الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نزع صور - الزعيم المبجل-

عبدالله المدني

2004 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


نزع صور " الزعيم المبجل"

مما لا جدال فيه أن المجتمعات التي تنعدم فيها حرية التعبير و حق الحصول على المعلومة الصحيحة توفر بيئة خصبة لظهور الشائعات و الروايات الغامضة كلما وقع حدث ما. ويزداد الأمر سوءا حينما تكون تلك المجتمعات محكومة بأنظمة بوليسية قمعية قائمة على إيديولوجية تقديس الحاكم الفرد و رفعه إلى مصاف ما فوق البشر.
وفي هذا السياق تبرز كوريا الشمالية بنظامها الستاليني الحديدي كأحد الأمثلة الحية على صحة هذه النظرية.

فبمجرد أن أوردت وكالة ايتار تاس الروسية للأنباء في منتصف الشهر الجاري خبرا من بيونغيانغ مفاده أن صور الزعيم الكوري الشمالي "المبجل" كيم جونغ ايل قد اختفت من الأماكن العامة ، سرت موجة من الشائعات و التكهنات المتضاربة حول حقيقة ما يكون قد جرى في هذه الدولة البائسة. ثم جاءت تأكيدات وسائل الإعلام اليابانية التي تراقب الأوضاع الكورية الشمالية عن كثب و ترصدها أولا بأول لتزيد من وتيرة الشائعات ، لا سيما وأنها حملت أخبارا أخرى عن توقف إعلام بيونغيانغ الرسمي عن إقران اسم كيم جونغ ايل بصفة "الزعيم المبجل" و الاكتفاء بالإشارة إليه كزعيم لحزب العمال الثوري الحاكم وقائد أعلى لجيش الشعب الكوري.

و في بلد تحتل فيه صور الزعيم و رسومه الجدارية العملاقة و تماثيله الصماء الضخمة موقع الصدارة في الميادين العامة و الطرقات و المباني الحكومية ووسائل المواصلات و غيرها من المعالم ، كان لا بد أن تثير عملية إزالتها كلها أو بعضها لغطا كبيرا في أوساط المراقبين و محللي الشئون الكورية و تدفعهم إلى ضرب الأخماس في الأسداس ، خاصة وان الحدث يتعلق بنظام يعاني عزلة مريرة و يواجه مشاكل اقتصادية حادة ويتعرض لضغوط خارجية هائلة.

البعض في تفسيره للحدث لجأ إلى نظرية اندلاع خلافات في هرم السلطة نجم عنها تحجيم صلاحيات الزعيم المبجل دون إسقاطه كليا ، وذلك بهدف الإيحاء للخارج بحدوث تغيير يستوجب تعاملا مختلفا مع النظام من قبل المجتمع الدولي. ومثل هذه النظريات ليست جديدة ، بل ظلت تتردد منذ صعود كيم جونغ ايل إلى القمة خلفا لوالده المؤسس كيم ايل سونغ في عام 1994 . إذ كثيرا ما أشيع عن تذمر كبار جنرال المؤسسة العسكرية القوية (مليون ومائة ألف عنصر) و منظري الحزب الحاكم من عملية ايلاء السلطة العليا إلى من اعتبروه شخصية سطحية لا تملك من مؤهلات الزعامة و الشرعية التاريخية سوى انه ابن مؤسس البلاد ، ولن تستطيع ملء الفراغ الذي أحدثه الأخير برحيله. بل قيل أن استبدال كيم بشخصية أخرى ليس سوى مسألة وقت ، الأمر الذي كذبه استمرار الرجل في الزعامة طوال عقد من الزمن حفل بالكثير من الهزات ابتداء من الكوارث الطبيعية و المجاعة وموت مئات الآلاف من المواطنين وانتهاء بانقلابين فاشلين على الأقل و انشقاق رموز حزبية ودبلوماسية كبيرة وهروب إحدى زوجات الزعيم إلى الخارج.

أما البعض الآخر فقد استبعد النظرية السابقة كليا ، و فسر الأمر على انه مجرد عملية إزالة لرسومات قديمة للزعيم الملهم تصوره وهو شاب عشريني غض قليل التجربة ، وذلك استعدادا لتثبيت صور و جداريات حديثة له توحي للجماهير بنضجه وتراكم خبراته و تمنحه الهيبة و الوقار الضروريين لكسب قلوب العامة.

وما بين هذين التفسيرين ، خرجت بطبيعة الحال تفسيرات أخرى ، احدها أن العملية قد تكون مقدمة للتخلي عن أيديولوجية عبادة الزعيم الفرد التي ارتبطت بنظام بيونغيانغ الشيوعي منذ قيامه في عام 1948 ، وكانت موجبة لانتقادات مريرة ضده من قبل خصومه ، وذلك من اجل كسب دعم وتأييد المزيد من الكوريين في الشطر الجنوبي ، حيث يشهد المجتمع هناك انقساما غير مسبوق ما بين معسكر مؤيد أو متعاطف بدرجات مع كوريا الشمالية بقيادة التنظيمات اليسارية و الشبابية ومعها إدارة الرئيس رو مو هيون و حزب يوري الذي يملك أغلبية مقاعد البرلمان ، ومعسكر معاد لبيونغيانغ بقيادة التنظيمات اليمينية و قوى المعارضة المحافظة ممثلة في الحزب الوطني الكبير.

و مما أبرزه أصحاب هذا الرأي كدليل على صحة تفسيراتهم للحدث أن "الزعيم المبجل" كان قد أمر في عام 2001 أنصاره في أوساط الكوريين الشماليين المقيمين في اليابان (حوالي مائة ألف نسمة) بإزالة صوره من المدارس و المؤسسات التابعة لهم كوسيلة لترغيب الجالية الكورية الجنوبية في اليابان (حوالي نصف مليون نسمة) في إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس و المؤسسات ، وبالتالي تحقيق الاندماج والوحدة ما بين الطرفين.

ومن التأويلات الأخرى أن الزعيم الكوري الشمالي أمر شخصيا بإزالة صوره ليمتحن شعبه و يفرز الموالين منهم من المعادين وفقا لسرعة استجابتهم للطلب أو امتناعهم عن تنفيذه. ومثل هذه النظرية تستند إلى سابقة حدثت عام 1978 أي بعد أربع سنوات من تسمية كيم جونغ ايل كولي للعهد. وقتها قيل أن كيم الابن شعر بعدم تعلق الجماهير به و تحمسها له قياسا لما كان يتمتع به والده كيم ايل سونغ ، وأراد التأكد من ذلك ، فأصدر أمرا بإزالة صوره المعلقة إلى جانب صور والده. وكانت النتيجة أن الذين تحمسوا لتنفيذ الأمر اعتقلوا من قبل المخابرات والقي بهم في المعتقلات التي تعني في كوريا الشمالية الموت البطيء.

إلى ما سبق تداول فريق من المراقبين فرضية أن يكون للحدث علاقة بقرب انتقال السلطة إلى احد أبناء الزعيم المبجل كنتيجة لمرض الأخير و عجزه عن تحمل مسئولياته، خاصة وان شائعات كثيرة انتشرت في السنوات الأخيرة عن تردده على المستشفيات الصينية سرا للاستشفاء من أمراض سببها – بحسب مصادر المنشقين ممن كانوا يوما من رموز النظام – شراهة الزعيم الكوري الشمالي في تناول الأطعمة و احتساء الخمور وإسرافه في الملذات.

وبغض النظر عن مدى صحة هذه الفرضية من عدمها ، فإنها فتحت الباب أمام التساؤل عمن سيخلف الرجل في قيادة كوريا الشمالية في حالة وفاته. حيث يستبعد الكثيرون أن تؤول القيادة إلى نجله الأكبر "كيم جونغ نام" من الممثلة الكورية السابقة "سونغ هاي ليم" التي اختارها الزعيم المبجل خليلة له قبل أن تفقد الحظوة لصالح غيرها وتهرب إلى موسكو وتموت هناك في عام 2002 . أما السبب في نظر هؤلاء فهو افتقاد الابن الأكبر لصفات الرجولة والحزم الضرورية لقيادة بلد شمولي ككوريا الشمالية ، واتصافه بصفات اقرب إلى صفات المراهقين المدللين. و مما يذكر عنه أن ولعه الشديد بألعاب "ديزني لاند" قاده إلى التردد أكثر من مرة على اليابان بجواز سفر مزور تابع لجمهورية الدومانيكان وباسم صيني مستعار من اجل رؤية منشآت ديزني في طوكيو ، كان آخرها في عام 2001 حينما اكتشفت السلطات اليابانية الأمر و نشبت أزمة دبلوماسية بين البلدين.

ومن هنا قيل أن المرشح الأقوى لقيادة البلاد في حقبة ما بعد كيم جونغ ايل هو ابنه الآخر "كيم جونغ تشول" من عشيقته الراقصة "كو يونغ هي" التي أنجبت له ابنا آخر أيضا هو "كيم جونغ وون". وكو ولدت في اليابان لعائلة كورية كادحة انتقل ربها إلى بيونغيانغ في الستينات مدفوعا بأوهام العدالة والإنصاف في جنة الاشتراكية الكورية الشمالية ، وارتبط بها الزعيم المبجل برابط غير رسمي إلى حين وفاتها بالسرطان قبل عدة أعوام حيث منحت لقبي "المرأة العظيمة" و "الأم المبجلة".

على أن تقديم كيم جونغ تشول على إخوته الكثر الأكبر سنا في عملية الخلافة يحمل في حد ذاته بذور مشاكل خطيرة. فالأبناء الكبار لن يقبلوا حتما الرضوخ لقيادة و مشيئة من هو اصغر سنا ، وبالتالي قد يقع الصراع الذي تأخر طويلا ، هذا إذا لم يسقط النظام بأكمله قبل ذلك ذاتيا أو بفعل خارجي.

د. عبدالله المدني
*باحث أكاديمي وخبير في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة : 27 نوفمبر 2004
البريد الالكتروني : [email protected]
.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟