الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا تنقذ كيوتو: التزام بيئي أم انتهازية اقتصادية- سياسية؟

باتر محمد علي وردم

2004 / 11 / 28
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


كان توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على بروتوكول كيوتو لتقليص انبعاثات غازات الدفيئة في شهر تشرين الأول الماضي كان حدثا استثنائيا بكل معنى الكلمة، لأن هذا الحدث هو الذي شكل الولادة الشرعية لبروتوكول كيوتو بعد أن اصبح نافذ المفعول أخيرا بضمان توقيع الدول التي تمثل 55% من انبعاثات غازات الدفيئة في العالم وهو الشرط الرئيسي لأن تصبح المعاهدة شرعية.


كان الرئيس بوتين، وروسيا بشكل عام بمثابة "الداية" التي ساهمت في ولادة بروتوكول كيوتو، فقد عانى هذا البروتوكول من مخاض طويل بعد أن انسحبت منه الولايات المتحدة عام 2001 ورفضت دول أخرى مثل أستراليا التوقيع. وبالرغم من جهود الاتحاد الأوروبي الكبيرة في الالتزام ببنود البروتوكول فقد كان واضحا أن روسيا هي الورقة الرابحة التي يمكن أن تجعل البروتوكول معاهدة ملزمة للدول الموقعة عليه، وتحقق بالتالي أهداف تقليص انبعاثات غازات الدفيئة. ويبقى التحدي الأكبر الآن في تطبيق هذا البروتوكول بكل مضامينه التي تثير العديد من الإشكاليات بين التكتلات الاقتصادية العالمية المختلفة.

لم يكن قرارروسيا المصادقة على بروتوكول كيوتو نتيجة صحوة ضمير بيئية مفاجئة ولا التزاما أخلاقيا بحماية الكوكب بقدر ما كان نضوج الصفقة الاقتصادية-السياسية التي كانت تنتظرها روسيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الثقة بأن البروتوكول سيحقق فوائد كبيرة لروسيا في مجالات بيع حصص الانبعاثات حيث تصل نسبة انبعاثات غازات الدفيئة من روسيا حوالي 17% من الانبعاثات العالمية.

وافقت روسيا على المصادقة على كيوتو بعد اشهر من الاجتماع التاريخي للرئيس بوتين مع الاتحاد الأوروبي والذي تم فيه وقف التحفظ الأوروبي على إنضمام روسيا لمنظمة التجارة الدولية، وتخفيف لهجة الانتقادات الأوروبية لروسيا في مجالات حقوق الإنسان وخاصة في سياسات بوتين الداخلية. ومقابل هذا الموقف من الاتحاد الأوروبي وافقت روسيا على المصادقة على البروتوكول، وضرب بوتين بعرض الحائط موقف مستشاره الاقتصادي أندريه إلاريونوف الذي كان واضحا في رفض المصادقة. وهنا يمكن ذكر تعليق مثير للاهتمام أدلى به ميكاييل ديلياجين مدير مركز مشاكل العولمة في موسكو والمستشار الاقتصادي السابق للحكومة الروسية مفاده " أن المصادقة على كيوتو هي بمثابة عظمة رميت للاتحاد الاوروبي كي يصمت!".
ولكن العامل الأكثر أهمية يتعلق بتركيبة بروتوكول كيوتو نفسه، والوضع الاستثنائي لروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي. يضع بروتوكول كيوتو انبعاثات العام 1990 من غازات الدفيئة كمعيار لتقليص الانبعاثات بنسبة 5% بشكل إجمالي حتى العام 2012. ولكن كانت روسيا من ضمن الدول المطلوب منها تثبيت انبعاثاتها عند حدود العام 1990 وعدم تقليصها، مقارنة بالاتحاد الأوروبي الذي يجب أن يقلص انبعاثاته بمعدل 8%. وبما أن العام 1990 شهد الفترة الانتقالية لسقوط الاتحاد السوفييتي واقتصاده المبني على التصنيع المكثف والانبعاثات العالية، فإن انبعاثات روسيا من غازات الدفيئة حاليا أقل مما انبعاثاتها في العام 1990 وبالتالي فإن روسيا قد حققت فعليا المطلوب منها، بل أنها تملك حاليا فائضا من حصص الانبعاثات والذي يمكن أن تبيعه للدول الصناعية في غرب أوروبا بقيمة تقدر بحوالي 10 بلايين دولار حيث تشير بعض التقديرات أن نسبة الانبعاثات من روسيا هي حاليا أقل بحوالي 30% مما كانت عليه عام 1990. إلا ان ميكايل ديلياجين يشكك في تحقيق فائدة سريعة لروسيا، مذكرا بأن روسيا تلكأت في المصادقة وبالتالي فإن دول الاتحاد الأوروبي الغنية سوف تشتري حقوق الانبعاثات أولا من شرق أوروبا (هنغاريا ورومانيا وبولندا وأوكرانيا) قبل أن تشتري من روسيا.
ولكي نفهم هذه المعادلة الاقتصادية علينا أن نفهم ماهية بروتوكول كيوتو وآلياته التنفيذية.


في مؤتمر كيوتو والذي عقد عام 1997 وافقت الدول الصناعية على تخفيض انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون بنسبة 5.2% على الأقل مقارنة بالانبعاثات عام 1990 وذلك بموعد أقصاه عام 2012. وكانت التزامات الدول الصناعية متنباينة حسب البروتوكول، حيث كان المطلوب من الاتحاد الأوروبي تقليص الانبعاثات بنسبة 8%، والولايات المتحدة بنسبة 7% واليابان وكندا بنسبة 6% بينما طلب من روسيا وأوكرانيا تثبيت نسبة الانبعاثات عند مستوى العام 1990. ولكن لم يضع البروتوكول أية التزامات على الدول النامية وهذا ما أزعج الولايات المتحدة وكان أحد أهم مبررات انسحابها من البروتوكول عام 2001 بسبب إدعاء واشنطن بأن الدول النامية هي التي ستساهم بالكمية الأكبر من الانبعاثات في السنوات الماضية ويجب أن تتحمل المسؤولية ايضا.

ومن أجل توفير بعض الحوافز أمام الدول الصناعية الكبرى حدد مؤتمر كيوتو عدة وسائل وآليات مرنة لتحقيق هذه الأهداف بتكلفة قليلة نسبيا. أول هذه الوسائل هي مقايضة الانبعاثات Emission Trading أي التبادل بين الدول الصناعية في مستوى الانبعاث بحيث تشتري دولة مثل بريطانيا نسبة ما من انبعاثات دولة مثل روسيا أو الدنمرك والتي لا تصل إلى نسبة الانبعاثات البريطانية فتصل الدولتان معا إلى الحد المطلوب منهما. أما الوسيلة الأخرى وهي آلية التنمية النظيفة Clean Development Mechanism فتتضمن قيام الدول الصناعية بتمويل مشاريع للطاقة البديلة في الدول النامية وبالتالي تحتسب عمليات التمويل هذه " نقاطا" لصالح الدول الصناعية يتم انتقاصها من النسبة المطلوبة منها. وقد أثارت هذه النقطة جدلا كبيرا حينما طالبت كل من الصين والهند أن تكون الطاقة النووية ضمن أنواع الطاقة البديلة التي يجب تشجيعها ونقلها إلى العالم النامي.
وهناك وسائل أخرى ذات إشكالية ومنها امتصاص الكربون " Carbon Sinks والتي تعني احتساب مساحات الغطاء الأخضر في الدول المنتجة لغازات الدفيئة، واحتساب مساهمة هذه الغابات نظريا في التقاط الكربون الجوي وتخفيض تركيزه في الجو. وتدعم بعض الدول مثل الولايات المتحدة هذه الافكار لأنها تتمتع بمساحات شاسعة من الغابات التي تمتص الكربون الجوب بكميات عالية، وبالتالي يتم انتقاص كمية الكربون الذي تمتصه الأشجار من أهداف تقلبص الانبعاثات من الدول الصناعية. وقد أفادت دراسة لمنظمة السلام الأخضر أنه لو تم بالفعل اتخاذ قرار حول دور الأشجار في امتصاص الكربون الجوي فإن الولايات المتحدة سوف تتمكن من زيادة انبعاثاتها من الكربون بنسبة 1% بدلا من تخفيضها بنسبة 7% عن مستويات الانبعاث في 1990 كما ينص على ذلك بروتوكول كيوتو.

:
يتوقع ان يشهد العالم بعد توقيع روسيا لبروتوكول كيوتو نوعا جديدا من التجارة التي ينتظر ان تجد لها سوقا رائجة، وهي تجارة الغازات الدفيئة التي يطلق عليها‏ ‏الصناعيون اختصارا اسم "تجارة الكربون. وتتضمن تجارة الكربون سوقا دولية للكربون مثل أي سوق اخرى في ‏العالم وفيه أسعار محددة لطن الكربون الذي يتم إطلاقه في الجو من قبل الدول الصناعية، والذي يدخل في عملية تمويل مشاريع تجارة الكربون في العالم. وفي هذه الحالة يكون حيث البائع من الدول او الجهات ذات الانبعاثات المنخفضة من غاز ‏ ‏ثاني اكسيد الكربون والمشترى وهو صاحب الانبعاثات المتزايدة بينما السلعة هي ‏ ‏ثاني اكسيد الكربون الذي يمثل نحو خمسين في المائة من غازات الدفيئة والسعر حسب ‏العرض والطلب. وهذه السوق تعني أيضا ظهور طبقة جديدة من المضاربين الذين يمكن تسميتهم سماسرة الكربون.
ومن الواضح أن تطوير هذه الآلية تم من أجل تقديم حوافز للشركات الكبرى في القطاع الخاص للدخول في جهود تطبيق البروتوكول من خلال وسائل معتمدة على فلسفة السوق، ولكن هذا لم يجد نفعا مع الشركات الأميركية بالذات والتي رفضت كلها بروتوكول كيوتو وشكلت قوى ضغط على الإدارة الأميركية الجمهورية للانسحاب من البروتوكول في آذار 2001. وتعتبر الشركات الأميركية بالذات أكبر المتسببين في انبعاثات الكربون في العالم حيث تساهم شركة إكسون موبيل النفطية في كمية انبعاثات من الكربون تعادل ضعفي انبعاثات دولة صناعية متقدمة مثل النرويج ومما يزيد الأمور سوءا أن كميات هذه الانبعاثات تزداد بشكل متواصل بدلا من انخفاضها في الشركات الأميركية مقارنة مع بعض الشركات الأوروبية التي تمكنت من تحقيق نجاحات في كفاءة الطاقة مثل شركة بريتش بتروليوم علما بأن شركة إكسون لا يمكن أن تشكو من عدم وجود الموارد المالية لأنها حققت أرباحا بمقدار 17 بليون دولار في العام 203 وهي أكبر كمية أرباح في كل الشركات العالمية.
ومن المرجح أن يكون حجم التجارة، وبالتالي حجم التحويلات بين الدول ضخما. ويصل حجم انبعاثات دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى حوالي 3 مليارات طن من الكربون سنويا. وسوف تقلل اتفاقية كيوتو بمفردها الانبعاثات التي كان يمكن أن تنتجها هذه الدول بدون هذه الاتفاقية بنسبة 30% على الأقل. وفي حالة تقييم الكربون بحوالي 23 دولارا للطن، والوفاء بنصف التخفيضات فقط عن طريق تجارة الحصص قد تصل قيمة سوق الحصص العالمية إلى 11,5 مليار دولار أميركي في السنة أي أكثر من إجمالي ميزانية المعونة الأميركية لكل دول العالم. وقد تم شراء حصص كربون بقيمة مليون دولار في شهر أيلول الماضي وحده وبدأت كل الشركات الكبرى في العالم في مجالات الطاقة والغاز والنفط ببناء فرق علمية ومراكز بحث وتجارة خاصة بسوق الكربون.

ومع أن العمل بهذه الآلية الواردة في بنود البروتوكول يجب ألا يبدأ قبل العام 2008 فان سمسرة رخص الاتجار بالكربون قد باتت قطاعا مزدهرا للمضاربات إذ بلغت المبالغ الإجمالية المتحققة في هذه الأسواق المدرارة 60 مليار دولار في العام 2002، وهو قد يبلغ نسبا فلكية قد تصل الى مئات المليارات من الدولارات خلال بضعة عقود. ومن هنا تتسابق الأسواق التي بدأت بالمضاربات حتى قبل البدء بتنفيذ بروتوكول كيوتو. وقد انشأ البنك الدولي صندوقا نموذجيا للكربون يهدف الى تمويل مشاريع الإنشاءات الصناعية في دول الجنوب ومن بين المستثمرين فيه تبرز شركتا "شل" و"ميتسوبيشي" إضافة إلى الحكومة الهولندية. وفي المقابل يوفر هذا الصندوق للمستثمرين اعتمادات للمشاريع المسببة للانبعاثات بنسب ضئيلة، وتلك طريقة لتمويل جزء من آلية " التنمية النظيفة" عبر المضاربة في سوق غاز الكربون.

ربما لا يكون بروتوكول كيوتو الوسيلة النموذجية لمقاومة ظاهرة التغير المناخي حسب رأي معظم الجماعات البيئية في العالم، ولكنه يبقى الآلية الوحيدة الملزمة الموجودة حاليا لتحقيق انخفاض في الانبعاثات ومحاولة الوقابة من ارتفاع درجات الحرارة. ولا شك أن بروتوكول كيوتو لم يكن "نقيا" من حيث المبدأ ولم يقتصر على المبادئ الايكولوجية وشعارات حماية البيئة بقدر ما حقق خطوات عملية في مجال توفير الحوافز لتطبيقه من خلال أنظمة تجارة الكربون والمكاسب الاقتصادية والتنموية، وربما يكون هذا النمط البراجماتي السبيل الأفضل لمواجهة مشكلة عميقة ومعقدة مثل التغير المناخي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة