة الأقصى، هذه التي يسعي العالم (بأسره تقريباً، ومعه معظم العرب أبناء العمومة) إلى دفنها حيّة، دون أيّ مكاسب سياسية تُذكر. وإذّ تستهدف لعبة الكراسي الموسيقية تجميل صورة شارون من جهة، وحشر القيادة الفلسطينية الجديدة في فلسفة "القدس ما بعد عرفات" من جهة ثانية، فإنّ الشرارة ذاتها تهدّد بما هو أدهى من اندلاع لهيب جديد، أشدّ قدرة على حرق الأخضر واليابس.
ولعلّ أمثال بنفنستي سوف يقتنعون، عندها فقط، بجدوى اللجوء إلى الخيمياء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ