الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانقلابات العسكرية بين الجنرالات الترك ونظائرهم المصريين

مهدي بندق

2011 / 8 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


طلب الملك سرداً كاملاً لكل ما جرى من أحداث بدءً من ظهور الجنس البشري على الأرض حتى الساعة ، فرد كبير وزرائه : وحده خالق الكون من يقدر على هذا . فتواضع الملك طالبا ً سرد أهم الأحداث ، حينئذ جاءه وزير التعليم بعشرين مجلداً، فصاح الملك : وهل لدي وقت لقراءة كل هذا؟ لخصوا لخصوا . ولأن الفيلسوف كان حاضراً ، فما لبث حتى قال : ُولد الناس وعانوا وماتوا .
والمغزى أن الوعي بالتاريخ البشري يمكن أن يضيق إلى حد اللمحة الفلسفية " يولد الناس ويعانون ثم يموتون " كما يمكن أن يتسع فلا يحيط بأحداثه جميعاً غير الكائن المتعالي وحده. وبين التضييق والتوسع يبرز دور المتخصصين أصحاب المجلدات العشرينية أمثال ابن جرير الطبري ( تاريخ الرسل والملوك -15 مجلدا) وابن كثير( البداية والنهاية-21 جزءً ) وابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدا والخبر في أيام العرب والعجم والبربر- 20 مجلداً ) و وول ديورانت ( قصة الحضارة – 40 جزءً ) وهـ . ج. ويلز ( معالم تاريخ الإنسانية 4 مجلدات ).
وبما أن التاريخ الذي يتضمن الدين والفلسفة والقانون والفنون والآداب، هو ما يفصل بين الحيوان والإنسان ؛ فلا غرو أن من ليس بمقدوره نقل خبراته الحياتية لنسله، محض مخلوق مقيم بالمملكة الحيوانية العاجزة عن التطور الاجتماعي بخلوها من الديانات و الفلسفات، و...و ...التاريخ.
في يومنا هذا يأتي التاريخ ليذكرنا بأزمة مارس 1954 بغية مقارنتها بالأزمة السياسية الحالية والمتمثلة في احتمال الصدام بين الجيش والتيارات الدينية من بعد تحالف قصير كما في المرة السابقة.
على أننا بعد تدبر قد نرى المبادأة بالصدام هذه المرة بعيدة ًعن الأخوان ( فهؤلاء قاربوا الاندماج في الحياة السياسية بتحولهم إلى حزب شرعي) وإنما الخشية من الوافدين الجدد ( السلفيين ) الذين يهدد بعضهم بممارسة العنف لو صدر إعلان دستوري ينص على مدنية الدولة، وهو تهديد يذكـّر بمحاولة التنظيم الخاص الأخواني اغتيال عبد الناصر عام 1954 إعتراضاً على توقيعه معاهدة الجلاء مع بريطانيا، للعوار الذي طالها (من وجهة نظر الأخوان وقتئذ) وما من شك في أن قادة الجيش الحاليين ليسوا ممن يقبل التهديد أو يخشى المجابهة ، فمواقفهم المبدئية تجاه الرئيس المخلوع وتجاه إسرائيل في الأزمة الحالية تبرهن على شجاعتهم اللامحدودة.
فما الذي يعطلهم عن إصدار هذا الإعلان الدستوري، لإخراج البلاد من أزمتها الحالية الخانقة؟
معنى الدسترة
مرة أخرى يخايلنا التاريخ بما انتهت به أزمة مارس حيث انفرد مجلس قيادة الثورة بالسلطة. بيد أن التاريخ لا يكرر نفسه الحافر على الحافر، فشواهد الحال تشي بأن قادة الجيش الحاليين غير متعطشين لفرض دكتاتورية عسكرية تأباها ثقافة القرن 21 ولكن ربما بدا للمجلس العسكري أن كل وثائق التوافق الوطني التي طرحت بشأن المبادئ الأساسية الحاكمة للدستور القادم، تنقصها نقطة جوهرية : تحديد دور للجيش المصري في المرحلة المقبلة باعتبار أن مهمته ( وبنص المادة 180 من دستور 71 والمادتين 53 ، 54 من الإعلان الدستوري 2011 الحائز على موافقة الشعب) هي حماية أمن الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه .. وهذه مهمة لا يمكن أداؤها بدون تحديد الآليات اللازمة لتنفيذها، في ظل ما يمكن تسميته بـ "الدسترة" Constitutionalizing أي جعل الأمر دستورياً لا شبهة فيه.
والحق أن هذه النقطة الجوهرية – التي غابت عن نصوص وثائق التوافقات المقترحة – هي بالضبط ما ُيجنب البلاد أخطار أي انقضاض فاشيّ يلغي مدنية الدولة وبالتالي استقلالها، وما أعلام "السعودة" في تظاهرة 29 يوليو الماضي في ميدان التحرير، والرايات السوداء في العريش إلا علامتان دالتان كما يقول علماء السيميولوجيا.
في هذا المقام لعل النموذج التركي ودور الجيش فيه أن يكون مثالاً يستوجب الإفادة منه، خاصة للبلدان التي ُحرمت من ممارسة الديمقراطية لأسباب جيبوليتيكية وتاريخية وثقافية. ففي تلك البلدان غالباً ما يتطلع الناس إلى شخصية " كاريزمية" تتمثل فيها الهيبة وتحظى في الوقت نفسه بالحب ( أتاتورك – ناصر- كاسترو...الخ ) وفي تقديري أن قائديْ الجيش المصري المشير والفريق - بحمايتهما للثورة معرّضيْن نفسيهما للمحاكمة العسكرية فيما لو سيطر المخلوع على الأوضاع قبل تنحيه – إنما هما المرشحان اليوم للعب دور هذه الشخصية الكاريزمية، دون خوف من إعادة إنتاج أزمة مارس جديدة، وآية ذلك أن حركة الجيش في 1952 باعتمادها سياسياً على الأخوان؛ قد منحتهم تبريراً سيكولوجياً للتمسك بـ " حقهم " في كعكة السلطة حينذاك، بينما ثورة يناير2011 حين انطلق بها الشباب وتخاذلت عنها – بداية ً- التياراتُ الدينية، رسّبتْ في شعور المتخاذلين بألا حق لهم فيها، حتى أن امتطاءهم لصهوتها- بعد نجاحها – لابد عمّق شعورهم بأن منهاجهم البرجماتي (النفعي) ليس يقود إلا للغربة Alienation ومن كان ذلك شعوره فلا ُينتظر منه استبسالاً مقاتلاً من أجل ما ليس له حق أصيل فيه.
مغزى انقلابات جنرالات الترك
بعدما أطاح كمال أتاتورك بالخلافة العثمانية 1923 رأى ومعه النخبة المثقفة من ضباط الجيش ألا سبيل لنهضة تركيا سوى بتشييد جمهورية تأخذ بأساليب الدولة اللبرالية الحديثة، مع التسليم بأن الإنسان التركي [ الذي عاش قروناً ينظر لنفسه باعتباره "رعية" ] لن يتحول ثقافيا ً بين ليلة وضحاها إلى وضعية "المواطنة" Citizenship ومن ثم فعلى النخبة "الواعية" أن تمهد له الطريق بالتعليم العصري والفكر المتقدم والنشاط الاقتصادي الحديث، بجانب تصديها للقوى التقليدية الرافضة لذاك التحول، فلقد دأبت تلك القوى على حشد الجماهير للمطالبة بإعادة الخلافة كما في انتفاضة الشيخ سعيد الكردي عام 1925 ثم في مناورات حكومة عدنان مندريس بتحالفها مع كبار ملاك الأرض الزراعية ممن ساءتهم التأميمات وتحديد الملكية، وبتهيجها الغوغاء على الدولة، مما اضطر الجيش إلى التدخل بانقلابه الأول الشهير في 1960، ليتكرر ذلك التدخل بانقلاب 1971 ضداً على نجم الدين أربكان الذي حاز بشعاراته الدينية "شعبويةً" كبيرةً بين أوساط المحافظين ولدى الفئات الأكثر فقراً وجهالة. وأخيراً ولأسباب مشابهة تدخل الجيش التركي عام 1980 بقيادة رئيس أركانه الجنرال كنعان إيفرين، وكان رجلا شديد التقوى والتواضع والزهد والصرامة معاً، فاستطاع بفضل هذه الصفات أن يغدو رئيساً للجمهورية لسبع سنوات أضفي فيها الحماية على حكومة تورجوت أوزال لتستكمل التحولات الحداثية المنشودة للبلاد. وباكتمال تلك التحولات لم يعد للدولة التركية مانع أن يتولى حكم البلاد حزب يرى في الدين عاصماً من الزلل الأخلاقي والتفسخ الروحي، ما دام ذاك الحزب مؤمناً بأن الدين للديان وأن الدولة للمواطنين أيا كانت عقائدهم أو أيديولوجياتهم أو لغاتهم أو جنسهم Race أو نوعهم Gender.

الجيش المصري ليس علمانياً
لحسن الطالع ألا يكون الجيش المصري مضطراً للقيام بانقلابات شبيهة بانقلابات نظيره التركي، فالدولة المصرية منذ إعلان الجمهورية في 1953 لا تزال سالمة لا شية فيها تسر الناظرين، وأما سلطة الحكم فلقد حملها الشعبُ المصري إلي جيشه طواعية فور انتصاره في ثورة يناير، مستلهماً الآية الكريمة " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" وهل ثمة قوي أمين يستأجره المصريون حارساً لهم أثناء انشغالهم في بناء دولتهم المدنية الديمقراطية خيرٌ من جيشهم العظيم؟
ومن دواعي الغبطة أيضاً ألا يكون للجيش علاقة بالعلمانية في معناها الغربي الكلاسيكي ( = تنحية الدين لحساب الدنيا وحدها) فضباط وجنود مصر مؤمنون بالله ورسله وكتبه وباليوم الآخر، وهم كشعبهم يصادقون على وظيفة الدين في حفظ مكارم الأخلاق وحماية الكائن البشري من التيه في صحارى اليأس الوجودي ودياجير الإلحاد، وهذا الإيمان النقي عائد إلى غياب الكهنوت عن بنية الإسلام الثقافية فلم تجر حروب (في مصر على الأقل) بين سلطة دينية وسلطة دنيوية، كالحروب التي شنتها البابوات على ملوك وأمراء أوربا. وبفضل تلك البنية الثقافية ظل المصريون مسلمين وأقباطاً محتفظين بطابعهم المدني الحضاري يزرعون ويصنعون ويبنون ويتاجرون، محتفين بقيم الدين الأخلاقية دون تطرف أو تعصب، تمسكاً بالمبدأ الفقهي الرائع "المصالح المرسلة" الذي يقوم عند الإمام مالك مقام الحديث، انطلاقاً من قاعدة شرعية "عقلية" أرساها النبي الكريم بقوله : أنتم أدرى بشئون دنياكم.
تصريح الفريق وثقافة الإسلام
من هنا ندرك أن موروثنا الثقافي المصري الإسلامي يلفتنا إلى أنه لا مسلماً ولا قبطياً له مشكلة وجودية أو معرفية مع الدين؛ إنما يخلق المشكلاتِ البعضُ ممن يريدون استخدام الدين لتحقيق أغراض سياسية " دنيوية"، وحتى هؤلاء بالإمكان استيعابهم ضمن منظومة سياسية أكثر انفتاحاً وتسامحاً من ناحية، ومن أخرى أشد صرامة إزاء من ينتهك منهم الدستور والقانون، وفي هذه الحالة يكفي تفعيل قانون مباشرة الحقوق السياسية لشطب أي حزب يقوم (أو يباشر العمل السياسي) على أساس ديني.
بالطبع لم يفت المجلس العسكري مدلول يوم 19/3/2011 حين اندفعت الكثرةُ من تلك التيارات المتطرفة الوافدة إلى عملية تضليل عجيبة، بموجبها راحت تحلف لملايين البسطاء الأميين أن علامة نعم "الخضراء" هي رمز الإسلام، والأخرى "السوداء" رمز الكفر! وموهمة أنصاف المتعلمين أن " التصويت بـ "لا" معناه إلغاء المادة الثانية من الدستور" !! فهل بعد ذلك شك في أن مثل تلك الممارسات ليست مما يقره دين أو شريعة، ولا يقبله دستور أو قانون؟
فإذا وضعنا تلك الممارسات جنباً إلى جنب أعلام " السعودة" والهتافات النارية " كلنا أسامة بن لادن" في ميدان التحرير، والتفجيرات والمذابح تحت الأعلام السوداء في العريش قصد إقامة إمارة إسلامية في سيناء؛ لأدركنا القيمة الكبرى لتصريح الفريق عنان الحاسم " الدولة المدنية مسألة أمن قومي " ولاتضح لنا ضرورة أن ُينص في الإعلان الدستوري القادم على دور الجيش بوصفه الضامن لمسيرة "الشعب" نحو الديمقراطية في خصوصيتها المصرية، هذه الخصوصية التي لا تخالف مجمل شروط العقل الإنساني عبر التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
طارق حجي ( 2011 / 8 / 24 - 13:24 )
مقال رائع وأكثر من رائع


2 - رائع
داليا حمدي ( 2011 / 8 / 26 - 14:08 )
مقال بديع يعرض خريطة التوازنات السياسية ويراهن على النموذج التركي معدلا

اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -