الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي

فيصل القاسم

2004 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


تقول إحدى النكات العربية إن أحد أبناء الزعماء العرب ذهب بعد وفاة والده إلى رجل دين كي يسأله عما إذا كان بإمكانه من الناحية الشرعية أن يحل محل أبيه في حكم البلد، فأجابه رجل الدين: "بالطبع لا يا بني. ألم تسمع بالقاعدة الشرعية التي تحّرم أن يتزوج الابن أرملة أبيه؟" وربما قد أصاب الرجل كبد الحقيقة عندما شبه العلاقة بين بعض الحكام العرب وبلدانهم بالعلاقة بين الزوج والزوجة. والدليل على ذلك أن الشعوب، التي تأخذ في هذه الحالة دور الأبناء، تبدأ باللطم والعويل والصراخ والنحيب عندما يموت الأب القائد. وقد شاهدنا على مدى الأعوام الماضية كيف أن بعض الشعوب العربية شعرت بنوع من اليتم لرحيل هذا الزعيم أو ذاك. وهذا طبعاً لا يعبر بأي حال من الأحوال عن عمق العلاقة بين الحاكم (الأب) والأبناء (الشعب) بقدر ما يعبر عن نظام حكم لا مؤسساتي، متخلف، جاهلي، أبوي، بائد، لا يمت إلى العصر بصلة ولم يعد موجوداً حتى في مجاهل أفريقيا، فالزواج الحاصل بين الحاكم والوطن ليس طبيعياً ولا طوعياً ولا شرعياً بل،كما هو معلوم للجميع، قسري بامتياز، أو بالأحرى أشبه بالاغتصاب.

كلنا يعرف أن الانسان العربي محكوم عليه بمعاصرة زعيم واحد أو اثنين على الأكثر خلال حياته حتى وإن تجاوزعمر المواطن التسعين عاماً، فهو يولد على وقع خطابات الزعيم ويتزوج وينجب أطفالاً وربما يزوج أبناءه وما يزال الزعيم حاكماً حتى لو كان على فراش الموت غير قادر على التحكم بوظائفه الفيزيولوجية أو فاقد الوعي منذ سنين. لا عجب أن تهكم أحدهم ساخراً ذات مرة: "إن الأناس الوحيدين الذين لا يطلــّقون زوجاتهم (الأوطان) هم الحكام العرب، فهم، من شدة ورعهم، يؤمنون بقوة أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله". وبما أن الحاكم العربي يتشبث بأهداب زوجته (الوطن) إلى الرمق الأخير فمن الطبيعي أن يشعر أبناءه (الشعب) بالفراغ والحيرة والضياع والخوف عند رحيله بعد طول حكم وطغيان.

هل كان الشعب الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو الياباني سيندب حظه ويبكي بطريقة هستيرية على رؤسائه فيما لو رحلوا إلى الرفيق الأعلى؟ بالطبع لا، لأن الشعوب التي تحترم نفسها تغير زعماءها وحكوماتها كما تغير ساعاتها إن لم نقل ملابسها. وكم مات رؤساء غربيون بلا ضجة تـُذكر دون أن يسمع بموتهم أحد. ولو أن زعيماً غربياً طال أمده في الحكم فلا يزيد عن عقد ونصف من الزمن وهو رقم قياسي بالمقاييس الديموقراطية كما حصل للمستشار الألماني هيلموت كول أو رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر. فالزعيم في الديموقراطيات المحترمة ليس "خالداً" لأن الخلود يقرره التاريخ وليس أبواق النظام وأزلامه كما أنه ليس أباً للجميع ولا زوجاً للوطن ولا الكل بالكل ولا "محقان" الذي يكبّسل الأوطان في شخصه كما وصفه أحد الشعراء أو يشخصن نظام الحكم على مبدأ "أنا الوطن والوطن أنا" ولا يمسك بزمام الأمور من شراء (البسطار) إلى تعيين الطيار ولا يحكم من قبره إذا مات، وإنما هو عزقة في آلة كبرى اسمها الدولة ويمكن استبداله بسهولة فائقة بلمح البصر إذا حدث له مكروه أو أصبح عاجزاً عن العمل لأي سبب من الأسباب أو خطف عزرائيل روحه. وما أكثر العزقات في البلدان الديموقراطية!

عندما يموت زعيم غربي يجد شعبه آلاف الأشخاص الأكفـّاء كي يحلوا محله دون عناء ولا جلبة. ولا تحدث أزمات ولا خلافات ولا يستنفر الجيش وأجهزة الأمن ولا يصبح مصير البلاد على كف عفريت لمجرد أن حاكمها قد رحل عن وجه هذه الدنيا بسبب تقدمه في العمر. أما عندنا نحن العرب فتدخل البلاد والعباد في نفق مظلم ويضع كل إنسان يده على قلبه ويتوسل إلى الله أن يخرج البلد من محنة فقد الزعيم الذي ظن يوماً أنه سيكون أبدياً. كيف لا وقد قام سيادته أو فخامته أو جلالته على مدى سنوات حكمه الطويلة بعملية إخصاء عنيفة ومنظمة لكل من فكر يوماً بأن ينافسه على الحكم كي يكون هو الفحل الوحيد في الدولة، ناهيك عن أن الزعيم العربي يعمد عادة إلى شن حروب استباقية شعواء ضد أي طامح بالزعامة حتى بعد خمسين عاماً وذلك على طريقة الملك هيرود. فكلنا يعرف قصة ملك اليهود الذي ما أن روى له أحدهم بأن إحدى النساء ستضع مولوداً (السيد المسيح) قد يصبح في المستقبل حاكم البلاد حتى راح هيرود يبقر بطون كل النساء الحوامل في بلده على مبدأ "أتغدى بهم قبل أن يتعشوا بي". ومخطىء من يظن أن سياسة الملك هيرود قد أصبحت شيئاً من الماضي، فهي حية ترزق في بلادنا العربية وإن كانت تـُمارس بشكل مختلف، لابل إنه تقليد سياسي عربي راسخ ضد المعارضين. واستميح مجمعات اللغة العربية عذراً لأسمي ذلك التقليد "بالهيرودية" العربية .

وقد صور أحد رسامي الكاريكاتير العرب تلك السياسة الاستئصالية الاحتكارية عندما رسم صورة لحاكم عربي وهو يحمل في يده مصباحاً كهربائياً يضيئه فوق من يشاء من مساعديه لسويعات إذا كان راضياً عنه ويطفئه حينما يغضب عليه. بعبارة أخرى فإن الحاكم العربي لا يسمح لأحد أن ينافسه على بقعة الضوء، فهو الوحيد الذي يجب أن تـُسلط عليه الأضواء. وكل من يفكر بمنافسته فهو ملعون مطعون إلى يوم الدين. وقد لاحظنا أن بعض الزعماء العرب يرفض حتى فكرة أن يكون له نائب ينوب عنه في تسيير أمور الدولة إذا مرض أو كان مشغولاً بقضايا عاجلة. وقد تحجج بعض الزعماء بأنه لم يجد الشخص المناسب في طول البلاد وعرضها كي يكون نائباً له!! وحتى إن تكرم بعضهم وعين لنفسه نائباً فيكون نكرة أو ضعيف الشخصية أو لا محل له من الإعراب السياسي إلا ربما في محل مجرور بحيث يُجَر ولا يَجُر. لهذا السبب تحديداً ليس لدينا قادة أقوياء يمكن أن يحلوا محل الزعيم الأوحد عندما يموت لأن "القائد" العربي يعمل منذ البداية على إحاطة نفسه بمجموعة من المواليين من وزن الريشة الذين لا يتمتعون بأي شعبية أو هيبة، وهو يحاول أن يضمن دائماً أن لا يكون هناك من يخلفه حتى بعد مماته، شأنه في ذلك شأن كل الطغاة.

ومن سخرية القدر أن أبواق الإعلام الرسمي العربي كانت تصور لنا ذلك النوع من الزعماء زوراً وبهتاناً على أنهم "قادة تاريخيون". وبدلاً من تجريمهم وفضحهم على تجميع كل السلطات في أيديهم وشل الحياة السياسية في البلاد وشخصنة الدولة كان الكثير من الكتاب العرب يتغنى بأمجادهم وبطولاتهم الفارغة كما لو أن الزمان لن يجود علينا بأمثالهم. وقد كنت ذات يوم شاهداً على لقاء بين كاتب عربي وصحفي غربي دار حول تلك النوعية من الزعماء العرب. فقد تفاخر الكاتب العربي بأن لدينا قادة كارزميين عظاماً عز مثيلهم، فرد عليه الصحفي الغربي ساخراً: " نحن ومن حسن الحظ ليس لدينا هذا النوع من الحكام "التاريخيين" الذين أصبح بعضهم تاريخيين لمجرد أنهم جثموا على صدوركم ردحاً أو "تاريخاً" طويلاً من الزمن، لكن لدينا القدرة أن نفرز ألف قائد ليحل محل زعمائنا عندما يتوفون لأن بلادنا ليست مختصرة في شخص سيادته أو فخامته أو جلالته. أما أنتم يا عرب فمشكلتكم أن "زعماءكم التاريخيين" يعملون بمبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان" أو "إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ". وقد يعتبر بعضكم أيها العرب المهوسون "بالقائد الرمز أو الضروروة أو الملهم" أن الجيل الجديد من الزعماء ليس بكارزمية وفخامة الجيل القديم. وهذا صحيح، لكن فقط لأن وسائل إعلامكم لم تأخذ بعد الوقت الكافي من الكذب والتزييف والتلفيق كي تصنع منهم "قادة تاريخيين". ولو كنتم تفقهون أيها العرب لحمدتم ربكم لأنكم تخلصتم من "القادة الأفذاذ" الذين أوصلوكم إلى ما أنتم عليه من عز وكرامة وسؤدود وحرية. أليست العبرة دائماً بالنتائج يا صديقي؟" يتساءل الصحفي الغربي. لكن الكاتب العربي حاول أن يدحض نظرية الصحفي بأن الطوفان لم يأت دائماً بعد رحيل "قادتنا العظام"، فأجابه الصحفي الغربي:


"الطوفان يا صديقي فعلا ً لم يأت في أحيان كثيرة لحسن الحظ بعد رحيل هذا "الزعيم التاريخي المزعوم" أو ذاك، لكن ليس لأنه خلف وراءه مؤسسات تستطيع أن تدير الدولة في حال غيابه، بل لأنه يكون قد ورّث "القيادة التاريخية" لنظام مشابه أو لذريته أو حاشيته "الميمونة" التي (تتزوج البلاد) من بعده وربما تصبح "تاريخية" أتوماتيكياً. لا أحد يستطيع أن يضاهيكم أيها العرب ، فأنتم لا تورثون القيادة لأبنائكم وأحفادكم فقط، بل تورثون لهم التاريخ معها، فحتى التاريخ يصبح ملكاً "للقائد البطل" وعشيرته عندكم. ومن يدري فقد يلجأ قادتكم التاريخيون إلى استنساخ أنفسهم بحيث يسودون مدى الدهر ويصبحون "قادة خالدين".(انتهى كلام الصحفي الغربي).

وكي لا يعتقد البعض أنني أحاول التقليل من أهمية الإنسان الفرد في صنع التاريخ أريد أن أؤكد أنني من المؤيدين لنظرية المفكر االبريطاني الشهير توماس كارلايل الذي يؤمن بأن التاريخ من صنع الأبطال والمتميزين والأفذاذ، لا بل هناك قادة تاريخيون فعلاً. ولا أتفق مع النظرية الماركسية التي تعزو التحولات التاريخية إلى قوة الجماهير وحركتها. فالجماهير ليست أكثر من قطعان تـُساق في كثير من الأحيان كما صورها غوستاف لوبون، وكم كان ماركس مخطئاً عندما قال: "إن الشعب الفرنسي هو الذي أنتج نابليون لإنجاز مهمة محددة في فترة زمنية محددة، ولو لم يكن نابليون موجوداً لأنجب الفرنسيون ألف نابليون غيره". هذا غير صحيح أبداً، فنابليون كغيره من العظام قائد فذ، وبالتالي لا أحد يستطيع أن ينتقص من قيمة وعظمة بعض الزعماء العرب الذين رحلوا عنا بعد أن تركوا بصماتهم على التاريخ العربي الحديث والذين كان لهم فضل هائل لا يستطيع أحد أن ينكره على بلدانهم وشعوبهم، لكن المشكلة أن بعض هذا النوع من "القادة التاريخيين" العرب، وليس كلهم كي نكون منصفين، لم يكتفوا بما حققوه لأوطانهم من انجازات كبرى وعظيمة في مرحلة معينة، بل إن معظمهم أراد أن يحتكر التاريخ والحاضر والمستقبل، كما لو أن التاريخ لم ولن ينجب مثلهم، مما جعل الشعوب العربية تلعن الساعة التي سمعت فيها بمصطلح "القائد التاريخي" الذي، للأسف الشديد، تحول إلى بزنس سياسي مفضوح وغدا، في بعض الأحيان، الاسم الكودي للفساد والطغيان والاستبداد والديكتاتورية والاحتكار والاستئثار والتخريب والنهب والسلب. أليس من حق الإنسان العربي بعد كل ذلك أن يكفر ببعض"قياداتنا التاريخية العتيدة"؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قال الرئيس الفرنسي ماكرون عن اعتراف بلاده بالدولة الفلس


.. الجزائر ستقدم مشروع قرار صارم لوقف -القتل في رفح-




.. مجلس النواب الفرنسي يعلق عضوية نائب رفع العلم الفلسطيني خلال


.. واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في سياستنا ودعمنا العسكري لإسرائيل




.. ذا غارديان.. رئيس الموساد السابق هدد المدعية العامة السابقة