الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العولمة والهوية القومية
هشام غصيب
2011 / 8 / 25العولمة وتطورات العالم المعاصر
(كتبت منذ أكثر من عقد من الزمان)
لكل عصر وثنه. ووثن عصرنا هو العولمة. والوثن ليس واقعاً بقدر ما هو وهم آيديولوجي وقفص فكري للجم الفعل والممارسة وتقييدهما. لكنه، مع ذلك، ليس معلقاً وحده في الأثير، وإنما يرتكز إلى واقع فعلي وينبع منه ويعبر عن اغترابه وزيفه وبشاعته. فما هو هذا الواقع الفعلي الذي يشكل أساس هذا الوثن الأثيري الذي تروجه الإمبريالية الثقافية في العالم؟ إن الإجابة الجدية عن هذا السؤال تستلزم أولاً تفكيك هذا الوهم، على طريقة ماركس بالطبع وليس على طريقة دريدا، وتبديد عناصره واختراقه صوب هذا الواقع المعقد. فإذا تسنى لنا أن نفعل ذلك، تبين لنا أن هذا الوثن انعكاس مقلوب للواقع، يمارس باسمه عكس ما يدعو إليه ويزعمه. فمثلما سخر في الماضي القريب وثنا الاشتراكية والديموقراطية تبريراً لأكثر الممارسات والنظم استغلالاً واستبداداً وقهراً، فإن وثن العولمة يسخر اليوم تكريسا لنظام الجوع والبطالة والاحتراب الأهلي وتدمير البيئة وتهميش مليارات البشر وتفكيك الأمم في الأطراف وترسيخ العنصرية والتحيزات الموروثة وضيق الأفق الإثني والتعصب الطائفي. وأخطر ما يسخر من أجله هو تفكيك الوعي الاشتراكي الثوري والقومي التحرري. فإذا ما تجاسر المرء هذه الأيام وتكلم عن التغيير الثوري وتخطي الكائن الرأسمالي صوب الكامن الاشتراكي، أو عن التنمية الوطنية والقومية، أو عن تحرير الأرض والموارد والإنسان، أو عن الوحدة القومية، أو عن الإدارة الاشتراكية للإنتاج، ارتسمت على وجوه الحضور ابتسامة شفقة وازدراء، وتهامسوا في ما بينهم معتبرين المتكلم خارج التاريخ ورومانسيا حالما يعيش الماضي الوردي، وذلك كله بالطبع باسم العولمة وما يرتبط فيها من تقانة متطورة كالحاسوب والإنترنت وثورة الاتصالات. ولا يقتصر هذا الموقف على أوساط اليمين التقليدي، وإنما يتعداه إلى أوساط اليمين الجديد (اليسار سابقاً). فالعولمة لدى هذه الأوساط تعني الأممية الجديدة وذبول الدول الوطنية اللذين عجزت الحركة الشيوعية العالمية عن تحقيقهما. إنها نهاية التاريخ ومحصلته وضمان الرخاء والديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. وأي حركة تقف أمام هذا المد الجارف إنما هي حركة رجعية رومانسية واهمة مصيرها الجمود والاستبداد فالانهيار. والغريب أن هذا الخطاب نجده أقوى ما يكون لدى بعض أوساط اليسار التقليدي. لكن ربما أن الأمر ليس بهذه الغرابة. فالمغلوب ينـزع دوما إلى تقليد الغالب والتمثل به والانصياع لهيبته. لكن قوة هذا الخطاب لا تأتي من ذاته، فهو خطاب لا منطقي متهافت، وإنما تأتي من قوة الواقع المغترب وشدة اغترابه. فحتى مفكر ماركسي معروف بقدراته النقدية الفائقة كصادق جلال العظم نجده يؤكد بعض جوانب هذا الخطاب الجارف يمجد بصورة غير مباشرة العولمة ويعتبرها تياراً جارفا لن يقوى أحد على مجابهته، بل ومن العبث مجابهته. إن العولمة وثن هش، لكنه محاط بهالة صلبة من هيبة البرجوازية الغربية المتجبرة، الأمر الذي يعقد عملية تفكيكه والنفاذ منه صوب الواقع. لكن صعوبة المهمة لا تلغي ضرورتها. فنلقِ الضوء على بعض ما نعتبره مغالطات بصدد العولمة في سياق تفكيك هذا الوثن.
بأي معنى تعد العولمة مرحلة جديدة وعهداً جديداً؟ ألم تنشأ الرأسمالية معولمة؟ ما الجديد في عولمة الخمس الأخير من القرن العشرين؟ أليست المؤسسات التي تحمل راية العولمة وتنظم العولمة وتعززها، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والغات والمنظمات التابعة لهيئة الأمم، وليدة حقبة الحرب الباردة، وليدة اتفاقيات بريتون وودز والهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي؟ ثم، ألم تبدأ التدفقات الكبرى للرأسمال خارج حدودها القومية منذ الثلث الأخير للقرن التاسع عشر؟ أين الجديد إذاً في العولمة؟ يبدو لي أن العولمة إن هي إلا مجموعة مترابطة من الظاهرات العالمية الجديدة الناتجة عن جملة من التراكمات القديمة. ولعل في مقدمة هذه الظاهرات:
( أ ) لقد أتاحت ثورة الاتصالات والمعلومات الفرصة أمام الرأسمال النقدي للتدفق والتداول عالميا بصورة غير مسبوقة، بحيث أضحت تحولات الأموال السائلة تفوق حجم التجارة الدولية بأكثر من ستين مرة. وقد جاء هذا التدفق الهائل إنقاذاً مؤقتا للنظام الرأسمالي العالمي، ولكن على حساب نمو الإنتاج الفعلي وتقدمه. من ثم، فهناك نمو سرطاني للمارسات الطفيلية غير الإنتاجية على حساب العمل المنتج. إنه نظام في طور التعفن، بعكس ما تدعيه أبواق دعايته من أنه نهاية التاريخ وقمته والنظام الطبيعي لتنظيم الحياة. إنه في الواقع تعبير عن إدارة أزمة الرأسمالية المتفاقمة منذ منتصف السبعينيات، وليس حلاً لها.
(ب) أتاحت ثورة الاتصالات والمعلومات المجال لعولمة الإنتاج وعولمة تقسيم العمل، بحيث لم يعد تصدير رؤوس الأموال وانتقالها مقصوراً على الرأسمال النقدي والرأسمال التجاري، وإنما أخذ يشمل أيضا الرأسمال الإنتاجي، الأمر الذي مكن البرجوازية من إفراغ المنظمات العمالية القومية من مضمونها وتجريدها من فاعليتها.
(جـ) وصل تفكيك نظم الإنتاج ما قبل الرأسمالية حداً أن أضحى الغالبية الساحقة من سكان الكرة الأرضية منخرطين في آلة الإنتاج والتوزيع الرأسمالي. كما أدى ذلك إلى توسع هائل في عدد أفراد الطبقة العاملة على الصعيد العالمي، وإلى تفوقها العددي على الطبقات المنتجة الأخرى على الصعيد العالمي لأول مرة في التاريخ. ومع تنامي جيش الاحتياط العمالي وعولمة الإنتاج، أتيح المجال لتخفيض أجور العمال في المراكز والأطراف، وتزايدت نسبة البطالة بصورة مريعة.
( د ) برز دور الشركات المتعدية الجنسيات Transnationals العملاقة بصورة صارخة في العقد الأخير، فهي تتحكم الآن بثلاثة أرباع الأنشطة الاقتصادية على الصعيد العالمي. وتشير الإحصاءات إلى أن دخل خمسين من هذه الشركات يفوق دخل ثلثي أقطار العالم.
(هـ) يعمد الرأسمال العالمي المعولم إلى تفكيك دول الأطراف وأممها التي تشكلت في المراحل السابقة بفضل الثورات الاشتراكية وحركات التحرر القومي، على أسس إثنية وطائفية ضيقة تصب في مصلحة السوق العالمية على حساب السوق القومية والتنمية الوطنية.
( و ) شهد عصر العولمة تنامياً ملحوظاً في تجارة المخدرات والجريمة المنظمة عالميا وتداخلهما مع الرأسمال النقدي.
( ز ) تدل الدراسات على أن أثر العولمة على البيئة أثر كارثي، إذ غدت الكرة الأرضية برمتها مهددة بالدمار الشامل.
( ح ) دشن عصر العولمة بإزالة الأسوار والقلاع الاشتراكية والوطنية التي كانت تحد من حرية حركة الرأسمال والشركات والمؤسسات المتعدية الجنسيات ومن ساحة فعلها. فالعولمة كالطوفان تجرف أمامها وأمام فوضاها أعتى السدود والصروح.
إن هذه الظاهرات التي تشكل في مجموعها ما نسميه العولمة كانت موجودة في المرحلة السابقة، لكنها لم تكن تحتل المركز الذي تحتله اليوم ولم تكن بارزة إلى هذا الحد الصارخ. لذلك، فهناك مبرر حقيقي لاعتبار الفترة التي ابتدأت بمنتصف الثمانينيات طوراً جديداً بالمعنى الجدلي من أطوار الرأسمالية، طور العولمة. لكن دخول الرأسمالية في طور جديد لا يعني أنها تغلبت على تناقضاتها وأزماتها الجوهرية، وإنما أفلحت فقط في تأجيل الانفجار بتوسيع مجال هذه التناقضات والأزمات وتعميقه. لكن هذا التأجيل، الذي تستفيد منه البرجوازية العالمية، يأتي على حساب الطبقة العاملة العالمية وحساب بيئتها ومجالها الحيوي. وبهذا المعنى، فإن العولمة قد تكون منقذاً مؤقتا للبرجوازية، لكنها بالتأكيد وبال على الطبقة العاملة والأمم المسحوقة. إنها هجمة جديدة للرأسمال على الطبقة العاملة والأمم المسحوقة على الصعيد العالمي تسعى إلى تفكيك المنظمات والأطر والحواجز العمالية والقومية والتنموية التي سبق أن بنتها الثورات الاشتراكية وحركات التحرر الوطني لحماية الطبقات الكادحة والأمم الناشئة من تغول الرأسمال وفوضاه المدمرة. وقد سخر الرأسمال المعولم من أجل ذلك أدوات متنوعة لتحقيق ذلك، وفي مقدمتها الحصار الاقتصادي والمديونية ووصفات صندوق النقد الدولي واتفاقيات الغات. وكما جاء في الخلاصة التي توصلت إليها المحكمة الدولية للشعوب في حكمها ضد مجموعة السبع G7 الصادر في طوكيو عام 1993 بخصوص التكيف الهيكلي، فقد كانت نتيجة هذه الهجمة العاتية:
- ارتفاع نسبة البطالة في كل مكان.
- انخفاض عوائد العمل.
- تفاقم التبعية الغذائية لبلدان عديدة.
- تفاقم تدهور ظروف البيئة تفاقما خطيراً على الصعيد العالمي.
- تدهور النظم الصحية والتعليمية.
- تفكيك نظم إنتاجية في العديد من الأقطار.
- وضع عوائق متصاعدة أمام تدعيم النظم والمؤسسات الديموقراطية.
- استمرار تضخم عبء الديون الخارجية.
وأحيلكم في هذا الصدد إلى كتاب سمير أمين، “في مواجهة أزمة عصرنا”، الصادر عام 1997.
إن العولمة هجمة رأسمالية نمطية تسعى إلى تفتيت الأمم في الأطراف وتذرية الطبقات العاملة، ومن ثم خلق كومة من العمال “الأحرار”، بمعنى الذين لا يربطهم ببعضهم رابط والذين يرتبطون بشروط حياتهم كليا عبر السوق الرأسمالية العالمية المعولمة. إن البرجوازية العالمية تحاول أن تبرر هجمتها الشرسة على مكتسبات الشعوب والطبقات الكادحة، التي راكمتها في المراحل السابقة، بالادعاء أن تفكيك مؤسسات القطاع العام وأطره وحواجزه هو شرط من شروط الكفاءة الاقتصادية والفاعلية الإنتاجية والدينامية التكنولوجية العالية، وأن هذه المؤسسات والأطر هي كيانات طفيلية مكلفة تقود إلى الجمود وتعوق حركة الاقتصاد. أما الشعوب والطبقات الكادحة فتدرك جيداً أن الحل لا يكمن في إزالة القطاع العام، وإنما في توسيع فعله وإصلاحه إداريا ودمقرطته ووضعه تحت الرقابة الشعبية والمؤسسات الشعبية الديموقراطية. وفي الأطراف بالتحديد، فقد كان أثر تفكيك القطاع العام، أو ما يسمى الخصخصة، كارثيا على عدة صعد؛ من حيث دوره في تخفيض مستوى الأداء الإنتاجي والخدمي، ومستوى معيشة العاملين ودخلهم، والارتفاع الكبير في نسبة البطالة، وتفكيك السيادة الوطنية والقواعد الإنتاجية. كل ذلك يدل على أن العولمة وما يصاحبها من إجراءات ليست سوى استمرار للهجمة الرأسمالية على الأمم والطبقات الكادحة في ظروف ثورة الاتصالات والمعلومات وانحسار حركة الثورة العالمية. وهي تتيح المجال للرأسمال العالمي للحد من نزعة انخفاض معدل الربح ولخلق شروط أفضل لاستغلال الأمم والطبقات الكادحة.
وهنا نتوقف عند ثلاث نقاط مترابطة:
(1) راجت في كثير من الأوساط مؤخراً مقولة أن الدولة القومية فقدت المبرر الرأسمالي لوجودها في عصر العولمة وأصبحت عبئاً على الاقتصاد الرأسمالي تسعى الرأسمالية إلى تفكيكه وإزالته، وكأن الرأسمالية أفلحت في تحقيق ما حلمت به الاشتراكية وما عجزت الأخيرة عن تحقيقه. لكن أصحاب تلك المقولة يتناسون أن الرأسمالية نشأت معولمة من رحم التجارة الدولية، وأنها مع ذلك عملت على نشوء الدولة القومية في المراكز الرأسمالية. وكان للدولة القومية دور أساسي في ترسيخ الرأسمالية وهيمنتها في المراكز وعلى الأطراف. وهم يتناسون أيضاً أن طور الإمبريالية، الذي ابتدأ عام 1870 وشهد تقسيم الكرة الأرضية بين المراكز الرأسمالية الكبرى وتصديراً غير مسبوق في الرأسمال، شهد أيضاً توسعاً غير مسبوق في أجهزة الدولة القومية المركزية ونطاق فعلها ونفوذها. فالعولمة إذاً لا تدلّ أبداً على أن الدولة القومية فقدت مبرر وجودها لدى الرأسمال. فالرأسمالية لا تستطيع البتة، وبحكم جوهرها وفي أطوارها كافة، الاستغناء عن الدولة القومية، الضامن الأكبر لنظام الملكية الخاصة وهيمنة البرجوازيات القومية المركزية. إن الطور الجديد للرأسمالية، طور العولمة، يعزز وجود الدولة القومية في المراكز الرأسمالية، لكنه يتخطاها ويعتبرها غير كافية لتلبية حاجاته السياسة والاقتصادية، ومن ثم يعمد إلى خلق أطر سياسية جديدة معولمة، ولا أقول “أممية”، تكمل وظيفة الدولة القومية المركزية. ومعنى ذلك أن الرأسمال المعولم يستلزم تغيير بعض وظائف الدولة القومية المركزية ولا يكتفي بها، وإنما يعمد إلى خلق أطر سياسية واقتصادية معولمة تكملها. وبالطبع، فإن عدم الاكتفاء بالشيء لا يعني الاستغناء عنه. وتتضح هذه النقطة تماماً إذا طرحنا على أنفسنا السؤال الآتي: من الذي يتحكم بالرأسمال المعولم والدولة القومية المركزية معاً؟ ونجيب أن الذي يتحكم بهما معاً هو البرجوازيات القومية المركزية، التي نشأت قومية وبالتلازم مع الدولة القومية وما زالت تحمل ملامحها وسماتها القومية. إن هذه البرجوازيات هي التي خلقت المؤسسات الدولية والمعولمة وهي التي تسيّرها اليوم لصالحها. وقد أوجدت هذه البرجوازيات مؤسسات سياسية وعسكرية واقتصادية مشتركة بينها تعبر عن مصالحها المشتركة وتسخر منابر للتنسيق بينها في إدارة نظام الاستغلال الرأسمالي. فمن الذي يتحكم بمؤسسات بريتون وودز، كالبنك الدول وصندوق النقد الدولي والغات ومؤسسات التنمية المعولمة، سوى مجموعة G7 ، أي مجموعة البرجوازيات الإمبريالية الرئيسية في عالم اليوم؟ وتعد الدولة القومية المركزية ذراعاً مهما من أذرع هذه البرجوازيات القومية، لكنها ليست الذراع الوحيدة. إن هذه البرجوازيات متعددة الأذرع، لكن ذلك لا يعني أنها مستعدة للاستغناء عن ذراعها الرئيسية التي تكونت بها ومعها.
(2) وبالمقابل، فإن العولمة تنـزع إلى تفتيت الأمم والتكتلات القومية في الأطراف على أسس إثنية وطائفية ضيقة. فهذة التكوينات القومية يعدها الرأسمال المعولم عائقاً وحاجزاً أمامه وأمام السوق العالمية التي يهيمن عليها. لذلك يسعى إلى تكسيرها وتفتيتها. فإنه من الأسهل عليه دمج الكيانات الإثنية والطائفية الهشة في السوق العالمية المعولمة من دمج الأمم والتكتلات القومية الكبيرة فيها. لذلك رأيناه يؤدي دوراً أساسيا في تفتيت الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، ويسعى إلى تفكيك الهند والعراق والسودان ومصر والجزائر وغيرها من الدول العربية والإفريقية والآسيوية. وفي الوطن العربي وإفريقيا المفتتين أصلاً، فإنه يسعى إلى مزيد من التفتيت والبلقنة داخل القطر الواحد والإقليم الواحد، يساعده في ذلك تلاحمه واشتراكه في الهدف مع المشروع الصهيوني. لكن نزعة التفتيت القومي في الأطراف لدى الرأسمال المركزي ليست بجديدة. إذ منذ دخول الرأسمالية مرحلة الإمبريالية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وهي تسعى إلى تفتيت أمم الأطراف وخلق الآليات للحيلولة دون تحقيق وحدتها على أسس تنموية جديدة تنسجم وروح العصر. ولئن أخفقت الإمبريالية في مطلع القرن العشرين في تفتيت روسيا بفضل ثورة أكتوبر الإشتراكية، فإنها أفلحت في ذلك تماماً في الوطن العربي وفي أماكن أخرى من الأطراف. وجاءت ردة الفعل لهذا النـزوع الإمبريالي على صورة ثورات اشتراكية وحركات تحرر قومي في الأطراف، ووضعت هذه الثورات والحركات نصب عينيها تعطيل آليات التفتيت الإمبريالية وتوحيد أمم الأطراف وخلق تكتلات قومية على أسس تاريخية وثقافية وتنموية مكينة. إذ أدركت أن لا معنى للتنمية المتمحورة حول الذات والمعطلة لآليات التخلف الرأسمالية ولا معنى للتقدم الذي يوفر أرضية الحرية والإخاء والمساواة إلا ضمن إطار قومي واسع يأخذ وحدة التاريخ والثقافة بعين الاعتبار. إن مفهوم الوحدة القومية الثقافية هو مفهوم تنموي تحديثي بامتياز. وقد حققت هذه الحركات نجاحات مهمة على هذا الصعيد، وخصوصاً في الدول الشيوعية (الاتحاد السوفييتي، الصين، فييتنام، يوغسلافيا، تشيكوسلوفاكيا)، إلا أن إخفاق البروليتاريا الغربية في تحقيق ثورتها الاشتراكية وشراسة الهجمة الرأسمالية التي توجت بالعولمة حالا دون إكمال المسيرة وترسيخ الإنجازات التنموية. كما إنها أغرقا الحركة الشيوعية وحركات التحرر الوطني في بحر من التناقضات والثغرات الداخلية التي فجرتها من الداخل وأدت إلى انحسارها وتراجعها الكارثي التراجيدي. فتفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وتعرّض الوطن العربي إلى الحصار ومزيد من التفكك والاحتراب الداخلي. وهذا ما حصل أيضا في أفغانستان والدول الإفريقية. إن الرأسمال المعولم يسعى بالتأكيد إلى تدمير مكاسب الشعوب والطبقات المحكومة، وفي مقدمتها المنظمات العمالية في المراكز والتكتلات القومية التنموية في الأطراف. والنتيجة تزايد الهوة الفاصلة بين المراكز والأطراف بصورة مريعة وعلى جميع الصعد. ومن يهمه معرفة الأرقام في هذا الصدد، فيمكنه مراجعتي بعد المحاضرة.
(3) هناك لغو كثير يدور حول الشركات المتعدية الجنسيات. ويعمد الكثيرون إما إلى إغفال دورها في حياتنا المعاصرة وإما إلى تمجيدها واعتبارها المنقذ الأكبر بصفتها تجسيداً لثورة الاتصالات والمعلومات. وعليه، فإنه من الضروري إماطة اللثام عن وجه هذه الكيانات الاقتصادية التي تتحكم بأكثر من ثلاثة أرباع الأنشطة الاقتصادية العالمية. لقد نشأت هذه الكيانات العملاقة بين الحربين في المركز الرأسمالية رد فعل على الأزمة الخانقة التي مرت بها المراكز الرأسمالية في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت هذه الكيانات تتعمم عالميا وتنـتشر في سائر أنحاء المعمورة. لكنها لم تبدأ تدرك قدرتها على التحكم عالميا بالإنتاج والمال إلا في الثمانينيات وارتكازاً إلى الحوسبة وثورة الاتصالات والمعلومات. ومرة أخرى نسأل: ما هي القوى الاجتماعية العالمية التي تتحكم بها وتحركها، ومن ثم تحرك السوق العالمية والاقتصاد العالمي؟ إنها ليست سوى البرجوازيات الإمبريالية، البرجوازيات القومية المركزية، برجوازيات G7. إن هذه البرجوازيات القومية، التي حملت المشروع الرأسمالي على أكتافها منذ بدايته وعممته عالميا، تسخر هذه الشركات العملاقة أدوات في شفط الثروات وفائض القيمة من الأمم والطبقات الكادحة على الصعيد العالمي، مثلما تسخر دولها القومية أدوات في إدارة أزمة الاقتصاد الرأسمالي وفي إخضاع الطبقات والأمم الكادحة. هذا هو السرّ الاجتماعي الاقتصادي لهذه الشركات المستترة خلف غابة كثيفة من التكنولوجيا الباهرة.
وخلاصة القول هنا أن النظام الرأسمالي العالمي هو نظام عدواني استغلالي مدمر يزداد وحشية وعدوانية وهدراً للموارد. وهو يخفق في تلبية الحاجات الأساسية المادية والمعنوية لغالبية البشر اليوم. ومن ذلك تنبع ضرورة البديل. ولا بديل سوى الاشتراكية. لكن السبيل إليه ليس ممهداً ولا واضح المعالم. ويظل السؤال الذي طرحه لينين في مطلع القرن العشرين: ما العمل؟، قائماً. لكن وقت مداخلتي قارب على الانتهاء، إذا لم يكن قد انتهى فعلاً منذ دقائق. نترك إذا سؤال لينين المصيري قائماً لندوة أخرى، مثلما نتركه أساساً لبناء أممية جديدة وحركة تحرر عربي جديدة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - العولمة..مزيد من التقوقع
باسل
(
2011 / 8 / 27 - 03:21
)
الجديد في المقال هو تبيان أن العولمة مفهوم قديم قدم نشوء النظام الرأسمالي، وأن الراسمالية بطبعها امبريالية.العولمة تبدو للوهلة الاولى تقدمية ، عالم واحد ، كوكب واحد ، حقوق انسان واحد ..
ولكنها على العكس تجذر الاثنيات و الهويات المزيفة،، وتشيع قيم الاستهلاك،
بالمقابل الحركة العمالية العالمية صفرية تماما...كيف السبيل للبناء و تجاوز التحليل؟
...
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز