الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم أدرِّب نفسي، بعد..

سميح القاسم

2011 / 8 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


هذه هي، إذًا، لعبة الحياة والموت في تجلّيها الأخير، حيثُ يُتابع الإنسانُ تدريباته الذاتية لأجل الحياة، وفي تجاهل عفويّ أو مُتعمَّد لحقيقة الموت القادم بلا ريب



//قلتُ للأخوة التّوانسة: بعد نجاح ثورتكم على الطغيان والاستبداد، وفّيتُ نذري بأن أرقصَ حافياً في ساحة المسرح البلدي على شارع الحبيب بورقيبة
// أعترفُ بأنني لم أدرّب نفسي بعد على الإقرار بحقيقة رحيل محمود. وأكثر من ذلك فما زال عسيراً عليّ التعامل بصيغة الماضي مع راشد حسين وتوفيق زياد ومعين بسيسو وفدوى طوقان وإميل توما وإميل حبيبي وصليبا خميس وآخرين من أصدقائي ورفاق دربي، وها هو رحيل يوسف الخطيب يزيد ورطتي تعقيداً..

//

يذهبُ الإنسانُ إلى موتِهِ وهو يدرِّبُ نفسَهُ على شؤون الحياة. وبصيغةٍ أخرى فإنَّ قوَّةَ الحياة وشَهوة البقاء، تضغط وعيَ الإنسان باتّجاه الحياة، وتصرفُ أفكارَه عن الانشغال بمسائل الموت، حتى وهو على يقين من أنَّ الموتَ الحق قادمٌ لا محالة، وبأسرع ممّا يتصوّر.
هذه هي، إذا، لعبة الحياة والموت في تجلّيها الأخير، حيثُ يُتابع الإنسانُ تدريباته الذاتية لأجل الحياة، وفي تجاهل عفويّ أو مُتعمَّد لحقيقة الموت القادم بلا ريب، إلاّ حين يتعلّق الأمرُ بغُلاةِ الحكماءِ والمتصوّفةِ، القادرين على اجتراح التوازن الدّقيق والعظيم بينَ فكرة الحياة وفكرة الموت، معاً..
قبل أيام، وفي طريق عودتي من مستشفى صفد، رنَّ التلفونُ النّقال، فردّت زوجتي، وبعدَ حوار مُقتضب قالت: إنهم من إذاعة فلسطين، يسألون عمّا إذا كان بمقدورهم إجراء حديث معك بعد العاشرة ليلاً، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على رحيل محمود..
قلتُ: طبعاً. سأنتظرُ مكالمتهم.
بعد العاشرة ليلاً رنّ الهاتف. وبعد مقدّمة قصيرة ومُؤثرة سألني المذيع:
ما هو شعورك الآن، بعد مرور ثلاث سنوات على رحيل رفيق عمرك محمود درويش؟
قلتُ: أعترفُ أيّها الأخ العزيز بأنني لم أدرّب نفسي بعد على الإقرار بحقيقة رحيل محمود. وأكثر من ذلك فما زال عسيراً عليّ التعامل بصيغة الماضي مع راشد حسين وتوفيق زياد ومعين بسيسو وفدوى طوقان وإميل توما وإميل حبيبي وصليبا خميس وآخرين من أصدقائي ورفاق دربي، وها هو رحيل يوسف الخطيب يزيد ورطتي تعقيداً..
وحتى نخرج من عنق زجاجة الموت، فلنلجأ إلى القصيدة والدراسة والبحث والمظاهرة والمسيرة والاعتصام وسائر أشكال العمل الكفاحي الذي جمعنا في الحياة ولا يستطيع الموت إلغاءَهُ ومحوه من الذاكرة والهاجس.
لم يكن هذا الكلام مُناورةً إعلاميّة أو محاولة للإلتفاف على حقيقة الموت. كان، ببساطة، تعبيراً حقيقيّاً عن كوني لم أدرِّب نفسي بعد، على الإقرار بواقعية ذلك الموت، الذي يعني إقراراً ضمنياً بموت جزء كبير من ذاتي، هذا الذات المتداخل بقوّة وبعنفوان في ذواتٍ أخرى شكّلَتْ مُجتمعةً مرحلةً أساسية مما أسمّيه حياتي الشخصية.
ولطالما توهّجَ حضور أصدقائي الرّاحلين في السرّاء والضرّاء على السّواء.
ففي حفل زفاف لدى أسرة من الأصدقاء المشتركين أضبطني متلبِّساً بالسؤال: أينَ أنتَ يا توفيق؟ كم كُنت أتمنى أنْ تكونَ بيننا الآن بضحكتك المجلجلة وبتعليقاتك الظريفة!
ويوم انهيار الاتحاد السوفييتي قلتُها بصوتٍ عالٍ:
- هنيئاً لك موتك يا إميل توما فلم تُدْمِ قلبَكَ هذه التطوّرات المذهلة!
وفي زيارتي الأخيرة لتونس سألوني عن محمود درويش وأمسيتنا المشتركة في المسرح البلدي يوم مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية في طريق العودة إلى الوطن.
قلتُ للأخوة التّوانسة: بعد نجاح ثورتكم على الطغيان والاستبداد، وفّيتُ نذري بأن أرقصَ حافياً في ساحة المسرح البلدي على شارع الحبيب بورقيبة.. وتعلمون أنني أنجزتُ الوفاء بالنذر، لكنكم لا تعلمون أنني لم أكن وحيداً في رقصتي ذاك المساء، بل شاركني الدبكة أخي ورفيقي محمود درويش.. وهكذا، فقد قرأنا شعرَنا معاً قبل سقوط الطاغوت، ولم يستطع الموت أنْ يحرمَنا الرقصَ معاً في مهرجان النصر على الظلم والقمع والقهر!
أعلم تماماً وبوعي كامل أنّ وضعي الصحي ليسَ على ما يرام، وأعلم أنّ كلَّ نفسٍ ذائقةٌ الموت، لكنني بصراحة، وبمنتهى الصراحة، لم أدرّب نفسي بعد على الإقرار بأنّ كلمة الموت ستكون الكلمة الأخيرة في حواره مع الحياة.. وأكثر من ذلك فإنني أبتكرُ لنفسي وبين نفسي وبيني أكثر من صيغة حياة تتعدّى الموت وتتجاوزه، بلا رومانسيّة مُفرطة، بل بقناعات يصوغُها العقلُ في حواره مع الروح، وتصنعُها كينونةٌ لا تُحَقّقُ وجودَها بالجسد فحسب، بل تذهب إلى أبعد من الجسد، إلى مناطقَ من شأن القصيدة أنْ تكتشفَها في الحيّز الغامض، حتى الآن، بينَ الحياة والموت..
وعلى أيّة حال، فاسمحوا لي أنْ أشربَ نخبَكم في احتفاليّة الحياة، أيها الأحبّة الأعزاء جداً، وحتى الرَّمَق الأخير. بوركتُم وبوركت الحياة، أمّا الموت فقد قلتها له صريحة واضحة:
أنا لا أُحبُّكَ يا موتُ.. لكنّني لا أخافُكْ
وأُدركُ أنَّ سريرَكَ جسمي.. وروحي لحافُكْ
وأدركُ أنّي تضيقُ عليَّ ضفافُكْ
أنا.. لا أُحبُّكَ يا موتُ..
لكنني لا أخافُكْ!



مُستقبِلاً.. ومودِّعا!
(قصيدة تونسيّة.. من سميح القاسم)أفسَحْتِ لي في ياسمينكِ مَوْضِعاً
وَحَضَنْتِني طفلاً يُعانِـقُ مُرضِعـا
هي سيرةُ الأحبابِ في صَبَواتِهم
فملوَّعٌ يُدنـي إليــهِ مُلوَّعـا
يـا تونسُ الخضراءُ، أيَّةُ خُضْرَةٍ
طَفَحَتْ على حُلمي فطابَ وأَمْرَعا
ومسَحْتِ عن روحي ظلاماً دامساً
واختـارَ نورُكِ مُقلَتَيَّ ليسطَعـا
يـا تونسَ الأحرارِ، شَتَّتَ شملَنا
بَغيٌ تهـاوى بُرجُـهُ وتصدَّعـا
هـذا أنـا آتٍ إليـكِ بعلَّتي
قَلِقاً أشُـدُّ على عذابي الأَضلُعـا
دائي عسـيرٌ والمـواجِعُ جمَّةٌ
لـكنني أقسَـمْتُ ألاَّ أَركَعـا
جسدي صليبي والسبيلُ مشقَّةٌ
تمضي.. وحكمةُ شمسِنا أنْ تطلُعا
واليـاسمينُ يلمُّنـا مـن فُرقةٍ
ومشيئةُ الزيتـونِ أنْ نتجمَّعـا
والقدسُ تنـزِفُ في القيود. وجرحُها
نادى.. وآنَ لشعبِنا أنْ يسمَعـا
يا تونسَ الأحرارِ نورُكِ غامرٌ
مـاذا إذا المحتـلُّ راوَغَ وادَّعى
حيّاً وميتاً، نحنُ ننسجُ رايـةً
لنهارها الآتي، ونغزِلُ مَطْلَعـا
يا تونسُ الأبهى، أتيتُ مُسَلِّماً
مُستَقْبِلاً ما شِئْتِ لي.. ومودِّعا
هي قُبلةٌ تُهدى إليكِ، ونجمةٌ
تَهدي المجوسَ، وثورةٌ لن تهجَعا
كُنّا معاً في نكسةٍ من نكبةٍ
وبساحةِ الأحرارِ نحنُ معاً.. معا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نتمنى لك الصحة
سيمون خوري ( 2011 / 8 / 20 - 15:13 )
أخي سميح المحترم تحية لك .نتمنى لك الصحة والعافية لكي ترقص مرة أخرى في عاصمة أخرى وفاءاً ليس فقط لمحمود درويش الذي لم يرحل بل وفاءاً لتلك الشعوب التي وقفت الى جانب أحمد الزعتر.


2 - تحيةً... من مصر الثورة
عبدالرؤوف النويهى ( 2011 / 8 / 20 - 16:28 )
عشنا طويلاً على أشعار محمود درويش وسميح القاسم وروايات المتشائل أميل حبيبى .كنا مجموعة نتقاسم قراءة القصائد وحفظت الكثير من شعردرويش ..أحمد الزعتر على وجه الخصوص أرددها بينى وبين نفسى ..وكان سميح القاسم أحد شعرائى المتميزين..أشم فى أشعارهما فلسطين الحبيبة ومريد البرغوثى ومروان محمد برزق وكان هناك اتفاق مع الشاعر مروان محمد برزق -كتبت عنه الكثير فى مواقع عديدة - أن أزور فلسطين الحبيبة ..لكن القدر كان أسرع ففوجئت بموته فى غزة الصامدة ..
كم أنت رائع أيها الشاعرالكبير الفلسطينى الوفى سميح القاسم ..
وكم هى عظيمة هذه القصيدة ..
وما ارق هذا البيت وما أروعه وما أصدقه

كُنّا معاً في نكسةٍ من نكبةٍ وبساحةِ الأحرارِ نحنُ معاً.. معا!


3 - سعفة الرافدين
واثق الجلبي ( 2011 / 8 / 20 - 23:40 )
أبدي إليك من المقالة أدمعا
قدرا وأجراه المليك فأودعا
هي غضبة ثارت فأمم في غد
طفل وأسلم للرياح الأضلعا
ما لون من غالوا الحياة أما لهم
من نصر عزرائيل أن يتتبعا
نار وبركان وفأس مدينة
غالتك وجها باكيا فتضرعا
صبي حياتك في دمي وتعلمي
أن العراق وطوله لن يذرعا
والنخلة الليلاء طالت فأنثنى
للسعف منها تابع فتخنعا
لا تسلمي بيض الدموع ولؤلؤا
في الرمل للآتين فأستوحي الدعا
قاومت أحلام الرعود بسعفة
من فيض دجلة والفرات فأشرعا
لا تحلمن ففي الحياة مقابر
للفكر فإستبقي لرأسك موضعا


4 - تحيه ايها المعطاء
ادم عربي ( 2011 / 8 / 21 - 00:30 )
تحيه ايها المعطاء
لن يموت شاعر بوزن درويش وسميح ، ولن يموت شعب انتج سر بقاءه
نهدي لك قصيدة غريبان للراحل درويش
يرنو الى اعلى
فيبصر نجمة
ترنو اليه!
يرنو الى الوادي
فيبصر قبره
يرنو اليه
يرنو الى امراه،
تعذبه و تعجبه
ولا ترنو اليه
يرنو الى مرآته
فيرى غريبا مثله
يرنو اليه!


5 - شاعر الثورة الفلسطينية سميح القاسم تحية.
مريم نجمه ( 2011 / 8 / 21 - 12:07 )
غرست نبتة الحياة .. وشجرة السلام .. أينعت ثقافة فلسطينية لا تموت .. أنت فلاّحها يا أيها المكافح و الكاتب المبدع سميح القاسم .. لك الشفاء والصحة ..

المحبة أكسير الحياة .. لك محبتنا

اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي