الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عواء بشري

عارف معروف

2004 / 11 / 28
أوراق كتبت في وعن السجن


عواء..بشري
الاهداء: الى السيد صدام حسين ،بمناسبة زيارة ممثلي الصليب الاحمر
والى السادة ممثلي الصليب الاحمر بمناسبة حرصهم على تفقد السجين صدام حسين.
احد مواقف الاستخبارات العسكرية العامة ،كانون ا لثاني 1982
كانت ابرة الخياطة التي انتهى ”منهل” * من صنعها بيضاء ، صقيلة ولامعة كأنها نحتت من العاج . ابديت اعجابي بدقة الصنعة ، كما ابديته من قبل في بضعة اشياء صغيرة عكست مهارة وحرفية "منهل" ، قلت له قبل ايام ، بحماس، انت الفنان الحق ، انك تعطي نفسك للاشياء فتمنحك افضل ما عندها عن طيب خاطر ، كان قد اراني سرا الموسى الحادة التي قدها من علبة جبن معدنية فارغة نجح في عدم تسليمها لحرس الموقف ، وصنع بضعة صواريخ ورقية صغيرة ، وضع على رأسها عجينة ورق مضغها جيدا وضمخها بلعابه ثم ارسلها ، في غفلة من الحرس ، الى القمر ، حيث التصقت بالسقف ، لتكون ، كما قال وظل ابتسامة حزينة يرتسم على شفتيه ، تسلية لمن بعدنا يشغل فيها ناظره بشاهد طفولي لا يحلم برؤياه وسط هذا الجحيم فيهدهد من رعبه ، ناهيك عن شطرنج رائع صنعه من فتات الصمون كنا نعيش الساعات الطويلة في جيشان وتفاصيل معاركه التي لاتنتهي ، انا ومنهل، وعمار** وعادل***.قلت لمنهل : كل ذلك رائع ولكن تذكر ان الابرة ليست كذلك حتى يكون لها خرم ، قال بالطبع ، لقد صنعت الافضل منها سابقا ، كل ما اريده هو "سحابة بنطلون جينز معدنية" سرى همسنا بين الموقوفين الاقرب لنا ، فوفقنا ، كان بنطلون احدهم بسحاب مطابق ، عالج منهل رأس الابرة ، الذي سطحه قليلا ، بواسطة نتؤ معدني دقيق وحاد في عتلة السحاب المعدنية ، وبعد معالجة صبورة ، كان له ما اراد وامام دهشتي كان يقلب بين اصابعه ابرة عاجية ، بخرم دقيق ، ومن بقايا " بلوز " مهتريء كان يلف على غلاف علبة كبريت خيطا طويلا ، قال هكذا سنخيط كل شيء ، وأولها هذا الفتق في ابط بيجا متك، كنت من التعساء الذين احضروا بملابس النوم. قلت : ان عشنا واصبح الوضع كما نريد فسنطالب لك ببراءات اختراع قال ليس ثمة من اختراع كل ذلك تعلمته في موقف الامن العامة قبل ان اعود ثانية الى هنا ثم اردف ضاحكا : اوصي لكم بدورات مماثلة هناك ، شهق عمار " فال الله ولا فالك" ثم التفت نحوي ، اذن فقد فهمت الان معنى ان لاتفرط بعظم، العظام اثمن رأسمال ‘ وخنق ضحكة متكسرة خائفة . قبل يومين كان " التعيين " مثل كل يوم، رز وقرنابيط ، غير انه توج ، ذلك اليوم ، بقطع من العظم. غرزنا اكفنا الوسخة واظافرنا القذرة فيه ، لكن منهل مد كفه باتجاه قطعة العظم الكبيرة والمستطيلة ودسها في جيبه وحينما رفعت حاجبيّ استفهاما ، قال كل يا أخ العرب ودعك من ذلك ، ستعرف لاحقا .
وفرت لي رفقة منهل ، منذ الايام الاولى لدخولي، تهدئة مطلوبة وشيئا من رباطة جأش واطلقت في بضعة ينابيع صغيرة لضحك مستحيل ، في اليوم الاول لاحظ علامات التقزز التي بدت على وجهي ولا ريب وانا ابصر اسراب القمل البنية التي انتظمت في خط طويل يستدير مع "تكة " لباسه الداخلي وهو يقلبها لينظفها بينما كان يجلس الى جانبي متكئا على الحائط ، ابتسم ، سيكون لك مثلها فلا تضيع جهدك بالتحرز ، ستدركك ولو كنت في بروج مشيدة ، وفعلا بعد يوم واحد فقط، كان لي مثلها وبعد يومين كنا نتسلى مرة بمسابقة اكبر قملة يمكن العثور عليها لدى اي منا ومرة بعمل سباق لها علىراحة كف احدنا واخرى بالتلذذ بشن حملة ابادة ضدها وقتل اعداد منها بسحقها بين الاظافر و سماع فرقعات اجسادها الدقيقة با نتشاء !
ذكرّت عادل بكلمات شكسبير على لسان هاملت " رباه ، ان بوسعي ان احشر في قشرة جوزة ، واعد نفسي مع ذلك ، ملك الرحاب التي لاتحد!" قلت ها نحن نصنع بيئتنا ، اخويتنا ، وعالمنا الخاص ، افراحنا الممكنة وتسلياتنا البديلة في وجه مخاوفنا ، ثم رحت اتفلسف ، اننا في الواقع ننشيء المألوف في غير المألوف ، اننا نلغي جدرانهم وقضبانهم والعذاب ونحيل الجحيم الى ممكن ، كنت اتلمس اقد امي التي هرستها الهراوات قبل ايام وحولتها الى كتل دامية محطمة ، لم اكن اقوى على الوقوف او المسير، وتحجرت امعائي لانني لم اخرج الى المراحيض على مدى ستة ايام ، وانتظرت هذا اليوم بصبر نافذ وتوجس، كنت انتظر نوبة خفارة" الطيب " الذي يمهلنا فرصة اضافية للذهاب الى المرحاض وقضاء الحاجة ببعض الرّوية ، كانوا يلعبون معنا اللعبة ذاتها ، الشرير والطيب ، الشرير والطيب ،في كل مكان ، اما هم فأبرياء من كل ما يحصل لنا ، كان الذهاب الى المرحاض يتم لمرة واحدة في الصباح ، وكان تنظيمه طريفا ومسليا ، خصوصا حينما يكون البدين" الشرير" آمرا لحرس السجن ،حيث يتوزع الممر الطويل الضيق من غرفة الموقف الى المراحيض بضعة جنود كل يهز " الكيبل " الذي في يده بأعتزاز ثم يبدء " اطلاقنا " من غرفة الموقف لنركض حفاة وباسرع مانستطيع ،باتجاه المراحيض فتنهال علينا من كل جانب ضربات "الكيبل" واللكمات والركلات وسط ضحكات الحراس وتعليقاتهم الجذلة وشتائمهم الفريدة ، كانت هذه احتفالية الذهاب والعودة ، اما عند دخول المراحيض فبعد اقل من دقبقة تتوالى طرقات مرعبة يرتج لها الباب الحديدي مع سيل متواصل من كلمات السباب والوعيد " اخرج يابن.." " هيا ياقواد..." لم يكن امامي الا انتظار نوبة " الطيب" لكي يتسنى لي التحامل على نفسي والذهاب الى المراحيض علي افلح في قضاء حاجتي . قد يكون محض مصادفة او لاعتبار ما ، ان " الطيب " كان تكريتيا ، وكان يتظاهر بالورع والادب لكن نوبته لم تكن الا يوما في الاسبوع، كان رفاقي يتهيأون لحملي ا لى المراحيض
حالما يطل " الطيب " مبتدءا نوبته ، لكن انتظارنا طال ذلك اليوم ، وبدلا من ذلك سرت اصوات لوقع اقدام مهرولة وساد نوع من الارتباك والتوتر قرأناه في وجه احد الحرس الذي اطل علينا من الطاقة الحديدية للباب الثقيل الموصد بهيئة مستفزة ونظرات عصبية قبل ان يغلق الطاقة ويغيب...
علق في الجو تساؤل وريبة ، قبل ان نسمع وقع اقدام كثيرة متعجلة ثم ضربات مكتومة تحولت الى اصوات مفرقعة لضرب مبرح ، ثم علا صراخ آدمي يقطع القلب ، كانت صرخات طفولية حادة اقرب الى صراخ قطط تحصر في زاوية وتسحق بلا شفقة ، امتلآت الدنيا بالصراخ ، بالمواء الغريب ، بالعواء الوحشي الذي يخترق شغاف القلب ‘ تحولت تساؤلاتنا الى خوف وتوجس ووجيب بدأ يتصاعد في قلوبنا ، شحبت الوجوه والتصقنا بالجدران في رد فعل غريزي لانفقه له معنى ، شحبت الجدران وعلقت في الهواء روائح دم ودهن بشري ، سرى الصراخ المرعب المتواصل في كل شيء ، خفنا ان تكون احدى نوبات الجنون، او اوامر الاعدام الجماعي الصادرةعن سورة غضب وانفعال آني ، من هؤلاء ؟ ماذا يفعلون بهم ؟ هل سينقضون علينا بعدهم في عالم كل شيء فيه غير معقول؟هل تتصاعد حمى الانفعال فلا يكتفون بهم وينقضون علينا لتمزيقنا بعدهم ، بلغت القلوب الحناجر، وتعلقت عيوننا وقلوبنا جميعا بالباب الحديدي الموصد ، بثقب المفتاح في الباب ، استحال علينا كل شكل من اشكال التفكير، وتركز وجودنا كله في قلوب تخفق، وعيون تتطلع واذان تصغي...
استمر ذلك لوقت طويل خلناه دهرا،لانعرف كم مضى من الوقت قبل ان تخفت الصرخات ويتبدد العواء في غمغمات متفرقة واصوات خائرة لينتهي الى نحيب مكتوم ، هدأ روعنا ، وحينما انفتح الباب ، كنا قد استعدنا بعض قدرتنا على التفكير، وبدلا من " الطيب" اطل " الارعن" وهو رئيس حرس تافه وكثير الادعاء ، كان يبدو من سحنته ولهجته ، بغداديا ، وكان في كل نوبة من نوباته يفتح طاقة الباب الحديدية ليتحدث الينا عن مناقبه ورجولته ومساعدته للسجناء ذوي السجايا الرجولية.." لو قتلتم احد ما لثأر او منقبة اوغسلا لعار، لو ارديتم شرطيا خسيسا .. لوضعتكم على رأسي وعملت لكم المستحيل ، لااخس من الشرطة ، ولا اكرم من رجل يقتل شرطي.. ولكنكم تأتون دائما بسبب السوالف الدونية ذاتها .. سوالف النسوان والمزعطة.. تنظيمات سياسية .. قنادر .. طيح الله حظكم.. صيروا رجال" كانت هذه محاضرته الدائمة ، وكانت تنتهي احيانا ، وحينما يكون مزاجه رائقا، بنوبة كرم يوزع خلالها بعض السكاير او يفسح في المجال لمن يريد الذهاب الى المراحيض، او و غالبا,بأن يخرج احدهم عاريا وينهال عليه بالضرب المبرح ليفرغ جام غضبه.
اطل " الارعن" بوجه طافح بالبشر يتبعه عدد من الحرس وهم يحملون " الصواني " فشت في الهواء رائحة شواء حقيقة يرافقها شذى حريف لتوابل ومخللات ، لم نصدق اعيننا ، ونحن نرى "الصواني " تنزل الى الارض مكتضة بالكباب وقطع من الدجاج المشوي والخبز والمخللات كان من الواضح انها بقايا وليمة عامرة او شيء منها ، اية لعبة يبغون ممارستها؟ هتف "الارعن": هلموا .. كلوا ..انكم لاشرف من اولاد المتعة والزنا اولائك
هيا .. هلموا! كانت عروقنا متيبسة وكانت نفوسنا تعاف اي شيء ، تحدث "الارعن" هل سمعتم صراخهم؟ الكلاب .. سويناهم مثل الحريم.. اولاد القحبة .. ذهبنا بهم صباحا الى الحمامات لينظفوا من اوساخهم .. ولكن هل ينظفوا؟.. ابدا والله انك تكسر عظم العجمي فلا تجد الا الخراء..
عاد بعد دقائق ، امر الحرس ان يفتح الباب ويسمح لمن يريد ان يقضي حاجته بالخروج ، ولكنه خنق انبساطة اساريره كأنه لايريد لها الانفلات وتوّعد: بسرعة ولا يتبطرن احد ، مثل هؤلاء الانجاس، حلقنا لهم ، وغسلنا لهم السجن ، ووزعنا عليهم الشراشف البيضاء ليضعوها على افرشتهم القذرة وجئنا لهم بغداء من الكباب والدجاج كما ترون ، قلنا خطية .. صغار.. ، قلنا لهم اليوم سيأتي الصليب الاحمر ، كل ماعليكم هو ان تطلبوا اللجوءوتعلنوا عدم رغبتكم في العودة وتذكروا المعاملة الكريمة ولكنهم عملوا بأصلهم وردوا الصنيع بأن اعلنوا الاضراب عن الطعام على مرأى من رجال الصليب الاحمر بل وزادوا بالقول ان كل ذلك هراء وزيف وان المعاملة الكريمة لم يلقوها الا اليوم ، حسنا اين سيذهبون ، هل سيحميهم الصليب الاحمر، سيشبعون معاملة كريمة ، وستسمعون كل يوم ماسمعتم. غامت صورته في ناظري ولم اعد اسمع الاّ غمغمات لامعنى لها او شضاياا كلمات مبهمة ، وسرح فكري باتجاه الصليب الاحمر ، لماذا لا يعثرون علينا ونحن في غرفة مجاورة؟!


*منهل النائب: من الموصل ، ماجستير علوم وملازم احتياط ، التقيته في موقف الاستخبارات العسكرية العامة ، في قضية مشابهة ، تنظيم سياسي معادي.
**عمار...: من بغداد ، مهندس وجندي مكلف ، تنظيمات اسلامية.
*** عادل تركي: بغداد / الديوانية ، ادب انكليزي ، التحق عام 1986با نصار الحزب الشيوعي العراقي في كردستان ، ثم ضاع مصيره منذ 1991بين هؤلاء والاتحاد الوطني الكردستاني .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية