الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية الاميركية: أسطورة الزمن المعاصر (قراءة الكذبة من خلال الوثائق الاساسية)

مسعد عربيد

2011 / 8 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مقدمة
في خطابه يوم 19 مايو / ايار 2011 طالب الرئيس الاميركي اوباما نظيره السوري الرئيس الاسد قائلا ان عليه "ان يقود الانتقال الى الديمقراطية" او "ان يبتعد عن الطريق".
يثير تصريح اوباما هذا مجموعة من الاسئلة ليس أقلها: من اين يتأتى لرئيس دولة تدّعي الديمقراطية ان يخاطب رئيس دولة اخرى ذات سيادة وطنية على هذا النحو المارق والبلطجي؟ ما هي مصادر القوة التي يتسلح بها اوباما وما هي منابع مثل هذه المواقف؟
هل تكمن الاسباب في ظاهرة "الولايات المتحدة الاميركية" وما أوتيت به من قوة عسكرية طاغية وهيمنة إقتصادية لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لهما؟ أم تُرى هي عولمة راس المال وهيمنته على هذا الكون ونهبه لمقدرات الشعوب ومواردها وعدوانية الامبريالية الاميركية المنفلته منذ عقود بلا رادع لتطال ما تشاء ومَنْ تشاء؟ فمن يستطيع اليوم أن يعصي أوامر السيد الاميركي؟ لا أحد بالطبع.
هل هي العنجهية الاميركية والفوقية الاوروبية البيضاء، وإن أتت هذه المرة على لسان رئيس اسود ـ ابيض؟
كلها بلا شك تشكّل جزءاً كبيراً من الاجابة وليس من العسير العثور عليها في تاريخ الولايات المتحدة وخطابها السياسي والاعلامي.
إلاّ ان ما نود ان نعالجه في هذه المقالة هو ما يبدو مبطناً في عبارة اوباما هذه والذي أضحى من "المسلمات" المعولمة، وهو الافتراض "غير القابل للجدل" بان اوباما ديمقراطي، وبانه رئيس بلد ديمقراطي بل هو نبراس الديمقراطية وزعيم "العالم الحر"، على خلاف نظيره السوري. وهو ما يفضي الى الفرضية بان سوريا تقبع في ظلام "القمع والديكتاتورية" في حين تنعم اميركا بالحرية والديمقراطية. وسوف نتناول تفكيك هذه الفرضية ـ الكذبة المسماة "الديمقراطية الاميركية"، او كما يحلو للبعض ان يسميها "اميركا الديمقراطية"، من خلال قراءة نقدية للوثيقة الاساسية التي قامت عليها الدولة الاميركية: الدستور.
قد يتسائل القارئ لماذا العودة الى قراءة التاريخ الاميركي ومراجعة وقائع مضى عليها ما ينوف على قرنين من الزمن؟ والحقيقة ان قراءة التاريخ لا تهدف الى إستنطاقه او اعادة كتابته على نحو أجمل، فهذا كله غير ممكن. الا انه، في الآن ذاته، لا يمكن فهم الحاضر الاميركي دون العودة الى جذور المفاهيم التي ما زالت سائدة اليوم، وإن كان الظاهر الاميركي قادراً على إخفاء الحقيقة وتقديمها للملأ بخطاب أنيق ولبوس قانونية و"ديمقراطية" ومفردات جميلة. القصد إذاً هو الافادة من عبر التاريخ من اجل فهم البناء الاجتماعي ـ الاقتصادي للنظام الاميركي القائم والذي غدا يهدد مستقبل المجتمع الاميركي ذاته والانسانية جمعاء.
(1)
ثنائية الديمقراطية والراسمالية
ما زال منظرو العولمة الراسمالية يكررون المقولات ذاتها التي روجوا لها خلال حقبة الحرب الباردة والصراع بين معسكري الراسمالية والاشتراكية، والتي تقوم على ادعاءات أضحت، من منظورهم، مسلمات غير قابلة للنقاش مفادها ان الراسمالية (والعولمة الراسمالية) والديمقراطية "توأمان" ووجهان لعملة واحدة. والواقع انه ليس هناك ما هو ابعد من هذا عن الحقيقة.
فاذا كانت الديمقراطية في ابسط مبادئها ومعانيها تعني حكم الشعب والمساواة بين الناس فانها في هذا تتناقض جوهرياً وتناحرياً مع الراسمالية التي تقوم على هيمنة الطبقة الغنية (هيمنة القلة) ـ المالكة لوسائل الانتاج والمتحكمة بالاقتصاد والمسيطرة على موارد المجتمع وخيراته ـ واستغلال الطبقات والفئات الاجتماعية الاخرى (الاغلبية الشعبية). هكذا تضمن الطبقة الراسمالية الحفاظ على مصالحها وديمومة ارباحها. فالاساس في الراسمالية هو الربح الناتج عن استغلال شغل الآخرين. وعليه، فالراسمالية في الجوهر رديف للعبودية وإستعباد الآخرين واستغلالهم، وبهذا فهي نقيض للديمقراطية وحكم الشعب. الديمقراطية تعني المساواة بين الناس وحقوقهم ومشاركتهم في صنع القرار وتساويهم في توزيع الثروات والخيرات، في حين ان الراسمالية هي عين النقيض: إستغلال الناس من اجل الربح ومراكمة راس المال وزيادة فعالية وانتاجية (اي استغلال) الطبقات العاملة والمضطَهدة من اجل زيادة الربح والتراكم الراسمالي والتحكم بتوزيع الثروات.
قد تبدو هذه التناقضات السحيقة بين الديمقراطية والراسمالية منطقية وواضحة للعيان، إلا ان الخطاب الراسمالي الغربي قد نجح الى حدٍ كبير في تمويهها والدمج بين النقيضين ـ الراسمالية والديمقراطية ـ وإقامة الرابطة بينهما وكأنهما مقولة واحدة او معادلة من شقين. ولم يكن هذا الدمج محض طفرة تاريخية ـ اجتماعية ولا مجرد مصادفة بل كان نتاج عملية اجتماعية وتاريخية طويلة تعود في اصولها الى تطورات تاريخية مفصلية وهامة. ونكتفي هنا بذكر محطتين رئيسيتين للتدليل على السياق الذي اكتملت فيه هذه الثنائية المتضادة، "الراسمالية ـ الديمقراطية"والتي إستثمرها الغرب الراسمالي وعولمها على أوسع نطاق:
1) ازمة الاقطاعية في اوروبا وما عاشته المجتمعات الاوروبية من مخاض وولادة البرجوازية التي قضت على الاقطاعية واقامت النظام الراسمالي على انقاضها. ومن هنا اتخذت الثورة البرجوازية دلالات التقدمية والديمقراطية والتحررية.
2) تطورات القرن العشرين الذي شهد تحولات تاريخية وسياسية عميقة أدت الى تركيز هذه المقولة ـ الكذبة: ثنائية "الراسمالية ـ الديمقراطية". فمنذ نهاية الحرب الامبريالية الاولى (1914 ـ 1918) التي أودت باربع امبراطوريات (العثمانية والروسية والنمساوية ـ الهنغارية والالمانية) وجاءت بانتصار الثورة البلشفية في روسيا، أقام الخطاب الراسمالي الغربي الرابطة الوثيقة بين الراسمالية من جهة، والديمقراطية من جهة اخرى. وقد وصلت هذه المقولة ذروتها في أعقاب الحرب الامبريالية الثانية (1939 ـ 1945) وهزيمة النازية والفاشية والتي لعب الاتحاد السوفييتي في دحرها دوراً حاسماً وبكلفة هائلة تفوق خمسة وعشرين مليوناً من أبنائه. والحقيقة التي ما زال الغرب الراسمالي يعمل جاهداً على تغييبها هي ان تلك الهزيمة لم تكن ممكنة لولا البلاء العسكري السوفييتي وتضحيات وكفاح الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي والبلدان التي اصبحت تُعرف لاحقاً بالمنظومة الاشتركية. وبالرغم من ذلك، إختطف الغرب الراسمالي دحر النازية والفاشية ونسب الى نفسه الفضل في "إنتصار الديمقراطية". ومع صعود الاتحاد السوفييتي كقوة صناعية وعسكرية كبرى واحتلالها موقع القوة العظمى على المستويات المحلية والاقليمية والدولية، أخذ المعسكر الاشتراكي ينافس الغرب الراسمالي بزعامة الولايات المتحدة ويضاهيه في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية. هكذا تم إستقطاب العالم بين هذين المعسكرين المتصارعين على مدى عقود الحرب الباردة.
في هذا السياق نجح الغرب الراسمالي بتكريس خطاب اعلامي وايديولوجي اتسم بالذكاء والديناميكية ليثبت مقولة انه يمثل الديمقراطية و"العالم الحر" في حين كان المعسكر الاشتراكي رمزاً للاستبداد والدكتاتورية، واصبحت ثنائية الراسمالية ـ الديمقراطية مقابل الشيوعية ـ الاستبداد هي المعادلة التي حكمت العالم خلال حقبة الحرب الباردة و"السياسة الرسمية" للغرب الراسمالي وخطابه الاعلامي والايديولوجي والدعائي السائد. منذ تلك الآونة أخذنا نعيش صراعاً محتدماً انشق العالم من حوله الى قسمين ـ قطبين متنازعين وصفه الغرب، إمعاناً بالبروباغندا، بصراع "العالم الحر" والديمقراطي وعاصمته واشنطن، مع العدو المتمثل بالخطر الشيوعي والانظمة الديكتاتورية الاستبدادية وعاصمته موسكو.
ومع إعتلاء الامبريالية الاميركية لزعامة الغرب الراسمالي في اعقاب الحرب الامبريالية الثانية وخصوصاً في العقدين الاخيرين، شكلت مقولة وصراع الديمقراطية والاستبدادبة، الذريعة والغطاء السياسي والايديولوحي لتدخل الغرب الراسمالي وعلى راسه الامبريالية الاميركية "لدعم" وترسيخ العديد من الانظمة القمعية والدكتاتورية وخصوصاً في بلادنا وبلدان العالم الثالث واصبحت هذه الانظمة مؤيدة وتابعة للراسمالية الاميريكية ومعتمدة عليها في بقائها وحماية مصالحها، وأضحت أداة لعولمة هيمنتها وسيطرتها على موارد الشعوب ونهب ثرواتهم. هكذا سادت معادلة العلاقات بين العالم الاول (الذي إنتحل لنفسه لقب "العالم الحر") والعالم الثاني (والذي تمثل بالاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية المتحالفة في حلف وارسو) والعالم الثالث الذي ضم جلّ الانسانية في بلدان آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. وتحت غطاء ايديولوجية الديمقراطية وموالاة "العالم الحر" والتبعية السياسية والاقتصادية للغرب الراسمالي وما تدّعيه من ديمقراطية وحقوق الانسان والحريات الفردية والحقوق المدنية والدستورية، اصبحت هذه الدول والانظمة التابعة خاضعة، في الجوهر، لإمرة الشركات الراسمالية الكبرى وسطوتها المالية وأداة طيّعة في خدمة مصالحها وقد استمرت هذه الحالة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة وما زالت قائمة حتى يومنا هذا.
والحقيقة ان تبريرالعولمة الراسمالية ـ تحت اسم وغطاء الديمقراطية والقبول بمبادئها وتبني الانظمة والمجتمعات لسياساتها والدفاع عنها خصوصاً في بلادنا وبلدان العالم الثالث ـ لا تقل بشاعة وبطشاً وتدميراً عن الاستغلال والنهب الاقتصادي الذي تقترفه العولمة ضد شعوب العالم. فالعولمة وهمجيتها التي اصبحت سمة العصر لم تكن يوماً خيار الشعوب او إختياراً شعبياً ديمقراطياً بقدر ما كانت عملية بلطجة ونهب اقتصادية تقودها استراتيجية الاستغلال والربح الراسمالي.
أما خطورة هذه الادعاءات وديمومتها في مجتمعات الغرب الراسمالي، فتتجلى فيما يسمى ب"القيم الديمقراطية"، حيث تستخدم النخبة السياسية الاميركية والغربية على وجه العموم مفردة "ديمقراطية" على نحو خبيث وتربطها، كما اشرنا، بالنظام الراسمالي وطبيعته ومكوناته وتوسعه في العالم من اجل "نشر هذه القيم" ومحاربة "الخطر الشيوعي" سابقاً ومن بعده "الارهاب الاسلامي" ومستقبلاً أي عدو متحرك ومتغير حسب الحاجة.
(2)
فهم الاميركيين لدستورهم
الدستور بين النقد والتقديس
يتلقن الاميركيون منذ نعومة اظفارهم وسنوات نشأتهم المبكرة ان بلدهم يقوم على دستور يعبّر عن تطلعاتهم في الحرية والديمقراطية والمساواة. وليس من المستغرب ان تسمع او تقرأ ان الدستور الاميركي كان "الوثيقة الاكثر عمقاً وأثراً في تأكيد سلطة الشعب وحقوقه" لا في تاريخ اميركا لوحدها بل في التاريخ البشري، وهناك من يضيف بانه (اي الدستور) هو الوثيقة التي لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها. وقد ذهب احدهم الى حد القول بان "الدستور الاميركي هو ذروة التعبير عن ايديولوجية الثورة الاميركية" وبهذا المعنى، يضيف الكاتب، اصبح الدستور خلال القرنين الماضيين موضوعاً للجدل والنقد "اكثر من اي وثيقة اخرى باستثناء الانجيل". ويرتكز هذا الفهم للدستور الاميركي على إدعاءات تقول انه:
1) ينص على حكومة تمثيلية تمثل الشعب الذي يقوم بانتخابها، وان هذه الحكومة تخضع للشفافية والمحاسبة من اجل ضمانة تمثيلها لحقوق الشعب ومصالحه.
2) انه ـ اي الدستور ـ ضمن للاميركي الحقوق الاساسية مثل حق التعبير والتجمع وحرية الاديان.
3) كما انه لعب دوراً حاسماً في فصل الدين عن الدولة في مرحلة مبكرة من نشأة الدولة الاميركية وألغى الانتماء الديني كشرط للترشيح لمنصب حكومي او سياسي معين.
وعليه فالدستور الاميركي وفق هذه الاسطورة "يجسد سلطة الشعب ويعزز روح الامة". ولعل السؤال الذي لا مفر منه هو اذا كانت هذه الوثيقة على هذا القدر من المثالية والكمال، فلماذا يا تُرى نرى الملايين من الاميركيين يعانون صنوف الفقر والجوع والمرض، ولماذا يقبع ما يفوق على مليونين منهم في السجون؟
لقد رفعت الطبقة الحاكمة والنظام السياسي الاميركي مقام الدستور الاميركي وادعاءات الديمقراطية والحرية ـ عبر وسائل البروباغندا والتلقين الاعلامي والسياسي والايديولوجي ـ الى مصافي القداسة. فالتقديس هو أنجع الوسائل في التعتيم على النقد والتشكيك! وكثيراً ما خدم هذا المنحى الطبقة الحاكمة في تأمين الدعم اللازم لتحقيق اهدافها السياسية. إذ من دون التقديس للدستور واعلان الاستقلال كوثيقتين اساسيتين في الديمقراطية الاميركية ورفع مؤلفيها الى مصافي "الاباء المؤسيسن"، فانه يظل بين صفوف الشعب الكثيرون من المترددين والمشككين. ولهذه الاسباب، عمد مؤلفو الدستور الذين كانوا الاكثر ثقافة وعلماً في زمنهم، الى تغليف الدستور باسرار الاسطورة وألغاز غيبية وحتى دينية، إذ رأوا في ذلك ضرورة موضوعية لحصد الفوائد المتوخاة وتحقيق مصالحهم. لهذا كله، استحق هؤلاء ـ كما يعلمنا المؤرخون الاميركيون ـ بجدارة لقب "الآباء المؤسسين"، لما تألقوا به من حكمة ونبوغ وحنكة في ادارة شؤون البلاد. اما تمسكهم ورعايتهم لمصالح طبقة الاغنياء وكبار الملاكين فقد تم رفعها الى مقام "الوطنية المتفانية". ومع تقادم المجتمع الاميركي وتطرفه في التدين وتنامي التيارات الدينية فيه، لم يعد من المستغرب ان نسمع من يصف الاباء المؤسسين خلال صياغة الدستور بانهم تلقوا "وحيا إلهياً".
الدستور وتجميل الواقع القبيح
لعله من اهم مفارقات واشكاليات الدستور الاميركي وطريقة تأثيره على الذهنية الاميركية انه يقدم صورة للواقع الاميركي، الا ان هذه الصورة او التصور تفرض، من خلال احتكار الدولة (الطبقة المهمنة) لآليات التلقين السياسي والايديولوجي والعنف السلطوي، على المواطنين ان يتصرفوا او يتكلموا كما لو كان هذا الواقع حقيقة قائمة. وفي هذه الحالة فان يتصرف المواطن وكأنه حقاً يعيش في مجتمع يحكمه القانون (دولة القانون)، وكأن فرص المساواة والعدالة متوفرة للجميع، وان حريات الفرد مضمونة، وان الدولة "حيادية"، وكلها مبادىء ينص عليها الدستور ويؤكدها. وحين يتصرف المواطن وكأن هذه المبادىء حقيقية وقائمة فعلاً وليست صورية فقط فان هذا من شأنه ان يحبطه ويعيق فهمه للواقع الفعلي والنظام القائم ويعطل قدرته على ادراك ان ما يقدم له هو تصوير زائف للواقع. فالواقع الفعلي في اميركا لا يسير وفق مبادىء الدستور ومقتضياته. وعليه، فالامر يصبح أكثر تعقيدا إذ تغدو وظيفة هذه المثل العليا التي خطها الاباء المؤسسون في الدستور هي تزييف حقيقة الواقع القائم وطمسها من خلال الخداع والكذب والخلط بين "ما هو قانوني" قولاً او نظرياً (كما هو في الدستور) وبين ما هو "قائم في الواقع الفعلي"، وبين ما يسمح به القانون وبين ما هو ممكن ومتاح فعلياً في المجتمع.
هنا تتجلى الاشكالية بوضوح: إذ تصبح القيم العليا للانسان والمجتمع هي نفسها الحاجز الذي يعيق تحقيقها وتطبيق ما "تطالب" به او ما تدّعي انها تطالب به. والمقصود هنا هو انه حين تتم تنشئة الفرد وصياغة وعيه وآليات فهمه وحثه دوماً على ان يتعامل مع المثالي (او المثل العليا) وكأنها توصيف صادق للواقع القائم، عندها تصبح هذه المثل العائق امام فهم الواقع الفعلي فهماً موضوعياً، وتصبح أداة لتدمير ادراك الفرد ووعيه وقدرته على فهم الواقع من حوله. فعلى سبيل المثال، والمشهد الاميركي حافل بأمثلة كثيرة مشابهة، عندما يردد الاميركي (ويتم تشجيعه باستمرار على تكرار ذلك) بان مجتمعه حر وديمقراطي يحكمه القانون والعدالة، في حين ان كل ما هو حوله يشي بالظلم والغبن والقمع وغياب العدالة، فان مُثل الحرية والديمقراطية والعدالة تصبح العائق امام تحقيقها ويقع المواطن في لعبة المفردات والاوهام والتوصيفات الكاذبة. هكذا يتم تزييف الواقع الفعلي في عقل الاميركي اولا ومن ثَمّ يتم تشويه رؤيته فيستعصي عليه فهم حقيقة الواقع الفعلي وتختلط عليه الامور فيستحيل تلمس السبيل الى تحديد المشاكل والمسؤوليات والحلول.
الدستور: بين السرية والديمقراطية
كان هاجس المشاركة الشعبية هو السبب في دفع مؤلفي الدستور الاميركي الى العمل بسرية وان تبقى صياغة الدستور والجدل في مسوداته سراً مغلقاً لا تشارك فيه جموع الشعب. ففي صيف عام 1787 قضى مؤلفو الدستور المجتمعين في مدينة فيلادلفيا قرابة ثلاثة اشهر خلف الابواب المغلقة منكبين على صياغة ومناقشة الدستور الاميركي.
ندرة من الاميركيين تعي او تتذكر، ان مؤلفي هذه "الوثيقة الديمقراطية" بذلوا جل حهودهم لابقاء تفاصيل عملهم وحيثيات مناقشتهم في المؤتمر الدستوري (1787) خلال صياغة الدستور في حكم المستور، وان المشاركين في هذا المؤتمر قد أدوا القسم على ان يبقوا كافة النقاشات والمسودات سراً طيلة حياتهم. اما المكلفون بتدوين الملاحظات ووقائع الجلسات فقد تعهدوا بتسليم ملاحظاتهم الى جورج واشنطن، رئيس المؤتمر وأول رئيس للبلاد، الذي عمل على التخلص من هذه الادلة والحيثيات.
(3)
الفهم النقدي للدستور
الجوانب الايجابية والتقدمية للدستور

ليست الغاية من هذا البحث التنكر للجوانب الايجابية والتقدمية التي تضمنها الدستور الاميركي ولا التعامي عن السياق الاجتماعي والتاريخي الذي جاء فيه. فقد كُتب الدستور عام 1787 اي بعد اربعة سنوات من نهاية "الحرب الثورية" ، وفي هذا السياق شكل ضرورة تاريخية وسياسية لتأكيد الاستقلال السياسي عن بريطانيا والسيادة الوطنية للدولة الجديدة ـ الولايات المتحدة وتنظيم احوال المجتمع وترسيخ السلطة الجديدة.
 شكّل الدستور خطوة تقدمية وايجابية من حيث انه قدم وثيقة حكومية مكتوبة وهو ما يعتبر بحد ذاته خطوة متقدمة عن الحكومة الكولونيالية الملكية الاوتوقراطية التي كانت قائمة آنذاك.
 أقام الدستور حكماً جمهورياً أطاح بالكولونيالية الملكية البريطانية وكرس مبدأ انتخاب الرئيس واعضاء الكونغرس. اضافة الى ان الدستور لم يشترط، من الناحية النظرية على الاقل وعلى خلاف انظمة الحكم في انكلترا وغيرها، في تولي المناصب الحكومية والسياسية ان يكون الموظف من اصحاب الاموال او ذو كنية او سلالة معينة، كما انه (الدستور) ألغى نظام النبلاء والقابهم من مؤسسات الدولة والمجتمع.
 فصل الدين عن الدولة ومنع الكونغرس من منح اي سلطة او مؤسسة حكومية صلاحية تقديم الدعم للدين، اي دين كان.
 رسخ الدستور مفهوم "حكم القانون" ومحاكمة المتهم قبل اصدار الحكم عليه.
 طالب الدستور باقرار "قانون الحقوق" Bill of Rights الذي يحمى الحريات الفردية والانسانية قبل التصديق عليه الدستور وكشرط لذلك.
يركز الخطاب الاميركي السائد على ان قيمة الدستور ـ كوثيقة يحتكم اليها الشعب والدولة ومؤسساتها ـ تكمن في ضبط وتنظيم العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات المختلفة، وتنظيم العلاقة بين فروع الحكومة المركزية الثلاثة (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية). ولهذا طغت الجوانب العملية على فهم الدستور بما فيها آليات العمل التي تضمنها كوثيقة لحفظ "التوزان" في البلاد. وقد ادى هذا المنحى في فهم الدستور الى إهمال المفاهيم والفرضيات الاساسية التي قام عليها وخاصة تلك المتعلقة بالاهداف الاقتصادية والاجتماعية التي لم تلق العناية الكافية من حيث التحليل والدراسة والنقد. بعبارة اخرى، يمكننا القول ان التعامل مع الدستور الاميركي يتم، في واقع الامر، على اساس فهم آليات تنفيذ مواده دون فهم معانيه ودلالاته. إلا ان فهم الدستور، من منظور مصالح الشعب وإحتياجاته والبنى اللازمة لتلبيتها، يظل مستعصياً من دون الفهم الشامل للآليات والمعاني معاً. فالمقاربة الاكثر اهمية في نهاية المطاف بالنسبة لحسم القضايا الاجتماعية والسياسية هي تحديداً الموقف من القضايا المعيشية للناس وتلبية حاجاتهم الاساسية الامر الذي يشكل العامل الحاسم في تحديد موقف الشعب. وهنا يستحيل فهم المواقف والخلافات حولها بمجرد التركيز على آليات التنفيذ وابعادها القانونية والشكلية. وعليه، فان السؤال المركزي في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية هو: مَنْ هو المنتفع من هذه المواقف والاجراءات والسياسات؟
الديمقراطية بين الشرعي والمشرّع
من اهم ابعاد ومؤثرات الإرث الذي خلفه الدستور انه نجح في ترتيب الاصطفاف الاجتماعي والطبقي في المجتمع الاميركي من حيث انه حدد كيفية فهم الناس له وقبولهم به كطريقة للتفكير. بعبارة اخرى، ان الجزء الايديولوجي من الدستور هو الجزء الهام وهو الذي خلّف إرثاً ما زلنا نشهد آثاره بعيدة المدى. ومن هذا المنظور، يقدم لنا الدستور وإرثه سرداً برجوازياً وليبرالياً لحكايات جميلة ووهمية حول الحقوق والمسؤوليات والحريات، في حين تقابلها في الواقع المعاش هيمنة طبقية وحشية.
وللتدليل على ما نقصده، نلحظ انه في مواد عديدة من الدستور وما آلت اليه في تطبيقاتها العملية، تم نقل تناقضات العلاقات الاجتماعية وأشكال النضال والفعل الاجتماعي وشرعيتها، من المجال الاخلاقي الى المجال القانوني/الحقوقي ـ بمعنى ان العدالة الاجتماعية (والاقتصادية والعدالة بشكل عام)، يتم تعريفها وتحديد مبادئها وقواعدها لا على اساس ما هو اخلاقي او عادل او انساني او حتى على اساس ما ادركه الانسان عبر تجاربه وتاريخه، بل على اساس ما هو "شرعي" او "قانوني" أي ما "ينص عليه القانون". و"القانون" هنا ما تنطق به الطبقة المهيمنة ومؤسساتها التشريعية والحقوقية وهو ما يعبر عن مصالحها وديمومتها. هكذا اذن يتم نسف الاساس الاخلاقي (الفلسفي) والانساني للصراعات والتناقضات الاجتماعية من اجل إجهاض نضال الطبقات الشعبية المستغَلة وإخماد جذوة الصراع الطبقي المحتدم دوماً في ظل نظام يقوم اساساً على الاستغلال الطبقي (الاقتصادي ـ الاجتماعي) بكل ما يتوفر لديه من آليات البطش والقهر. وبالمدلول السياسي البراغماتي، فان هذا يعني ان النزاعات والتناقضات الطبقية والاجتماعية والسياسية تتحول الى وجهات نظر يبت في شأنها القضاء والمحامون والخبراء القانونيون.
التأسيس لفهم نقدي
بعيداً عن النهج الالي الذي يعتني بالتفاصيل الشكلية على حساب الدلالات الجوهرية، يكون من الاجدى تقديم فهم نقدي للدستور الاميركي من خلال رؤية ترتكز على المحاور الرئيسية التالية:
1) فهم مؤلفي الدستور، كصانعي للوثيقة وتحليل مصالحهم وافكارهم ومواقفهم ورغباتهم، وهذا يشترط تحديد انتمائهم الطبقي والاجتماعي الذي يعبر عن مصالحهم المادية والموضوعية. فالمفاهيم والافكار تنسجم مع الانتماء الطبقي وتنبع منه إذ انه يحدد مصلحة الفرد. وكذلك هو الامر في فهم الدستور الاميركي، فافعال ومواقف واقوال مؤلفيه تظل رطانة سياسة دون قيمة اذا ما نظرنا اليها بعيداً عن مصالحهم الطبقية.
2) تجليس فهم الدستور وتفسيره في اطار نمط الانتاج الراسمالي السائد آنذاك مما يعيننا على فهم الوظيفة السياسية للدستور في إطار تطور المجتمع الراسمالي وهو السياق الذي أنتج الدستور كاحدى الوثائق الاساسية لبناء الدولة الراسمالية الجديدة. فالراسمالية تقوم على التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية ومن هنا فهي لا تحيا منفصلة عن الطبقات والفئات الاجتماعية وتناقضاتها ولا بمعزل عن الصراع بينها والذي يشكل المحور المركزي للنظام الراسمالي. كما ان فهم هذه الطبقات لا يتسنى بمعزل عن حياة الناس واحتياجاتهم ومعاناتهم لانهم هم الذين يشكلون المادة البشرية لهذه الطبقات.
نخلص من هذا الى ان الطبيعة الطبقية لصانعي هذه الوثيقة ومصالحهم، بما هي علاقتهم بوسائل الانتاح، تحتم تجليس مسألة الدستور الاميركي، كوثيقة اساسية للديمقراطية الاميركية، في سياق تطور النظام الراسمالي وشموليته.
3) التأكيد على دور العمل والطبقات العاملة وإعادة الاعتبار لهم لانه لم يكن للراسمالية الاميركية ان تولد ولا ان تبقى على قيد الحياة لولا اغتصاب الارض من اصحابها (الهنود الاصلانيين) وابادتهم ومن دون استغلال الايدي العاملة واستحضارها من افريقيا. وبالمعنى ذاته، فانه لم يكن للراسمالية التجارية المبكرة في اميركا ان تنشأ وتترعرع دون عمل الطبقة العاملة، العمال البيض (الاحرار) والسود (العبيد)، وما كان للطبقات الثرية ان تراكم ثرواتها، وهي الطبقات ذاتها التي تم تمثيلها في المؤتمر الدستوري عام 1787 والتي صاغت الوثيقة التأسيسية (الدستور) للدولة الناشئة ونظام حكمها الجديد وفق مصالحها. ومن هنا ندرك ايضاً ان الدستور ومضمونه الطبقي هو الذي هيأ التربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتطور هذه الطبقات وهيمنتها ونسج التحالفات فيما بينها على اساس المصالح الطبقية الراسمالية المشتركة وهي التحالفات ذاتها التي اوصلتها الى مواقع السلطة والهيمنة الطبقية والسياسية.
4) دور العبودية وتجارة الرق لا من حيث نسبة السكانية للعبيد الافارقة في المجتمع الاميركي آنذاك فحسب (كانوا يشكلون خُمس المجتمع الاميركي و40% من سكان الولايات الجنوبية)، بل من حيث دورهم المركزي كقوة عاملة في بناء الاقتصاد الاميركي (التراكم الراسمالي والراسمالية الاميركية المبكرة).
(4)
الخلفية التاريخية والاجتماعية
الاوضاع في اميركا قبل الاستقلال
قامت بريطانيا بين عامي 1607 و 1733 باستعمار ثلاثة عشر مستعمرة على الساحل الاطلسي لاميركا الشمالية بالاضافة الى مستعمرات اخرى في كندا وغيرها. وقد شكلت هذه المستعمرات الثلاث عشر نواة ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الاميركية والتي تأسست عام 1776 بعد ان اعلنت استقلالها عن بريطانيا العظمى. وقبل المصادقة على الدستور في المؤتمر الدستوري (1787) احتكمت البلاد في ضبط شؤونها وتنظيم احوالها الى وثيقة تدعى Article of Federation. وبالرغم من الادعاء بان الغاية من انعقاد المؤتمر الدستوري كانت "مراجعة" هذه الوثيقة، الا انه كان جلياً منذ البداية ان النية كانت خلق حكومة جديدة بدلا من تعديل او اصلاح الحكومة القائمة.
تميزت الاوضاع التي سادت المجتمع الاميركي الكولونيالي قبل الاستقلال (1776) بفوارق طبقية عميقة بين طبقات وفئات المجتمع، حيث قام اقتصاد المستعمرات البريطانية في اميركا من اجل خدمة مصالح التجار الراسماليين الانكليز وجاءت القواعد والضوابط الاقتصادية والتجارية كي تضمن الارباح الناجمة عن التجارة مع هذه المستعمرات:
 ففي المستعمرات الجنوبية، ما سمي لاحقاً بالولايات الجنوبية (خصوصا ولايات فيرجينيا وجورجيا وكارولاينا الشمالية والجنوبية)، سادت طبقة ملاكي العبيد وأصحاب المزارع الكبرى التي انتجت القطن وزودت به صناع النسيج في بريطانيا.
 اما في المستعمرات الشمالية، فقد كانت الاوضاع الاقتصادية مختلفة حيث ساد اقتصاد التجارة في الموانىء وصناعات المانفكتورة الصغيرة التي قامت في الجوهر على اساس طبقي قوامه راس المال المالك لوسائل الانتاج وشغل فقراء العمال.
خلاصة القول ان اغلب المجمتع الاميركي (السود العبيد والهنود الاصلانيون والخدم وفقراء المزارعين) عاش، على عتبة القرن الثامن عشر، في حالة من الفقر المدقع وعانى من كافة الوان القمع والاضطهاد. أما المرأة، فعلى خلاف الحال في اوروبا، فلم تكن تتمتع باية حقوق سياسية او اجتماعية. لم تمر هذه الاوضاع دون قيام الانتفاضات الشعبية والتظاهرات والمسيرات، فلقد إجتاحت انتفاضات الفقراء على مدى القرن الثامن عشر كافة المستعمرات وثارت الطبقات الشعبية ضد الجوع والفقر والمرض وكافة اشكال الاستغلال وشهدت اميركا بين عام 1676 و 1760 ثمانية عشر انتفاضة من اجل الاطاحة بالحكومة الكولونيالية البريطانية.
وعليه، فالعوامل الرئيسية التي دفعت "بالاغنياء الاميركيين الجدد" للمطالبة بالاستقلال عن العرش البريطاني، تمثلت فيما يلي :
1) رغبة البرجوازية الاميركية الناشئة والنخبة الغنية المحلية في تحويل غضب الفقراء والمضطهدين ضد العرش البريطاني، مما إستدعى خلق وتطوير "وعي وطني" جديد وحس بالوطنية الاميركية.
2) الاحتفاظ بموارد وثروات المستعمرات في السوق الاميركية والابقاء عليها في جيوب النخبة المحلية الاميركية بدل تحويلها الى خزينة العرش البريطاني.
3) مصادرة ممتلكات الموالين للعرش البريطاني واضافتها الى ارباح وثروات الطبقة الحاكمة في الدولة الناشئة.
4) بالاضافة الى هذا، فتح الباب على مصراعيه ودون قيود للعودة الى المزيد من نهب اراضي الهنود الاصلانيين لان الاستقلال عن بريطانيا كان يعني الغاء القوانين والمعاهدات المبرمة بين بريطانيا والهنود الاصلانيين.
وعلى الرغم من تخوف مؤلفي الدستور من مخاطر الديمقراطية الشعبية في ذلك المناخ المحتقن ـ الا انهم رأوا ضرورة ابداء بعض التفهم للشعور الشعبي العام كي يضمنوا إستقرار الحكومة الجديدة. وفي حين كان الحراك الشعبي محفزاً لمؤلفي الدستور لاقامة سلطة مركزية قوية الا انه، في الوقت ذاته، حد من صلاحياتهم. في هذا السياق نستطيع ان نفسر بعض "التنازلات الديمقراطية" التي قدمها صانعو الدستور رضوخاً للضغوط لا حرصا منهم على مصالح الشعب وطبقاته الفقيرة. هكذا اكتملت معادلة التوازنات والصفقات فكانت التنازلات، في جزء منها، مفروضة عليهم خوفاً من هبة الشعب لا قناعة بالديمقراطية او تعزيزاً لها. هكذا اصبح الدستور نظاماً وآلية لمحاصرة مطالب الشعب وقمع الانتفاضات والمطالب الشعبية، وفي الحين ذاته ظل ـ بمواده التي صيغت أساساً لهذا الغرض ـ الدرع الحامي للمصالح الطبقية للبرجوازية الاميركية الناشئة المتمثلة في مصالح كبار ملاك الاراضي والمزارع الكبرى والعبيد، وحرية التجارة والاستثمار والمضاربة دون قيود او حواجز وتوفير الخدمات الحكومية لضمانة هذه المصالح وتوسعها.
(5)
الابعاد الطبقية للدستور الاميركي
غاية الدستور: حكم الشعب ام حكم الطبقة؟
تفيدنا العودة الى الخلفية الاجتماعية والطبقية التي سادت في الفترة التي وُلدت فيها الدولة الاميركية وصياغة الدستور الاميركي، في فهم وتفسير هذه الوثيقة بعيداً عن الرطانة والدجل اللذين يسرف الخطاب الاميركي ـ الغربي في تكرارهما. وسنذكر فيما يلي بعض الحقائق التاريخية التي تشرح لنا حقيقة هذا الدستور الذي حظي بقدر كبير من التعظيم والتقديس في تاريخ اميركا والعالم.
1) ليس صحيحا ان الدستور قد حظي بكل الدعم المزعوم، والحقيقة انه واجه معارضة شديدة من فئات عديدة من المجتمع الاميركي آنذاك، مما حدا بالمؤتمرين ان يعقدوا جلساتهم لكتابة ومناقشة مواد الدستور خلف الابواب المغلقة.
2) على الرغم من الادعاء القائل بان الغاية من المؤتمر الدستوري كانت " تعديل" القوانين التي كانت تحكم البلاد خلال حقبة الكولونيالية البريطانية، فان الغاية الحقيقية كانت تنظيم السلطة / الحكومة / النظام الحاكم من اجل تعزيز السلطة المركزية للدولة وحماية مصالح الطبقات الثرية والنخبة السياسية (حماية مصالح الاقلية). فقد أجمع الموفدون في المؤتمر الدستور على رغبتهم في اقامة "حكومة مركزية قوية" هدفها:
 حسم الخلافات والنزاعات بين 13 مستعمرة حول التجارة والرسوم التجارية والضرائب.
 حماية المصالح التجارية الدولية وتعزيز المصالح المالية والتجارية للطبقة الثرية.
 حماية الاغنياء من مطالب الطبقات والفئات الاجتماعية الاخرى. ولعله من الجدير بالذكر أن اغلب المؤرخين والمحللين السياسيين يتجاهلون ما عاناه المزارعون الصغار والاغلبية السكانية من قلة الدخل ووطأة الضرائب والفقرفي الفترة التي صدرت فيها الوثيقتان الاساسيتان في التاريخ الاميركي ـ اعلان الاستقلال وصدور الدستور الاميركي. ففي حين تمحور الكثير من الجدل خلال مداولات إقرار مواد الدستور حول المزاحمة بين الاغنياء ومصالحهم الاقتصادية، ولم يأبه المؤتمرون بمناقشة التناقضات والهوة السحيقة بين الاغنياء والفقراء.
3) إضافة الى ان الدستور جاء ليفرض الضريبة لتغطية كلفة الجيش والمليشيات المحلية: الجيش لقمع انتفاضات العبيد السود والمزارعين الفقرا، والمليشيات المحلية لمحاربة الهنود الاصلانيين وملاحقتهم لاخماد ثوراتهم وانتفاضاتهم واغتصاب المزيد من اراضيهم.
4) إقامة شكل من الحكم يضمن حماية الاقلية (طبقة الاغنياء وملاكي الاراضي) من "طغيان" الاغلبية. وقد ساد الاعتقاد آنذاك كما اسلفنا، ان الغاية من الدستور هي ضبط الحركة التجارية بين الولايات الاميركية (المستعمرات آنذاك) وحل الخلافات والنزاعات الناجمة عن المزاحمة التجارية دون اللجوء الى استخدام السلاح او فرض العقوبات الاقتصادية. تلك كانت احدى الوظائف الاساسية التي خُلق الكونغرس من اجلها: ان يكون منبراً لحل الخلافات التجارية والسياسية بين كبار التجار واصحاب المزارع والمصانع الكبرى. وفي نهاية المطاف، وبغض النظر عن التلقين الدعائي والايديولوجي للخطاب الراسمالي في اميركا، فان المهمة الحقيقية (والغاية) من كتابة الدستور هي التصديق على وثيقة تضمن السلطة والامتيازات للطبقة الحاكمة الجديدة مقابل تقديم تنازلات كافية لتحجيم وإجهاض معارضة الطبقات الاجتماعية العريضة. فمؤلفو الدستور لم يدعوا ان هدفهم كان تحقيق "المساواة بين الطبقات"، بل اكدوا دون مواربة بان التزامهم الاساسي يتمثل في حماية مصالحهم المادية (الطبقية) دون ان ينكروا ان ذلك سوف يتطلب سحق سلطة الشعب وضبط حراكه. وعليه، فقد سعوا في كتابتهم لدستور البلاد، الى التوصل الى وثيقة تضع، في حدها الادنى، اللبنة الاساسية لحكومة تحظى ببعض الدعم الشعبي ولكنها لا تعبث، في الوقت ذاته، بالبنية الطبقية القائمة آنذاك: اي حكومة قوية بما يكفي لدعم مصالح كبار التجار وأصحاب الاعمال والبرجوازية الناشئة، ولكنها قادرة في الوقت ذاته على الحفاظ على بعض مطالب الطبقات الشعبية.
5) نرى مما اسلفناه، ان الدستور شكل امتداداً طبقياً لنمط الانتاج الراسمالي ولعب دوراً هاماً في التطور الاقتصادي الاميركي والتحول من الراسمالية المبكرة (التجارية والمالية التي قامت على تجارة وملكية العبيد ونمط الانتاج السائد في تلك الحقبة) الى الراسمالية الصناعية والمالية وقيام الشركات الاميركية الكبرى (المحلية والعالمية). كما ان الدستور كان عاملاً اساسياً في التراكم الراسمالي الاميركي وتراكم الثروة الاقتصادية والمالية الاميركية التي لم يكن يحلم بها أحد ولم يرى لها التاريخ البشري مثيلاً. وعليه، فمن اجل فهم الدستور فهماً مادياً وموضوعياً، لا بد من تناوله، من حيث وظيفته العضوية، كامتداد طبقي وسياسي لنمط الانتاج الراسمالي، وفي الوقت ذاته، وكحصيلة للتحالف الطبقي. وهو ما تم اكتماله في جلسات ومداولات صياغة الدستور.
الانتماء الطبقي لمؤلفي الدستور:
مَنْ كتب الدستور الاميركي؟
شارك في المؤتمر الدستوري 55 موفداً قدموا من المستعمرات الثلاث عشر وكان بينهم التجار واصحاب البنوك وملاكو السفن التجارية والمزارع الكبيرة وتجار الرق ومالكو العبيد ومضاربو الاراضي وبالطبع المحامون والخبراء القانونيون الذين اسدوا النصح لوفود المؤتمر وحرصوا على ان تكون المسودة النهائية معبرة عن مصالح اعضاء المؤتمر وحاسمة للخلافات التي نشبت بينهم وصولاً الى تحديد دقيق لشكل النظام الجمهوري الناشىء الذي يخدم مصالحهم على افضل نحو. وفي حين كان بعض المؤتمرين من كبار التجار ورجال الاعمال واصحاب المصالح والمضاربين وتجار الاراضي، كان بعضهم الآخر من المرتبطين باصحاب الاعمال التجارية. ومن الناحية الاقتصادية والطبقية يمكننا تقسيم مجموعة الـ "55" هذه الى فئتين اساسيتين:
1) راسماليو المستعمرات الشمالية.
2) ملاكو المزارع الكبرى في المستعمرات الجنوبية.

كان خمسة وعشرون من اصل 55 موفداً من ملاكي العبيد اضافة الى بعضهم لم يكن يملك عبيدا ولكنهم كانوا على أتم الاستعداد لتقاسم الارباح مع اولئك الذين يملكونهم. كان بعض الموفدين من الولايات الشمالية مستعدين لتحدي العبودية وتجارة الرق والمطالبة بالغائها، الا ان المعارضة كانت شديدة وعلنية خصوصاً من الموفدين الجنوبيين لاي وثيقة او دستور لا يضمن مصالح ملاكي العبيد ولا يدافع عن استمرار العبودية وتجارة الرق وديمومتهما. وهكذا جاء الدستور في نهاية المطاف حلا توافقيا بين الشماليين والجنوبيين يضمن مصالح كافة الاطرف، الامر الذي طغى بوضوح على الدستور ومواده وعلى كافة الاعتبارات الدينية والاخلاقية ومبادىء الحرية والديمقراطية.
خلاصة القول، كان الذكور البيض الاثرياء وكبار الملاكين، هم الذين خطوا الدستور الاميركي كي يستأثروا بالقوة والسلطة السياسية بما فيها حق الانتخاب والترشيح. ولم تكن نسبة هؤلاء من مجموع سكان البلاد آنذاك تزيد عن عشرة بالمئة. اما مظاهر حكم الشعب وتمثيله والحرية والديمقراطية فقد كان المقصود بها ان توفر غطاءاً كاذباً يخدم الغاية الحقيقية وهي الاستحواذ على السلطة. ووفق ما خلص اليه هوارد زين، المؤرخ الاميركي الكبير، فقد كانت اغلبيتهم من المحامين والاغنياء الذين جنوا ثرواتهم من ملكية العبيد والمصانع وتجارة التصدير، ونصفهم كان من المرابين، في حين كان اربعون من اصل خمسة وخمسين يملكون مستندات حكومية. اما الاغلبية الساحقة من الشعب فلم يكن هناك بين مؤلفي الدستور مَنْ يمثلهم. فلا ممثلون عن المرأة او الاميركيين السود او الهنود الاصلانيين او فقراء البيض.
(6)
الطابع العرقي للدستور:
الدستور كوثيقة عنصرية
العبودية في حقبة الكولونيالية البريطانية
جاءت القوانين التي حكمت المستعمرات البريطانية ومنها اميركا لتحقيق غايتين:
الاولى: ترسيخ فوقية وتأبيد هيمنة طبقات التجار وكبار الملاكين.
والثانية: قمع الطبقات العاملة والدنيا وصغار المزارعين (السود والبيض على حد سواء) للحفاظ على مصالح النخبة التي كانت تمارس سلطة إسمية في خدمة بريطانيا العظمى.
لم تكن اميركا في تلك الفترة بلد الديمقراطية السياسية او الفرص الاقتصادية حتى للاغلبية البيضاء التي كانت ايضا مهمشة وفق قوانين وشروط حق الملكية التي فرضتها الهيمنة الكولونيالية البريطانية على البلاد. ففي المستعمرات الجنوبية (التي سُميت بالولايات الجنوبية بعد الاستقلال وإعلان الولايات المتحدة الاميركية)، أحكمت الارستقراطية الزراعية المالكة للعبيد سيطرتها على مرافق الحياة العامة ومقاليد الحكم وصنع القرار. أما في الولايات الشمالية والتي نشأت بالاصل من اجل الحفاظ والدفاع عن الحريات الدينية، فلم يكن للديمقراطية اي أثر.
شكّل المناخ الاجتماعي والسياسي "للحرب الثورية" والنضال من اجل الاستقلال عن بريطانيا وجملة الافكار والايديولوجية الثورية والتحررية التى تنامت عبر العقود التي سبقت تلك الحرب، كل هذه شكّلت تحدياً سياسياً واخلاقياً للعبودية وتجارة الرق من افريقيا، كما شكّلت محكاً لمصداقية إدعاءات الحرية والديمقراطية والمساواة التي قام عليها خطاب التحرير والاستقلال عن بريطانيا. ومع حلول عام 1780، اي بعد اربعة اعوام من اعلان الاستقلال عن بريطانيا، أخذت بعض الولايات تتجه نحو تحرير العبيد. الا ان اغلبية القادة السياسيين المتحدرين من طبقات كبار التجار واصحاب المزارع لم تكن ترغب في تحرير السود الاميركيين ومنحهم الحريات والحقوق الديمقراطية، وفضلت الابقاء على التراتبية العرقية والاجتماعية القائمة على التسلسل العرقي والطبقي والموقع الاقتصادي اي التمايز الطبقي والتمييز العنصري. وقد انعكست مواقف هؤلاء على صياغة دستور الدولة الاميركية الناشئة، مما يعني ان دستور البلاد حنث بوعود الديمقراطية والحرية والمساواة لكافة الاميركيين وعزز، على النقيض من ذلك وبشكل مباشر، قوانين التمييز العنصري والفصل العرقي بين البيض والسود.
ففي تناقض صارخ مع مبادىء الديمقراطية والحرية نرى ان الدستور يؤكد على نظام حكم تمثيلي وديمقراطي من جهة، والسماح بتجارة العبيد من جهة اخرى. ولا يمكن تفسير مثل هذا التناقض الا بالعودة الى المصالح والعلاقات الطبقية والعرقية والسياسية التي كانت قائمة بين البيض والسود في الفترة الواقعة بين منتصف ونهاية القرن الثامن عشر والتي شهدت استقلال اميركا وولادة الوثيقتين الاساسيتين للدولة الجديدة: اعلان الاستقلال (1776) والدستور الاميركي ( 1787).
حقبة ما بين الاستقلال والدستور:
زخم الحرية ام تأصيل العبودية... تحرير الانسان ام تحرير الرجل الابيض؟
بعد ان خمد لهيب الرطانة السياسية المطالبة بالاستقلال عن بريطانيا وتحقيق الحرية والديمقراطية، اخذت النخبة الثرية تتسائل عن جدوى ايديولوجية الشعارات والمطالب الديمقراطية، وعما اذا كانت المطالب هذه قد ذهبت الى حد بعيد او أبعد من المتوخى؟ وهل من الضروري حقاً إلغاء العبودية؟ وهل يحق للسود الملاكين (الذي حصلوا على حق الملكية) ان يمارسوا حقوق الترشيح والانتخاب؟ وبدت الاشكالية وكأن المقصود بخطاب التحرير والحرية والمساواة خطاب الثورة ضد الكولونيالية البريطانية، كان تحريراً للرجل الابيض لا تحريراً الانسان؟
احتدم هذا الجدل على مدى سبع سنوات سبقت كتابة الدستور (1780-1787) وتنامت الحركات المطالبة بتحرير العبيد وتمسك بعض القادة السياسيين بشعارات محو العبودية "ولو بشكل تدريجي". اما بعض كبار القادة السياسيين فقد أخذوا بالتصريح بالسر والعلن بمعارضتهم لمبادىء الديمقراطية في تحرير السود. و كان أبرزهم جورج واشنطن، الرئيس الاول للولايات المتحدة الاميركية، والذي كان آنذاك "يملك" ما يزيد عن (200) عبداً. كما شكى بعضهم من "ضعف إنتاج العبيد" و"تخريبهم للمتلكات". حتى الليبراليون اخذوا ينضمون الى صفوفهم ويشككون بالذرائع الديمقراطية لتحرير العبيد. ففي حين واصل جفرسون ـ احد كبار مؤلفي الدستور ـ التباكي وذرف الدموع على إستمرار العبودية، نراه يصرح علنا بمواقف عنصرية وتمييزية ضد السود ويحاجج ان للسود "رائحة قوية وغير مرغوبة" وبانهم يحتاجون الى قدر من النوم "اقل من البيض"، بل ذهب الى حد الفتوى في مسائل الحب والجنس فرأى ان البيض "اكثر حناناً ورقة" بينما كان تعبير السود عن الحب "اكثر منه رغبة جنسية".
حل "المسألة الزنجية": الاستعمار الاسود
أخذ بعض الليبراليين البيض في حيرتهم وخشيتهم من انفلات الاوضاع، يبحثون عن حل لما اسموه آنذاك "المسألة الزنجية" The Negro Question وللحفاظ على التزامهم بالمبادىء الانسانية والديمقراطية التي كانوا قد أطلقوها آنذاك. كان هؤلاء يدركون بلا شك ان تحرير العبيد سوف يستلزم، في الجوهر، التحرير الكامل للعلاقات بين العرقين (الابيض والاسود)، وهو ما سيهز العلاقات الاجتماعية والمدنية من جذورها، الامر الذي كان يصطدم دوماً بالفوقية البيضاء ـ الحاجزالذي تنهار امامه كل المبادئ الديمقراطية.
كانت الغاية من كل هذه الاطروحات إغلاق الباب امام الاندماج بين العرقين من خلال تعزيز ايديولوجية إستحالة إندماج السود في المجتمع الابيض. وقد يبدو طريفاً، وان لم يكن اقل دلالة، ان ظهرت بين هؤلاء الليبراليين البيض اطروحات "الاستعمار الاسود" اي اعادة السود من اميركا (ومستعمرات الكاريبي والاميركيتين) الى افريقيا ليستعمروا القارة. فمن ناحية، كان الليبراليون البيض ينوون من وراء اعادة السود المحررين الى القارة الافريقيةإظهار انسانيتهم نحو السود (مما يعزز مواقفهم الديمقراطية)، ولكنهم كانوا يسعون في الوقت ذاته الى التخلص من بعض السود والخطر الكامن فيهم من جرّاء قيامهم باعمال الشغب والعصيان، وهكذا حسبوا ان هذا الحل سيتيح لهم ضبطاً افضل للسود الباقين في المجتمع الابيض.
كيف اصبح الافريقي الاسود ثلاثة اخماس الانسان؟
كانت العبودية وتجارة الرق من أكبر التحديات التي واجهت المؤتمرون، وقد شكل "تمثيل" العبيد الافارقة في المؤتمر إشكالية خلافية احتدم النزاع حولها وتمحورت حول السؤال التالي: هل يكون العبيد "جزءاً من السكان" وبالتالي يجب ضمانة حقهم في انتخاب ممثلين لهم في الكونغرس الاميركي، او انهم مجرد "ملكية" اي سلعة وفي هذه الحالة فانهم لا يتمتعون بحق التمثيل؟
 حاجج موفدو الولايات الجنوبية التي تشمل عدداً كبيراً من العبيد ان العبيد يجب ان يعتبروا "اشخاصاً" من حيث تمثيلهم في الكونغرس، اما اذا كانت الحكومة الجديدة المزمع تأسيسها ستفرض ضريبة يتم تقديرها بناءاً على التعداد السكاني فانه يجب اعتبار العبيد "ملكية" (وفي هذه الحالة لن يدخل العبيد في تعداد السكان فتكون الضريبة التي يتوجب على الولاية دفعها للحكومة الفيدرالية أقل).
 اما موقف وفود الولايات التي ألغيت فيه العبودية او حيث أوشكت هذه على الاختفاء، وحيث كان تعداد العبيد قليلاً، فلم يكن مختلفاً في الجوهر ولا أقل وحشية واجحافاً، فحاججوا، وفق مصالحكهم المادية، بان العبيد يجب ان يدخلوا في التعداد السكاني عند حساب مقدار الضريبة (لان تعداد العبيد في تلك الولايات كان قليلاً مما يعني ان الضريبة المفروضة ستكون ايضاً ضئيلة)، ولكن لا يجب ادخالهم في معادلة التمثيل السياسي في كونغرس الدولة الديمقراطية الجديدة.
واذا ما ادركنا ان العبيد ساهموا بدور هام في النضال من اجل الديمقراطية وتعزيز ثقافتها بعد قيام الثورة الاميركية، وانهم شكلوا آنذاك خُمْس سكان الولايات المتحدة، وان اغلبتهم كانت تسكن في الولايات الجنوبية (حيث شكلوا 40 % من تعداد السكان)، فان الاصطفاف الطبقي لمؤلفي الدستور وفق مصالحهم المادية في صياغة هذه الوثيقة يصبح جلياً ويؤكد ان الموافقة على الدستور كانت مشروطة باشباع المصالح والاحتياجات المادية والطبقية لكافة الاطراف على تنوعها وتناقضها. هكذا جاء اعتبار العبد الاسود (3/5) ثلاثة اخماس الشخص الحر (الانسان) كحل توفيقي لحسم الخلاف والمضي قدماً في إقرار الدستور والتصديق عليه دون اعاقة.
"الديمقراطية" في تجارة الرق
اما المسألة الاخرى التي أثارت نزاعاً داخل المؤتمر الدستوري، والتي توصل المؤتمرون الى حسمها بحل توافقي هذه المرة ايضاً، فكانت تجارة الرق. ففي حين طالبت عشر مستعمرات (وهي الولايات التي كانت قد ألغت العبودية) من اصل ثلاثة عشر بتحريم هذه التجارة، اصرّت الولايات الثلاث الاخرى (ولايات واشنطن وكارولاينا الشمالية والجنوبية) على الاستمرار فيها وعارضت إستصدار اي قانون او مادة دستورية تحرّمها مهددة بالانسحاب من المؤتمر اذا لم ينصاع المؤتمرون الى رغباتها. وقد تمثل الحل التوافقي في ان يفوّض المؤتمر صلاحية البت في الامر الى الكونغرس الاميركي شريطة الا يتم إتخاذ اي قرار بهذا الشأن قبل عشرين سنة اي ان تظل تجارة الرق "وإستيراد العبيد" مسموحاً بها حتى عام 1808 والا يقوم الكونغرس بتحريمها قبل ذلك العام. وقد نصت المادة (1) البند (9) من الدستور صراحة على ان "هجرة واستيراد مثل هؤلاء الاشخاص" سيظل مسموحاً بها وان الكونغرس لا يملك صلاحية تحريمها حتى عام 1808. ومن دون الدخول في تفاصيل الجدل الكبير حول تفسير هذه المادة فانه من الواضح:
• أن الهجرة والاستيراد كانت تعني استرقاق العبيد واستحضارهم عنوة من افريقيا الى اميركا.
• وأن المقصود بمفردة "الاشخاص" كان العبيد السود القادمين من افريقيا حيث اعتقد كثيرون ان استخدام مفردة "عبيد" لا تليق بوثيقة تطالب بالحرية والديمقراطية.
وبغض النظر عن التفسيرات والتبريرات فانه من الواضح ان الدستور قد شرعن عبودية السود وتجارة الرق وان "الجمهورية الناشئة" سوف تشجع استحضار العبيد من افريقيا، إضافة الى المادة الثانية بند 2 التي تنص على إلزام العبيد الفارين بالعودة الى أسيادهم.
ولعل الوقائع التي تلت انعقاد المؤتمر الدستوري تؤكد ذلك بوضوح:
• فقد ارتفع عدد الزنوج الافارقة في الولايات المتحدة بين عامي 1780-1820 الى ثلاثة اضعاف.
• وزادت نسبة السود في ولاية فرجينيا بين عامي 1790 و 1800 بـ 17,8 %، وفي كارولاينا الشمالية بـ ( 32% ).
• "إستوردت" ولاية كارولاينا الجنوبية بين عامي 1803 – 1808 وبشكل قانوني (40) ألف "عبد افريقي".
هل كان هناك بدائل أخرى؟
يقدم منظرو الراسمالية العنصرية في اميركا سيلاً من الذرائع لتبرير مواد الدستور ـ التي حافظت على التمايز الطبقي السحيق وعلى العبودية وتجارة الرق وأبقت على التمييز العنصري ضد السود ـ بحجة مقتضيات المرحلة التي كُتب فيها الدستور. إلا انه على الرغم من هذه التبريرات، فان السؤال يظل: اذا كان مؤلفو الدستور حقاً دعاة حرية وديمقراطية، واذا كانوا قد احرزوا للتو انتصارهم على الاستعمار البريطاني واستقلالهم وإقامة دولتهم الجديدة، فهل كان امامهم بدائل اخرى في صياغة هذا الدستور والخروج بوثيقة تحفظ ولو شيئاُ يسيراً من القيم العليا التي طالبوا بها.
قد يبدو التساؤل في هذه القضية مثالياً او واهماً. فرأس المال ليس بصدد التنازل او التضحية باي من ارباحه ومكاسبة لدواعٍ اجتماعية او انسانية. وفيما يلي بعض البدائل (نوردها على سبيل المثال لا الحصر) والتي كان بامكان مؤلفي الدستور الوصول اليها:
1) كان بمقدور الاجزاء الغربية من البلاد اقامة سوق عمالة حرة حيث ان التوسع الاقتصادي والسياسي في هذه المناطق لم يكن معتمداً على العبيد كمصدر للعمالة.
2) كما كان بالامكان تشريع مواد في الدستور تقضي بمحو العبودية بشكل تدريجي وان ينص الدستور على اجراءات تكفل ذلك مقابل ان تقوم الحكومة الفيدرالية بتقديم تعويضات لملاك العبيد كما فعلت الحكومة البريطانية في بعض المستعمرات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
3) كان بمقدور الدستور، كوثيقة ديمقراطية ان يحرم "استيراد العبيد" وان يصبح هذا القانون ساري المفعول فور النصديق على الدستور وانشاء صندوق لدعم الهجرة الحرة من افريقيا بدلا من السماح بتجارة الرق حتى عام 1808.
4) وكان جديرا بالدستور ان يمنح العبيد السود الحقوق والامتيازات التي يضمنها الدستور اسوة بالاميركيين البيض.
خاتمة
حاولت في هذه المقالة تسليط بعض الاضواء على الابعاد الطبقية والعنصرية والعرقية للدستور الاميركي بالرغم من الرطانة عن الديمقراطية والحرية التي أتى عليها او نسبوها اليه، وقصدت التدليل على ان اهم هذه العوامل والابعاد يكمن في الانتماء الطبقي والمصالح الطبقية لمؤلفي هذه الوثيقة وموقفهم من العبودية وتجارة الرق، ذلك الموقف الذي جاء متناسقاً مع مصالحهم التجارية والاقتصادية. ليس القصد هو تشويه وثيقة الديمقراطية الاميركية لتحقيق أمرٍ في نفس يعقوب او لمأربٍ ما، بل تقديم محاولة لفهم هذه الوثيقة في سياقها المنطقي والموضوعي والتاريخي وما خلّفته من آثار بعيدة المدى على المجتمع الاميركي والانسانية ما زالت حاضرة حتى يومنا هذا. وبناءاً عليه، يمكننا القول بايجاز ان الدستور الاميركي لم يكن نتاجاً للامتيازات والمصالح الطبقية للاغنياء فحسب، بل كان في مواده وفي المناقشات والمداولات التي دارت حولها تعبيراً عن ساحة الصراع الطبقي ذاته، ذلك الصراع الذي ما زال محتدماً حتى يومنا هذا وسيظل كلما أمعنت حكومة راس المال في حربها ضد فقرائها وطبقاتها الشعبية داخل اميركا ، وفي حروبها الامبريالية ضد شعوب العالم، وكلما توحش الاقتصاد الراسمالي في جشعه وسعيه نحو الربح والهيمنة.
لقد تجاوب مؤلفو الدستور مع مصالحهم ونواياهم (الطبقية والنخبوية) وبذلوا قصارى جهدهم كي يعيقوا تحقيق السيادة الشعبية وحكم الشعب وضمانة حقوقه ووصوله الى السلطة (وهي المبادىء والاهداف التي دعا اليها الدستور). وقد نجحوا بفضل نهجهم وخطابهم البراغماتي ان يضمنوا الاجماع على الدستور كوثيقة تحكم الدولة الجديدة. ولم تكن تعوزهم الرؤية النافذة ولا الدراية بان مثل هذه الوثيقة سوف تكرس في مستقبل الايام نقيض ما تدعو اليه وتطالب به وسوف ترسخ التمايز الطبقي وتبقي الاغلبية الشعبية في المواقع الاقتصادية الدنيا مبتلية بالفقر والعوز والمرض. وليس في هذا الامر ما يدعو الى الاستغراب، فهذا لم يكن يعنيهم اصلاً.
قد يقول رأي ان هذا الدستور جاء في سياق تاريخي مختلف ويفتقر الى الراهنية في الواقع الاميركي اليوم، وأن مواده جاءت لتقدم حلولاً لاوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية في حقبة حرجة من التاريخ الاميركي إتسمت بتحديات الحرب مع الكولونيالية البريطانية وإنجاز استقلال الوطني وسيادة الدولة الاميركية الجديدة. وقد تذهب اطروحات اخرى في الرد على نقد الدستور، الى انه (الدستور) وثيقة حية قابلة للتغيير والتعديل والتعامل مع متغيرات الواقع وروح العصر. وهذا صحيح، فقد اجريت على الدستور، عبر القرنين الماضيين، تعديلات عديدة وجوهرية (مثل حق الانتخاب للمرأة والسود والفقراء وغيرها). الا ان هذه الاطروحات تقوم في الجوهر على قراءة سردية وشكلية للدستور ولا تقدم سوى فهما كسيحاً وتحليلاً مكيانيكاً له يعجز عن تفكيك اكاذيبه، والاهم انها تتجاهل التناقض الاساسي في المجتمع الاميركي (في تلك الآونة وفي الوقت الحاضر ايضاً) وهو التناقض بين الديمقراطية (كرطانة سياسية) والاستغلال بكافة اشكاله وغياب العدالة (الاقتصادية) والذي يعكس الاصطفاف الطبقي في المجتمع.
قد يبدو مقبولاَ لدى الكثيرن، هذا الجدل الذي يعتبر الدستور جزءاً من الماضي. الا ان الحجة التي تقول إن الدستور قد وُلد في حقبة معينة وجاء بالتالي معبراً عنها، لا تجيب على العديد من الاسئلة والاشكاليات الممتدة على مساحة التاريخ الاميركي منذ تلك الآونة حتى يومنا هذا، كما انها لا تفسر الوقائع الماثلة امامنا. ويمكننا في هذا الصدد إيجاز بعض الملاحظات:
 ان اميركا ترى ذاتها، وتريد العالم ان يراها ايضاً، كامتداد للغرب وللحضارة الغربية. ومن هنا جاءت الرابطة الاوروـ اطلسية بابعادها الثقافية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إلاّ أنه يظل من العسير تفادي المفارقة التالية: ففي الوقت الذي كانت فيه اميركا تناقش مواد دستورها، كانت اولاوبا قد اجتازت حقبة التنوير التي استمرت عدة قرون وهزّت الكثير من المفاهيم والقيم والافكار في كافة مجالات الادب والفن والعلم والدين والسياسة والمجتمع.
 ان صياغة الدستور الاميركي، وكل ما دار حوله من جدل، تزامن مع حقبة شعارات الحرية والمساواة والاخوة التي جاءت بها الثورة الفرنسية (1789) اي عامين بعد التصديق على الدستور الاميركي وكانت فرنسا واوربا برمتها تمر بمخاض هزّ المجتمعات الاوروبية (الغربية) وقلب نُظم القيم وانظمة الحكم التي كانت السائدة آنذاك. أما في اميركا فقد أبقى الدستور على العنصرية والتمييز العنصري والتمايزات الطبقية والعرقية والاثنية التي ما زالت متفاقمة حتى يومنا هذا، وهناك من الدلائل والمشاهد ما لا يخفى على احد. ولا نقصد هنا ان نتجاهل أشكال التمايزات والتناقضات في المجتمعات الاوروبية فهذه موجودة وعميقة كما في كافة المجتمعات الراسمالية، بل نود ان نشير الى خصوصيات الغرب الراسمالي الاميركي وتميزه حتى عن الغرب الاوروبي من حيث النشأة ومسيرة التطور الاجتماعي وصولاً الى الزمن الراهن.
 صحيح ان العبودية وغيرها من ممارسات التمييز العنصري قد الغيت رسمياً وقانونياً في الولايات المتحدة، الا ان أخطر ما تبقى هو حماية الدستور الاميركي للملكية الخاصة وهي جوهر الراسمالية والسبب الجذري في استمرار الاستغلال، لان تكريس الملكية الخاصة يشرعن "الحق" في استغلال الاغلبية لصالح القلة. وبهذا المعنى، فان الدستور يضمن استغلال الانسان لاخيه الانسان ويؤبد إستعباده ايضاً. فمن دون الحفاظ على حقوق الفقراء والمهمشين الذين يشكلون الاغلبية الشعبية والسكانية فانه لا يمكن الحديث عن حرية او ديمقراطية او عدالة اجتماعية واقتصادية.
قد تتوهم أغلبية الشعب الاميركي، ومعها مَنْ صدق الكذبة خارج اميركا، انها امام وثيقة دستورية متألقة في مفرداتها وعباراتها وامام ديمقراطية سياسية لفظية جميلة. الا ان هذا لا يسد الجوع، ولا يشفي المرض ولا يوفر الديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية. ولعلنا نخطىء اذا حسبنا اننا قد وصلنا الى قاع البئر، فالراسمالية لم ترفع الستار بعد عن ابشع مشاهدها وما زالت تخبىء الكثير من الكوارث لاميركا وللبشرية جمعاء. والى حين التغيير الجذري والاطاحة بالراسمالية كنظام إستغلالي وحشي والتوجه نحو الاشتراكية، فان الدستور الاميركي سيظل وثيقة متميزة للغني ولراس المال تحمي مصالحه بامتياز، اما بالنسبة لاغلبية الشعب الاميركي، فانها تظل وثيقة خادعة منحازة وخبيثة تخفي في سراديبها الاعيب لم يرى العالم حتى اللحظة إلا جزءاً منها.
تجوب اميركا الكرة الارضية وتخترق شعوب العالم لفرض "الديمقراطية" عليهم "وتدريب ابنائهم وتمكينهم" من اجل بناء صرح الحرية والديمقراطية وحكم القانون، وهي في الحقيقة البلد الذي يفتقر الى الديمقراطية اكثر من اي بلد آخر. ومن هنا جاءت هذه المقالة بحثاً في دهاليز الكذبة التي دامت اكثر من قرنين وما زالت تتكرر على مدار الساعة، حتى صدقها العالم بأسره. ولذلك كله، فان المهمة الملحة والجديرة بمستقبل الانسان تظل في تفكيك الديمقراطية الاميركية ونقدها وتقديم تحليل أمين لركائزها الزائفة.
بعض المراجع الهامة:
Bob Avakian, Democracy: Can’t We Do Better Than That? Banner Press, Chicago, USA, 1986.
Bernard Bailyn, The Ideological Origins of the American Revolution, The Belknap Press of Harvard University Press, USA 1992.
Democracy and Class Society, edited by Andy McInerny, PSL San Francisco, USA, 2008.
Manning Marable, The Great Wells of Democracy: The Meaning of Race in American Life, BasicCivitas Books, New York, 2002.
Manning Marable, Black Leadership, Columbia University Press, New York, 1998.
Manning Marable, Black Liberation in Conservative America, South End Press, Boston , USA, 1997.
Howard Zinn, Voices of a People’s History of the United States, Seven Stories Press, New York, USA, 2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأخ مسعد
محمد ماجد ديُوب ( 2011 / 8 / 23 - 19:33 )
مقالة تستحق أن تكون وثيقة يقرأها الواهمون والمتعلقون يالديمقراطية الأمريكية شكراً لكم على هذا الجهد

اخر الافلام

.. الشرطة الكورية الجنوبية تمنع مسيرة احتجاجية تطالب باستقالة ا


.. فرنسا: هل يتحالف اليمين واليسار لأول مرة لإسقاط حكومة ميشال




.. Débat autour de l-industrie avec Abdeslam Seddiki et Ryad Me


.. Mohammed Benmoussa sur Le Debrief : tout ce qu’il faut savoi




.. سوليفان ينفي نية أميركا إعادة أسلحة نووية لأوكرانيا كانت تخل