الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يرسم حدود العراق؟

سلام عبود

2011 / 8 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


تنويه: لا يهدف هذا النص الى دراسة مشكلة الحدود تاريخيا، وإنما يستخدم التاريخ لغرض رسم صورة مصغرة لمشكلة الحدود وانعكاس هذه المشكلة على صياغة شكل وسلوك الحاكم والسياسي العراقي مقارنة بجيرانه من غير العراقيين، وتاليا انعكاس هذه المشكلة على مشاعر المواطن العراقي وعلى ردود أفعاله المضطربة والمشتتة. إن دراسة الحاكم والمحكوم من خلال مشكلة الحدود، تمنح القارئ زاوية نظر جيدة تتيح له معرفة قوة تأثير الخارج في صناعة الصورة المرسومة عن العراق والعراقي في وعي الجميع: المجتمع العراقي، والغزاة، وسالبي حقوقه، ومراقبيهم. إن هذه العجالة البحثية لا تستقيم من دون إسهام جدي من قبل القارئ بالنقد والتصحيح والتعديل والإضافة، لأن الجانب السلوكي والاجتماعي من موضوع الحدود، وصلته بردود الأفعال الاجتماعية والسياسية، مادة لم تدرس على نحو معمق من قبل.

الجزء الأول
العراق ومشكلة الجوار
أثر الموقع الجغرافي في تطور مسارات العنف في العراق
1

تناقضات الذات وتناقضات الوطن
بالغ البعض في تحميل العوامل البيئية مسؤولية بناء التكوين العام للشخصية العراقية، ومن جانب آخر تجاهل الجميع بحث هذا الموضوع علميا، وجنحوا الى طرق سلبية في التعامل مع المشكلة، تمثلت في رفض الفكرة من أساسها، أو قبولها باستسلام من دون تمحيص؛ ولجأ البعض الآخر الى تعويم المشكلة، من طريق إهمال وجودها بحثيا والاكتفاء بنتائجها الحسيّة.
إن دراسة تاريخ القلق السياسي في العراق، الناشئ بسبب مشاكل الحدود، تكشف بيسر بالغ ارتباط هذا القلق بالعنف، وبتطور آليات وأشكال ظهور العنف هدفا ووسيلة ونهجا.
شكل المحيط الجغرافي الضاغط على العراق عاملا إضافيا مؤثرا، ساهم في صناعة أسباب الاضطرابات السياسية والاختناقات الاجتماعية، وما يرافقها من أشكال عنيفة مستخدمة لحل المشكلات الملازمة للأزمات. ولا غرابة إذاً أن نجد أحد أكثر الحكام ارتباطا بمشاكل العالم الرئيسية في مطلع القرن العشرين، السلطان عبدالحميد، الذي عاش فترة الحروب الأوروبية الكبيرة، وعاصر التقاسم الاستعماري، ورسم فكرة الاتصال والترابط الأرضي (السكة الحديد) للمنطقة باعتبارها رابطا وحدويا، والذي شهد الفصول الأخيرة لانهيار السلطنة العثمانية (جرد من الحكم عام 1909 وتوفي 1918)، يصور حوض دجلة والفرات على أنه مفتاح الدخول الى منطقة الشرق، ويرى أن وقوع وادي الرافدين فريسة بيد الانكليز يعني حصولهم على نقطة تفوّق تمكنهم من السيطرة على المنطقة بأسرها.
يحيط بالعراق طوق جغرافي متعدد اللغات والأعراق والمذاهب والتضاريس. ودول هذا الطوق متباينة الخصائص: قديمة ومستحدثة، غنية وفقيرة، ملكية وجمهورية، عصرية وتقليدية؛ سلطاتها تداولية ووراثية، دينية ومدنية، حزبية وعائلية، بعضها يشبه العراق دينيا ويختلف عنه قوميا، ومنها ما يشبه العراق دينيا وقوميا ويختلف عنه طائفيا. بيد أن العراق ليس البلد الوحيد الذي تحيط به دول عديدة، متنوعة التكوين. فتركيا على سبيل المثال محاطة بطوق عظيم التنوع الديني والعرقي والجغرافي والسياسي، مصحوب بتأريخ طويل من الصراعات الدولية المسلحة. ولكن، على الرغم من ذلك، ظلت علاقات تركيا الحديثة بمحيطها على درجة عالية من الانتظام والدقة، حتى في حالاتها الخلافية. والأهم من هذا، ان ردود فعل المجتمع التركي على نشاط المحيط الجغرافي، محسوبة حسابا دقيقا، لا يسمح بانتهاك هوية الشخصية التركية أو سيادتها وخصوصية بنائها، ولا يسهّل عملية إدامة الأحقاد وتحولها الى سلوك ثأري متصاعد ودائم النزف.
ما يميز الطوق الاقليمي العراقي أنه يحمل في ثناياه امتدادات عرقية ودينية ومذهبية واقتصادية وبيئية حيّة ونشيطة ومتفاعلة. وهي امتدادات إشكالية، للعنف السافر فيها نصيب كبير. بعض هذا العنف يتم إنتاجه محليا بشكل خالص، وبعضه الآخر مُستورد أو مشترك الإنتاج. وفي أحوال كثيرة هو عنف مُرحّل تاريخيا، لم تنزع فتائلة الدائمة الاشتعال. لذلك يرتبط حلّ الأزمات المصاحبة لهذه الامتدادات، إقليميا ومحليا، بالسلاح وحده. وفي الأعم يتجه هذا العنف داخليا، فيكون مادة محركة للصراعات المحلية، وأداة لحسم التناقضات السياسية والاجتماعية عنفيا. وربما يقترب العراق من السودان في معضلات أزمة الطوق، ولكن على نحو أكثر تعقيدا.
إن أهم ما يميز العراق أنه منطقة اللقاء المذهبي المشترك للسنة والشيعة العرب ذوي الأغلبية السكانية. لذلك هو منطقة الصدام الأولى، بحكم التكوين والطوق البيئي الطائفي: إيران ذات الأغلبية الشيعية والمحيط العربي - التركي - الكردي بأغلبيته السنية.
وفي المجال العرقي ينال العراق حصة الأسد من موضوع القلق المسلح الناشئ جراء الصراع القومي والسياسي مع القوى الكردية. والقضية الكردية مشكلة لها طابعها العنيف دائما، وجدت بحجم أكبر في إيران وتركيا، وحجم أقل في سوريا. لكنها، لسوء الحظ، حالها كحال الإشكال الطائفي، اتخذت من العراق، جغرافيا، نقطة التقاء، فصارت محطة عمل مسلح، ومشغلا سياسيا وعسكريا مشتركا للجميع، عدا سوريا، التي اتخذتها القوى السياسية في أوقات عديدة معبرا لتسريب السلاح والمقاتلين الى العراق، من دون أن تكون منطقة رد فعل معاكس على نحو جدي، كمناطق التماس التركية الإيرانية. ولكن، بعد سقوط نظام صدام حسين، تسارعت وتائرعمل القوى الكردية، بكل السبل السياسية والعسكرية، من أجل جعل الحدود السورية العراقية نقطة لقاء، ورقعة متصلة، مرتبطة بطوق عنفي وعرقي جغرافيا وسياسيا، تتمم عملية أسر العراق أسرا تاما وأبديا.

الكويت الشقيقة شوكة العراق السامة
حتى أضعف حلقات الطوق وأصغرها: دولة الكويت، تشكل عبئا عنفيّا تاريخيّا كببرا، يقف خلف تغذية مشاعر ونوازع ومكونات الصراع السياسي داخل العراق وخارجه. وفي أحوال كثيرة يقف الخلاف مع الكويت خلف خطط رفع سقف الصراع الإقليمي دوليا، وخلف تغذية الصراع الداخلي وصناعة معادلات الربط بين الداخل والخارج في وحدة عنفية فاعلة وحاسمة. مثل هذا السلوك ظهر منذ وقت مبكر حتى قبل استقلال الكويت. فقد قامت بريطانيا بمنح الشيخ مبارك هدايا - أهدى من لا يملك من لا يستحق- في هيئة أراض ومزارع وممتلكات داخل الحدود العراقية مكافأة على الثقة التي أبداها مع ال سعود في اسناد الجهد الحربي والسياسي البريطاني. وبناء على تلك الثقة أيضا قامت بريطانيا، من خلال المقيم السياسي في الخليج آنذاك بيرسي كوكس، باعلان الكويت مشيخة "مستقلة!" تحت الحماية البريطانية عام 1914. كما قدم شيوخ الكويت الدعم المسلح للفئات السنية ذات الميول البريطانية، ممثلة بنشاطات طالب النقيب في البصرة، الذي أبدى لاحقا طموحات سياسية، أكبر من الحجم المسموح له به، أغضبت السلطات البريطانية عليه، على الرغم من شدة ولائه للسياسة اليريطانية. ومن المعروف أن آل النقيب يرتبطون بعلاقات جيدة وقديمة مع آل الصباح. ففي الخلاف بين الشيخ مبارك ووالي البصرة العثماني حمدي باشا، انحاز السيد رجب النقيب الى مبارك وأرسل ابنه طالب النقيب عام 1899الى اسطنبول لغرض تأليب القيادة التركية على الوالي وتمّ لهم ذلك بعزله. وكان لطالب مطامع مبكرة، معادية لوحدة الأرض العراقية، تدعو الى فصل البصرة عن ولايتي بغداد والموصل والاتجاه بها جنوبا في تحالف خليجي.
تردد ظهور اسم الكويت كثيرا، بشكل مباشر أو غير مباشر، مرافقا لأحداث عراقية كبيرة: مقتل الملك غازي 1939، حركة مايس 1941(يستحسن تسميتها حركة نيسان)، الاتحاد الهاشمي 1957، ثورة تموز 1958، انقلاب 14 رمضان 1963، الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988، غزو الكويت وحرب تحريرها 1990 – 1991، حرب التعويضات والحصار 1991- ...، الاحتلال الأميركي 2003؛ وفي كل الأحداث السالفة كانت الكويت هي المنتصر في النزال، أما المجتمع العراقي فقد كان، ولم يزل، هو الخاسر النموذجي الأكبر. وحينما تلتقي مصالح الكويت الخاصة مع الطموحات الأنانية للسياسيين القوميين الأكراد والعرب أيضا، وحينما تتطابق هذه السياسة في لحظة تاريخية معينة مع نشاطات القوى الكبرى العدوانية، تتصاعد الكوارث العراقية الى ذرى تدميرية تفوق حدود الخيال، حينئذ يصبح العراق وطنا وشعبا فريسة علنية مشاعة.
لقد جرى استخدام العنف ضد الكويت بوسائل التهديد اللفظي أو الاستعراضي من قبل السياسيين العراقيين لعقود في أوقات مختلفة، حدث ذلك في ظل حكم الملك غازي، الذي وضع عام 1938أمام السفير البريطاني السير موريس باترسن مطالب عراقية، كان أحدها "عدم ممانعة بريطانية بإلحاق الكويت بالعراق" ( ورد هذا في مذكرات عبد الحميد الهلالي عن حركة مايس)، وفي ظل حكومة رشيد عالي الكيلاني، حينما طالب الكيلاني بجزيرتي وربة وبوبيان واعترض على صيغة ترسيم الحدود في معاهدة 1932 ( اعترفت الحكومة العراقية باستقلال وسيادة الكويت في 21-7-1932، وفي عام 1963جددت الحكومة العراقية اعترافها باتفاقية الحدود لعام 1932. ومن المفارقات المأسوية أن تكون الكويت نفسها قد سهلت لصدام مهمة استخدام الجزيرتين في الحرب مع إيران). كما ظهرت تفسيرات مليئة بالشك في نيّات الطرف العراقي من مشروع "الاتحاد العربي الهاشمي"، الذي رأت فيه أوساط سياسية معينة تهديدا ممكنا لمصالح الكويت، وورقة للضغط عليها في حال رفضها الدخول في الاتحاد. عاد الخلاف العراقي الكويتي الى الواجهة ابان حكم عبد الكريم قاسم، ثم وصل الخلاف الى ذروته العنفية السافرة على يد صدام حسين، أكبر المستفيدين على مدار التاريخ العراقي من تغذية المجتمع العراقي بالعنف كويتيا، سواء بتنشيط العنف الداخلي ومده بالمساعدات المباشرة وغير المباشرة، أو ينقل العنف الداخلي الى الخارج: الحرب مع إيران وغزو الكويت والاحتلال الأميركي.
إن القانون الأساسي الذي يتحكم بالمشكلتين الكويتية والكردية يقوم على معادلة واحدة، واضحة وثابتة ونمطية: إربك السلطة العراقية المركزية واشغل المواطن العراقي بالعنف تربح الأمان وتكسب معونات القوى الأجنبية! ومن المؤكد ان هذا المبدأ النافع، ولكن الشرير واللاأخلاقي، لعب دورا أساسيا في تغذية وتأصيل ميول العداء للعراق وطنا وشعبا في نفوس القادة الكويتيين والكثير من السياسيين الأكراد لأجيال عديدة، حتى غدا فنا سلوكيا احترافيا متوارثا، ونهجا لا يقاوم. وتحوّل، مع مرور الأيام، الى ضرورة سياسية وتجارية تشبه المسلمات البديهية والبضاعة الرائجة. ولم تنحصر أضرار هذا السلوك الثأري على السياسيين الكويتيين والأكراد فحسب، بل امتدت لتشمل السياسيين العراقيين كافة. فقد لعب التعاطي و"اللعب" بموضوع الصراع الحدودي والقومي الدور الأعظم في تغذية ميول الصدام والخلاف بين السياسيين العراقيين أنفسهم، المحترفين منهم والهواة على حد سواء، ومدهم بزخم عال من الجرأة على التحرك العنفي النزق وغير المسؤول اجتماعيا وسياسيا ضد بعضهم، تحت ذرائع شتى، تختفي تحتها أحيانا ميول الاستجابة للحقوق الكردية والسيادة الوطنية، أو العكس مواجهة الأطماع والأخطار، وما يرافقها من صلات قومية وذرائع متنوعة، مفضوحة الدوافع. ولم يزل موضوع اللعب بالعواطف القومية المرتبطة بالطوق الحدودي وسيلة دعائية مفضلة لدى القوى التي تناوئ حكومة المالكي وقبله الجعفري. فلا يخفي الإعلام التعبوي رفع شعار البعث التقليدي، الجاهز: الاحتلال الإيراني، كذريعة لإعلاء صوت العداء السياسي للسلطة القائمة. على الرغم من أن النفوذ الإيراني حقيقة لا تقبل النقاش، وهو جزء من معادلة الواقع الهش، الناشئ بفعل فقدان السيادة الوطنية وضعف وتآكل لحمة المجتمع العراقي والدولة العراقية.

الاحتلال: مسميّات كثيرة ونمط سلوكي واحد
إن استعراض ودراسة العلاقات الخلافية العراقية مع دول الجوار، وربطها بموجات الاحتلال وبالصراعات العرقية والمذهبية الداخلية، تكشف لنا أمورا خاصة تميز الواقع العراقي، وتشكل المحتوى الداخلي للسلوك السياسي والعسكري إقليميا ودوليا ضد العراق، وهو سلوك نمطي جدا، يتصف بالتكرارية والثبات.
أولا، الخلافات الحدودية: تختلف علاقات البلدان المتنازعة حدوديا عن علاقات العراق بجيرانه في ناحية أساسية، هي الطابع الثأري المتصاعد، طويل الأمد، المصحوب بالعنف، والمقرون بحق افتراضي إجنبي يبيح اختراق كيان المجتمع العراقي، لأسباب طائفية أو عرقية أو سياسية، وتمتـّع المخترقين بحصانة دولية تجيز أو تجوز أو تتناسى الحق الوطني العراقي في السيادة على أرضه. وفي المقابل نشأت ميول عدوانية داخلية، تستلهم هذا الحق وتعيده معكوسا في صيغة امتلاك حق افتراضي مقابل يبيح غزو الآخرين قولا أو فعلا. وفي الأحوال جميعها يستند الاعتداء الأجنبي الخارجي على ذرائع حسية داخلية حقيقية: الأتراك يهاجمون بسبب حزب العمال التركي، والايرانيون يتدخلون بسبب معسكر أشرف ومعسكرات "بيجاك " حزب الحياة، وغزو العراق أميركيا بسبب ديكتاتورية لا يريد مدللو السياسة إسقاطها بأنفسهم بالاعتماد على الشعب، بل لا بد من أن تسقط على يد محتل. أي لا بد من زرع خطيئة جديدة تعينهم على الاستمرار في الحكم كمعاونين ومأمورين، وليسوا كقادة مستقلين. ولهذا نشأ تلازم عضوي بين الشعور بضمور الإحساس الوطني وبين مشاعر فقدان الاستقلال الشخصي؛ فهما عنصران متلازمان سياسيا ونفسيا، يعضّد أحدهما الآخر. وهذه الظاهرة هي التي شكلت محتوى القيادة السياسية العراقية في بدء تكوين المملكة العراقية أيضا. إن االتاريخ يعيد نفسه، ولكن بأدوار طائفية وعرقية مقلوبة.
ثانيا، الاحتلال: تختلف أساليب الاحتلال من محتل الى آخر. بيد أن محتلي العراق جميعا اشتركوا في عادة سيئة واحدة، هي السعي الى تفكيك وإعادة تركيب العراق على مقاساتهم، وامتلاكهم حقا غير مشكوك فيه يبيح لهم حرية إعادة تأسيسه، بما يتناسب مع مشاريعهم. ولهذا السبب - تضاف اليه عوامل كثيرة هامة- اتخذ الأميركيون من العراق، وليس من حلفائهم الثابتين في مصر والأردن والخليج، مختبرا عمليا لتنفيذ فكرة "الشرق الأوسط الجديد". لأن العراق في نظرهم عجينة سكانية وجغرافية واجتماعية وسياسية وثقافية مطاوعة أكثر من غيرها، تبيح لهم حرية تجريب واختبار والتدرب على تنفيذ المشروع الدولي: السير بالحرب شرقا أو غربا أو الى أي مقصد تحدده خرائط الطريق.
ثالثا، رد الفعل الداخلي: في ظروف العراق عامة تتفاوت وتتعارض وتتناقض في أحيان كثيرة ردود الفعل الاجتماعية (الشعبية) الداخلية مع مواقف النخب القائدة والحاكمة فيما يتعلق بموضوعي الاحتلال والخلافات مع دول الجوار. لكنها في النهاية تصل الى نتيجة واحدة، هي الاستجابة بالقهر أو القبول الاستسلامي للنتائج العامة المتحققة على أرض الواقع. ومن هنا نشأ الصراع النفسي الاجتماعي، الذي يحاول الإجابة عن السؤال المثير القائل: أيهما يخلق الآخر، أرض الواقع هي التي تخلق مزاج ونفسية المجتمع، أم أن ميول ومزاج القبول بالنتائج، التي يتمتع بها المجتمع، طائعا أو مرغما، والتي يتخذها سلوكا يوميا، هي التي تصنع الواقع العنفي، وتاليا هي التي تحدد نوايا وعلاقات وسبل حل المشكلات من قبل الآخرين المختصمين مع المجتمع العراقي أو القادمين اليه كمحتلين؟ من يحدد من؟ إن دراسة الواقع العراقي باعتباره كلا موحدا، وليس مجرد عينات استعراضية مقتطعة من سياق، يقود الى نتيجة واحدة: لا أهمية كبيرة لإشكالية تحديد الأولوية هنا. لأن الأفعال والممارسة الاجتماعية طويلة الأمد تخلق سلوكها الخاص، الذي يؤثر بدوره في مواقف الآخرين (الخصم أو المحتل أو الطامع). وبسبب هذا ينشأ ضرب من الاتفاق والتداخل في تأثير الدوافع، يجعل من المتعذر فك عقدة المسبب الأول والثاني. إن إلقاء نظرة على تأثير وطريقة فعل طوق الجوار على المجتمع العراقي، وأسلوب تعامل المجتمع العراقي وردود فعله تجاه السلوك القادم من خارج الطوق، تمنحنا فرصة مقبولة لرؤية طبيعة التفاعل والانسجام في مجرى تنفيذ الأفعال داخليا، التي صنعت في المحصلة النهائية ورسمت الصورة السلوكية للداخل والخارج معا، وكونت تاريخيا أشكال تنفيذ الأفعال والردود المحتملة على فعل معين، سواء جاءت في هيئة احتلال أو خلاف حدودي أو انقلاب داخلي.
رابعا، الاستقلال وضعف الإحساس بالمواطنة: إن هشاشة الأوطان متأتية من هشاشة روابط الذات الاجتماعية. إن ما يميز السياسي التركي عن العراقي مثلا هو أن الأول تعلم فن إدارة الصراع، ولم يسمح للآخرين من خارج المجتمع التركي، بأن يقودوا الصراع الى الوجهة التي يريدونها، كما يشاؤون وأنّا يشاؤون، وعدم الاكتفاء بدور المتلقي والمتفاعل السلبي مع الحدث، كما هي حال السياسي والمثقف العراقي. على الضد تماما من الشخصية العراقية، تخصص الأتراك في فن ولعبة التناقضات، وأضحوا خبراء دوليين في موهبة الوقوف النفعي والمحايد ظاهريا بين أشد الأطراف المتصارعة: إسرائيل والعرب، أميركا والعراق، إيران والعراق، الأكراد والعرب، التركمان والأكراد، أوروبا والإسلام، السنة والشيعة، سوريا وأميركا، أميركا والمفاعل النووي الإيراني، المعارضة السورية والحكومة السورية، المعارضة الليبية والحكومة الليبية. حتى أنهم أضحوا عنصرا ايجابيا مرنا يسهم في تنفيس وحل بعض التعقيدات السياسية والأزمات العميقة، ومنها أزمات إخفاق العراق في إدارة نفسه داخليا وإقليميا ودوليا. وإذا كان السياسي التركي يستفيد من الأزمة بتحويلها الى مادة للنفع وتبادل المصالح، وتحوّله الى وسيط نشيط وفعال، فإن السياسي العراقي يغرق في الأزمة، ويصبح هو نفسه مادة لفعل الآخرين، حينما تتحول الأزمة على يديه مادة مغلفة بتعبيرات فارغة مبالغ في جانبها اللفظي الى حد الهوس، لكي يستر بها فقدان الإرادة الواقعية، الموضوعية، المتحققة على الأرض فعليا. وهذا يعيدنا مجددا الى إشكالية التناقض الداخلي في تركيبة المجتمع، والى ما عرف بازدواج الشخصية: التفريط في السيادة عمليا والمبالغة المتطرفة بها لفظيا.
يفشل السياسي العراقي أيضا عند المقارنة مع السياسي الإيراني في فن التعامل مع الأزمات الخطيرة. إن الثبات والوضوح المقرونين بالمرونة الذكية يجعلان مقدرة الإيراني على المناورة السياسية، تصعيدا أو تلينا، ذات قيمة سياسية فعالة ومنتجة عمليا، تستحق الاحترام والتأمل.
ويفشل السياسي العراقي عند المقارنة بحكام يديرون دولا أقل حجما من بلادهم ، كحكام الكويت، ناهيك عن السوريين، الذين يجيدون فن إدارة الأزمات الخارجية الصعبة أيضا.

إمتدادات جغرافية ومعضلات مُرحّلة
يحمل الامتداد التركي في العراق طابعا استثنائيا، بسبب البعد التاريخي الناشئ من وقوع العراق قرونا عديدة تحت السيطرة العثمانية، وبسبب تحدّر معظم النخب السياسية العليا من البيئة التركية، ووجود سلسلة من المؤثرات العميقة الداخلية، طائفية وعرقية وبيئية. إن تعبير "وادي دجلة والفرات"، المتداول في اللغة السياسية العثمانية، يحمل وحدة ضمنية بين العراق وتركيا بيئيا، بصرف النظر عن التقسيم السياسي. كما أن ضيق إطلالة العراق على المنفذ البحري وارتباط تركيا بأوروبا جغرافيا، واضطراب علاقة العراق بمحيطه العربي (سوريا والكويت خاصة)، والثبات النسبي للأوضاع السياسية في تركيا، وحسن تطورها السياسي والاجتماعي قياسا بالعراق، منح تركيا سلطات واسعة على الواقع العراقي.
وعلى الرغم من خسارة الدولة العثمانية الحرب وهزيمة قواتها على يد بريطانيا في العراق، وإقرارها بنتائج الحرب، إلا أن تركيا لم توقف نشاطاتها العسكرية ضد الأراضي العراقية تماما، حتى بعد احتلال العراق عسكريا من قبل القوات البريطانية ووقوعه تحت الانتداب. فقد قامت القوات التركية باقتحام مناطق زاخو والعمادية مع بدء تكون المملكة العراقية، لكنها انسحبت بعد تدخل الحكومة البريطانية. وهي المنطقة عينها التي اعتادت القوات التركية التغلغل فيها باتفاق مع حكومة البعث. وقد لعب رؤساء وزارء العراق الأوائل دورا في ترسيم الحدود مع تركيا، فقد كان لعبدالمحسن السعدون دور مهم في تثبيت الحدود مع تركيا، فيما يتعلق بولاية الموصل والمناطق المتنازع عليها. وأرسل طه الهاشمي، رئيس الأركان في حكومة أخيه ياسين، الى اسطنبول ممثلا عن العراق لإجراء مذكرات مؤتمر الحدود، على الرغم من أن السبب الحقيقي كان منع سيطرة الأخوين على مقدرات الجيش، ولفسح المجال أمام نوري السعيد لكي يكون مشاركا عسكريا في الحكم. وقد أبرمت الحكومة العراقية اتفاقية سرية في 25 اب 1978 تسمح للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي العراقية. ولم يزل هذا الأمر ساريا، ولكن باتفاق ضمني، غير معلن، حتى بعد سقوط صدام.
لهذا السبب، نعتقد أن السياسيين الأتراك لم يرفضوا دخول القوات الأميركية من جنوب تركيا الى العراق لأسباب سياسية وتاريخية تتعلق بالمصالح العميقة القومية والدينية والتجارية التي تفيد منها تركيا فحسب، بل أيضا بسبب اعتقاد السياسيين الأتراك أن دخول قواتهم الحكومية حق شرعي لهم وحدهم، لا يرغبون أن يختلط أو يتم تقاسمه مع شريك آخر. بهذا التدبير الحاذق والمزدوج، الطيب والشرير، تستمر تركيا في سيطرتها - رعاية مصالحها- المبررة خارجيا، والمقبولة من قبل ما يعرف بالمجتمع الدولي. وفي الوقت نفسه يبدو النشاط العسكري التركي في عين العراقيين خاليا من العدوانية المباشرة، وتبدو تركيا في نظرهم معنية بمحاربة أعداء داخليين لها، وجدوا خطأ أو اتفاقا على الأرض العراقية. هذا التواطؤ السياسي، إقليميا ودوليا ومحليا، لعبة يشترك فيها خصوم ومتنافسون وأعداء وأصدقاء، لكل واحد منهم دور محدد يتقرر بموجبه تحديد مكانته في أعين المقيّم الأميركي. وإذا كان الجانب السياسي يخضع للعبة تقاسم النفوذ والسلطة، فإن الجانب القانوني من اللعبة هو واحد من أغرب التجويزات الحقوقية، التي تضفى الشرعية على انتهاكات عدوانية لسيادة شعب ما في القوانين كافة، الدولية والمحلية. لكن شذوذ هذا التجويز القانوني، واستثنائيته المتعارضة مع المواثيق الدولية، لا يعكس سوى أمر واحد: صورة المجتمع العراقي في أعين الآخرين، باعتباره وطنا مخترقا، لا يملك هوية قانونية معترفا بها. أي إنه وطن بهوية مفصلة على مقاسات الجنرال مود، وعلى يد من سبقوه ولحقوه من الغزاة. إن هذه الحالة الوطنية الشاذة، لطول ممارستها، غدت هوية ثابتة، تكاد أن تكون قانونية، والأهم من هذا أنها أضحت مسلمة مقبولة عند الجميع، وأولهم المواطن العراقي، سواء جهر بهذا أو كتمه، أو عارضه.
علاقة الأردن بالعراق علاقة فريدة، ذات أبعاد دفينة. إن العراق الحديث هو ابن العم، في منظومة الحكم العائلية الهاشمية. تحمل هذه العمومة قدرا كبيرا من المشتركات السياسية من خلال الراعي الأكبر، السياسة البريطانية، التي دفعت الى خلق وحدة سياسية بين البلدين، تحت هواجس واقعية: الخشية من انفلات العراق من القبضة البريطانية. وقد جرت محاولات جدية لقيام مثل هذه الوحدة في المحيط العربي بين العراق والأردن وسوريا تحديدا، لولا المنافسة السعودية الشديدة والحذر الدائم. وقد لعب الصراع في إطار العائلة الهاشمية الكبيرة دورا في إبعاد الشريف شرف عن الوصاية على عرش العراق، الذي فرضه التغيير الذي قادته كتلة رشيد عالي الكيلاني في العاشر من نيسان 1941، والذي لم يدم طويلا، فقد تم إعادة تنصيب الأمير عبد الإله، الوصي السياسي، المكروه شعبيا، بعد القضاء على حركة نيسان 1941. وقد تم تدعيم تلك العودة بتأييد من أفراد العائلة المالكة، وبإقرار مباشر من الملكة نفيسة، التي تذكرت، بعد مرور عامين على مصرع ابنها الشاب، الملك غازي، الذي تفترض الرواية العائلية أنه شعر بموته مبكرا، فـ "أوصى" بعبد الإله قيّما على عرش العراق في حال غيابه، المتوقع! إن سقوط أبناء العم المباغت والعنيف في العراق، ترك أثرا عميقا سياسيا وعاطفيا على القيادات السياسية الأردنية، لا يمكن التخلص منه أبدا. كان مقتل العائلة المالكة المفاجئ، وسقوط رمزيها الأساسيين في لحظة واحدة: الملك والوصي السابق، قد شل حركة القوات الأردنية ومنع القوات الاجنبية من التحرك لنجدة العائلة المالكة. كان سلوك عبد الإله في ساعات التحرك العسكري الأولى يشير الى أمل ما (نجدة متفق عليها) قد يأتي عبر الحدود العراقية الأردنية.
لذلك لا يجوز استبعاد عامل التجربة عند الحديث عن نجاح خطة التحرك العسكري في تموز 1958 وما رافقها من عنف. فإصرار عسكريي تموز على عدم إعطاء عبد الإله فرصة للهروب، واستعدادهم لمواجهة خطر التدخل من منفذي البصرة والحدود الأردنية، كان عاملا حاسما في نجاح مخطط إسقاط السلطة الملكية. بهذا التدبير القاسي ربما أرادوا أن يصححوا الأخطاء التي وقع فيها عسكريو حركة نيسان 1941، الذين لم يتنبهوا الى خطر فرارعبدالإله، ولم يستعدوا جيدا لمواجهة خطر القوات البريطانية، التي قامت بعملية إنزال في البصرة، بينما تقدمت قوات غلوب باشا على رأس بعض الوحدات الأردنية من الحدود الغربية، ساندها يعض الدعم الداخلي (قوات الليفي). وبذلك تم تطويق العراق من جبهتين، مما أربك قيادة الجيش العراقي وعجل في هزيمتها.
في تلك الأحداث هرب عبدالإله عام ليلة 1-2 نيسان 1941 بملابس النوم، ونقل الى قاعدة الحبانية بواسطة الوزير الأميركي المفوض في بغداد، الذي اصطحبه بسيارته، ثم نُقل الى البصرة جوا، وتوجه بعد ذلك الى الأردن، ومن هناك بدأ الانكليز والوصي بترتيب الموقف، فأعيد احتلال العراق عسكريا للمرة الثانية.
وإذا كانت المملكة الأردنية هي الشريك العائلي، فإن السعودية هي الخصم العائلي التاريخي. وهي خصم مزدوج. بيد أن الأيام تمكنت من تخدير مشاعر المنافسة القوية، المصيرية، بين القوى المتصارعة في الجزيرة العربية، حينما أقرّ آل سعود رسميا بحكم الهاشميين في العراق والأردن، واعتبروا تلك القسمة نتيجة مقبولة منحتهم السيادة شبه الكاملة على الجزيرة العربية، ومنحت خصومهم ربحا ملموسا أيضا، سيادة وأرضا، ولكن خارج منطقة النزاع الأصلية. وبموجب ذلك تم إعلان عبد العزيز آل سعود ملكا على الحجاز عام 1926، وتم اعلان استقلال نجد والحجاز بعد عامين، ثم أعلن رسميا تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1933، مما جعل آل سعود يعودون الى التنسيق مع منافسيهم الهاشميين بحذر، ولكن من دون عداوات كبيرة، تحت المظلة البريطانية، وبعد حين تحت الهيمنة الأميركية. بيد أن الخصام الطائفي وتحديد من يشغل الدور الريادي في المنطقة، وطبيعة توجهات أنظمة الحكم، كانت وستظل نقطة تنافس كبيرة، ليس لكون السعودية تنافس العراق مذهبيا من خلال الطائفة السنية فحسب، بل لكون البلدين يعتبران مركزا تاريخيا لوجود الرموز الدينية الإسلامية العليا ومحاجها، وما تتضمنه هذه الرموز من خلاف في التفسير العقائدي للرمز الشيعي تحديدا، الذي يرى فيه الوهابيون وامتداداتهم من التيارات السلفية التكفيرية ضربا من "الشرك". يضاف الى ذلك التنافس على الدور السياسي والاقتصادي ( لعب الدور القيادي، والتحكم بالتصدير والاحتياطي النفطي، والتنافس على سبل تحريك اتجاهات المنظمة النفطية الدولية). إن السعودية نموذجا للحكم وبناء ثقافيا، وليس سلطة فحسب، قطب أساسي في معادلة التطور التاريخي للمجتمعات العربية كافة. وهي العنصرالسلبي الفاعل في عملية جر حركة الشعوب العربية الى الوراء، من طريق أسر حركتها وتكبيلها بروابط التخلف الاجتماعي والثقافي، باسم نظام عائلي كهنوتي مغلق، متحدر من بقايا ثقافات بائدة مختلطة بمظاهر قشرية، استهلاكية وتزينيّة، مجلوبة من الغرب، مسنود بإرادة الرأسمال العالمي وأجهزة القوة العالمية. إن تفكيك بنية نظام الحكم السعودي هو الحلقة الأساسية الضرورية في حلقات فتح مغاليق العجز التاريخي، الكابح لعنصر التطور الاجتماعي العربي عامة. إن إزاحة بنية ثقافية سياسية اجتماعية صنمية، رمزا وواقعا، ذات تأثير وثقل مادي وروحي كبيرين إقليميا وعربيا، خطوة قومية أكثر أهمية من تحرير فلسطين، لأنها تقود الى ذلك والى ما هو أبعد.
لقد تعرضت مدن وحواضر العراق الى اعتداءات وغارات الوهابيين في أوقات عديدة. ففي عام 1801 تعرض العراق الى هجمات عنيفة وغزوات قادمة من مناطق نجد تهدف الى تخريب واستباحة المناطق الجنوبية الغربية للعراق، وإلحاق الدمار بها. وفي 12 آذار 1922 تجددت الهجمات على نحو مكثف وعنيف. فقد هوجمت مناطق في الناصرية وأوقعت سبعمئة قتيل من العراقيين، ونُهب أكثر من سبعمئة بيت. كان وقع تلك الهجمات مثيرا للدهشة، بسبب كون العراق يقع آنذاك تحت الاحتلال البريطاني المباشر، وبسبب الصلة المعروفة التي تربط المندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس بآل سعود. قام الطيران البريطاني بتعقب المغيرين، لكن الرد البريطاني - سياسيا وعسكريا- لم يكن جديا. وقد أثار هذا الحدث شكوك الملك فيصل في نوايا بيرسي كوكس. وسرعان ما اكتشف الملك أن بعض القادة العراقيين يؤيدون رأي كوكس القاضي بأن بريطانيا غير مسؤولة عن حماية حدود العراق الغربية إلا من خلال الإسناد الجوي، وهي اللعبة عينها التي يلعبها السياسيون العراقيون الآن ضد شعبهم في موضوع الاتفاقية الأمنية.
ورغم أن ابن سعود أنكر علمه بالغارات وتوقيت تنفيذها، إلا مباحثاته مع بيرسي كوكس أوضحت أنه كان ذا أطماع جدية في الأراضي العراقية. فقد اشترط أن تكون حدود مملكته ممتدة حتى نهر الفرات. وهي عين المنطقة التي تعرضت للغارات. اجتمع كوكس وابن سعود في منطقة العقير، على ساحل الخليج العربي مقابل البحرين في 27 تشرين الثاني 1922 ، وتم الاتفاق على إنشاء حدود وهمية باسم منطقة الحياد "قطعة البقلاوة!". وقال كوكس أنه منح ابن سعود بعضا من أراضي الكويت. (علي الوردي- لمحات من تاريخ المجتمع العراقي- ج6 ص 158)
كثرت التفسيرات المتعلقة بالتساهل البريطاني في مواجهة الغارات السعودية، وكثرت التفسيرات حول التعارض بين بيرسي كوكس والملك فيصل الأول، الذي واجه بتلك الغارات امتحانات متعددة شخصية ورسمية، محلية وإقليمية، كما واجه امتحان الثقة بينه وبين الشعب، وبينه وبين من نصبوه، وبينه وبين الجماعات السياسية المقربة من مواقع الحكم والقرار. بيد أن التفسير الأكثر جدية، الذي يراه الدارس واضحا الآن، بعد ما يقرب من قرن، حينما اقتربت مواعيد انتهاء اتفاقيات الاحتلال الأميركي للعراق، ربما يمنحنا بصيصا جديدا من الضوء لفهم هذا الإشكال المعقد. كان بيرسي كوكس يحاول امتحان إرادة العراقيين، من طريقين، أولا: التأكد من أن سياسة تعديل مجرى التحالفات قد تم لصالح مشروعه، الذي أرسل من أجل تنفيذه، وهو إعادة بناء الأدوار الاجتماعية بطريقة جديدة بعد ثورة العشرين، من طريق شراء القبيلة سياسيا، وبدء تحويل ولاءها طبقيا واجتماعيا وعقائديا من خلال عقود الأرض والملكية والسلطة، أي اتحاد المال بالسلطة. فقد أضحى شيخ قبلي مثل حبيب الخيزران من معارض وجل الى "متعاون مؤتمن" تحت تأثير هذا الميل الجديد. وهذا التغيير انعكس أيضا على اصطفاف الجماعات السياسية المتسيدة للمراكز العليا - إعادة توزيع الأدوار بين السياسيين الشريفيين وبين الذين لم يلتحقوا بقوات الشريف حسين من مختلف الإتجاهات – وإعادة توزيع الأدوار بين المؤسسة الدينية (المرجعيات) والعشائرية، وبين العرش والمجتمع (ضبط التوازن بين العرش العربي كرمز للاستقلال لدى المواطن العراقي، وكرمز للولاء التام لولي النعمة، واهب العرش، في نظر بريطانيا)، وفي الأخير إعادة توزيع الأدوار إقليميا وفق معادلات القوة، التي يتم توزيع منسوباتها بريطانيّاً. ثانيا: على المستوى العسكري، كانت جاهزية وفعالية وطريقة بناء الجيش العراقي وعقيدته القتالية، هي الصورة الأساسية التي أرد كوكس إظهار عيوبها ونواقصها علنا، وحسيا، بأمثلة دموية ، لكي تظل القوات البريطانية مصدر الثقة الرئيس في تحقيق الأمن الاقليمي والداخلي العراقي. علما أن هذه القوات بنيت على أيدي البريطانيين أنفسهم، أي إنهم هم من يؤسس ويضع معايير الفعالية والصلاحية ومداها. باختصار كانت لعبة الوهابيين مرتبطة أشد ارتباط بمعاهدة الحماية البريطانية، كما أن لعبة الإرهاب والتفجيرات والخلافات الحزبية المتصاعدة الآن، هي عنوان مرحلة توقيع الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية، وسبيل من سبل إعادة التوزيع الطائفي والعرقي والمناطقي سياسيا، على ضوء حجم وطبيعة الوجود الأميركي.
كانت غارات الوهابيين أبرز اختبار وطني للعراقيين أعقب ثورة العشرين ذات الشعارات الوطنية الجامعة. وبصرف النظر عن كون بريطانيا على دراية مسبقة بهذه الهجمات أم لا، فإنها كانت المستفيد الأكبر، لأن الهجمات أعطت الانكليز فرصة لوضع الملك الجديد في الاختبار الأول الخارجي والداخلي معا. فآل سعود يمثلون تهديدا مزدوجا للملك الجديد. فإذا كانت الغارات الوهابية تمثل تهديدا خارجيا خطيرا فحسب، في حسابات المواطن العراقي، إلا أنها تمثل تنازعا عائليا قديما على السلطة في حسابات العائلة المالكة، وتمثل تهديدا خارجيا راهنا يستهدف المكانة السياسية، وحدود الحكم الهاشمي. وربما كان الاختبار البريطاني أبعد غورا من هذا. فقد كان مؤشرا جديا أثبتوا فيه صواب خططهم الرامية الى تمزيق المجتمع العراقي من الداخل. وقد أثبت الموقف من الاعتداءات تحقق هذه السياسة. فللمرة الأولى يكتشف علماء الدين والمراجع أن سيطرتهم التقليدية على العشائر قد تزعزعت لصالح التدبير الجديد للمحتل البريطاني. وقد لعبت العشائر لعبة ماكرة بادعائها الحياد السياسي، وعدم رغبتها في الزج بأبنائها في المعارك السياسية. (خالد التميمي- الصفوة العراقية بين الفشل والنجاح - ص313 ) أي أنها جيّرت ولاءها بشكل صريح لصالح الإدارة البريطانية، ولكن باسم شعار صحيح من حيث المبدأ: الحياد السياسي، وهو هدف أساسي من أهداف السياسية البريطانية، تم تدعيمه بعامل آخر هو فصل قبائل العرب السنية عن الشيعية، وإحكام السيطرة على ولاء قبائل الدليم وما يحيط بها. لقد ترافق هذا كله مع وظيفة الدولة الجديدة، التي انيطت بها مسؤولية بناء جيش جديد يتولى مهام القمع الجماعي ضد الكتل الكببرة: كردية، عربية، تركمانية، آشورية، باسم الدولة. إن هذا التغير في المواقف ورود الأفعال، الذي بدا للبعض تطورا باتجاه مدنية الدولة، أغفل الجانب السلبي من هذا النهج، ونعني به ارتباط هذا المسعى بمراحل الصراع العسكري السياسي من أجل إحكام سيطرة البريطانيين على مقاليد الحكم من الداخل، وهو عين ما حدث عقب الاحتلال الأميركي: استخدام التناقضات الطائفية والقبلية والعرقية، لتحقيق مصالح سياسية، بصرف النظر عن أثر هذه المحركات في استقرار وتطور بنية المجتمع.
تولت السعودية مهمة التحضير الأرضي للقوات الأجنبية في عملية عاصفة الصحراء، وتولت قواتهم العسكرية قيادة العمليات الحربية للوحدات العربية الداعمة،أما إسهامها المالي في نفقات عاصفة الصحراء فقد بلغ 13 مليار دولار. وفي حرب احتلال العراق عام 2003 قامت السعودية مجددا، كما يقول جورج بوش في مذكراته، بإعداد ترتيبات المعركة إقليميا وعربيا تمهيدا للغزو. وقد لعبت السعودية أدوارا لا تقل ضررا على الشعب العراقي، ولكن في الخفاء، منها ما ذكره الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف، وهو يفسر سبب انقلاب عبدالرزاق النايف، مدير الاستخبارات العسكرية، المقرب من الرئيس، الى عدو متآمر، قاد الانقلاب الذي غير مصير الشعب العراقي بأكمله: " اشتروه –الشركات الاجنبية- من خلال العربية السعودية وبواسطة الوسيط بشير طالب، الملحق العسكري في بيروت والقائد السابق للحرس الجمهوري، وناصر الحاني، السفير العراقي في لبنان" ( العراق- حنا بطاطو- الكتاب الثالث- ص 390)
اما الامتداد السوري فهو على درجة عالية من العمق والتعقيد والتداخل، لأنه امتداد مباشر للسياسة العراقية وللحياة الحزبية وروابطها المشتركة. وفي أحوال كثيرة اعتبر البعد السوري جزءا من الصراع الداخلي بخيره وشرّه، وإن كان شرّه أعظم بروزا على الجانبين، العراقي على نحو أكبر. لم ينجح مشروع الملكية الهاشمية في سوريا، لأسباب عديدة، هي ما يميز سوريا عن العراق. كان الرفض الداخلي لحكم الهاشميين واضحا قياسا بالقبول العراقي الواضح. وكان شعار "سوريا للسورين" أكثر عمقا وأقرب الى الواقع من شعار "العراق للعراقيين"، الذي رفعه أشهر الموالين لسياسة الاحتلال من العراقيين: طالب النقيب، الذي نجح مؤقتا في خداع واستمالة بعض العراقيين، الذين أغراهم بريق الشعار، كالشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي استدرج للعمل في صحيفة ممولة من قبل النقيب لهذا الغرض. كما أن وجود سوريا تحت النفوذ الفرنسي، لم يشجع على قيام ملكية، لأن النظم الاستعمارية تقيم مستعمراتها، في الأعم، على نمط نظام حكمها، كلما كانت الأمور مؤاتية، وكانت سوريا من حصة فرنسا طبقا لنصوص معاهدة سان ريمو. كانت سوريا مصدرا أساسيا للعنف القائم في كيان المجتمع العراقي بشكل مباشر، أو من طريق امتدادات العنف الحزبي بعثيا، في صفوف الفرع العراقي للبعث، وفي صفوف الفصائل القومية، الذي حُلّ في الغالب بطرق دموية وقاسية: تصدير واستيراد مشروع الوحدة، انقلاب 14 رمضان 1963، صراع جناح علي صالح السعدي ضد جناح حازم جواد، الخلاف داخل البيت العارفي، تقييد ثم إنهاء وجود فؤاد الركابي، وتدجين ما عرف بالبعث اليساري المرتبط دعائيا بصلاح عمر العلي، وتصفية ما عرف بالخط السوري: عبد الكريم مصطفى نصرت، والمؤامرة السورية: مجموعة محمد عايش، وقتل عبدالخالق السامرائي، البديل العراقي للارادة الحزبية القومية. وفي الحقب المحتدمة من الصراع السياسي في العراق أخذ التدخل السياسي والعسكري صفة مباشرة في بعض الأحيان. حدث هذا في انقلاب الشواف 8 اذار 1959. فقد نشطت الاستعدادات في القامشلي وحلب ودمشق لتهيئة مقدمات الانقلاب، وجرى تخزين السلاح في (تل كوجك) في سوريا على الحدود العراقية، كما كان البث الاذاعي للانقلابيين يصدر من سوريا. وعبر الوسيلة ذاتها تم شراء نفوذ بعض الزعامات القبلية وتجنيدها ضد الحكومة المركزية، مثل شراء ولاء الشيخ عجيل الياور(هذا سبب مكافأة العائلة من قبل الأميركان عقب الاحتلال). وقد تولى مسؤولية أعمال التعاون بين الانقلابيين والقيادة العامة في الجمهورية العربية المتحدة المقدم (برهان أدهم)، قائد المنطقة العسكرية الشمالية في سوريا ( أوريان دان – العراق في عهد قاسم- ص 217- 214)
وربما تكون إيران هي النقطة الأكثر سخونة تاريخيا في علاقات الجوار. فإيران والعراق لا يملكان خطا حدوديا طويلا حسب، بل يملكان عمقا وتداخلا تاريخيا طويلا أيضا، يمتد لآلاف السنين، يقوم على تداخل الشأن السياسي بالجغرافي والعرقي والمذهبي والثقافي. كان العراق لفترات طويلة قبل الإسلام وبعد ضعف الدولة العباسية، ثم بعد انهيارها، منطقة نفوذ إيرانية مباشرة، خضع المجتمع العراقي فيها للسيطرة الإيرانية الفعلية. بيد أن هذا الصراع كان يغلف دائما، بصيغة قومية (الفرس)، ويُدفع من قبل الاتجاهات القومية العربية المتعصبة الى صيغة بدائية سابقة للإسلام (المجوسية)، وهو أمر لم نره في الصراع مع تركيا. وهنا، نرى أن العامل الطائفي، ممزوجا بالأوهام القومية (عربستان) - رأى الشيخ خزعل أنه أحق الناس بتولي مملكة العراق ، بسبب ولائه لبريطانيا، وبسبب كونه ولد على ضفاف شط العرب!- كانت عنصرا حاسما في تلوين الخطاب السياسي العراقي الحاكم بألوان عرقية وعقائدية، وربما كانت سببا إغرائيا مضاعفا، قاد الى اهتبال النظام العراقي لحظة الضعف العسكرية عقب سقوط الشاه، فعجّل بغزو الأراضي الإيرانية، ليجعل من نفسه البديل الإقليمي، بتأييد من الخصم الأكبر لإيران الاسلامية: الولايات المتحدة الأميركية. بيد أن هذا الوضع ازداد تعقيدا عقب سقوط صدام. فقد أضحى الأميركيون يديرون الشؤون السياسية والمناورات العسكرية الإقليمية من بغداد مباشرة، ولكن بوجود قوى سياسية عراقية حاكمة تُتهم بمولاة إيران. هذا التعقيد الجديد جعل معضلة العراق الجديد لا حل لها، من دون إجراء تسوية إقليمية متكاملة. أي إنه جعل العراق الممزق ورقة من أوراق صراع جديد أوسع من حدود المجتمع العراقي، وأعقد من أن يتمكن العراق بمفرده تعديله أو تغيير مساراته. باحتلال العراق أضحى العراق أسيرا كامل الأسر بيد قوى المنطقة كلها، صغيرها وكبيرها، وبدرجة أولى بيد القوة الأعظم: المحتل الأميركي.
لكن المحيط الخارجي المتنوع، حاله كحال التكوين الداخلي المتنوع، الذي يتميز به العراق، يكون مصدر خير ومصدر نقمة، على ضوء الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع الظاهرة، وعلى ضوء الطرق التي يدير بها نفسه. فهو دليل تنوع وعمق وثراء وتلاقح خلاق مبدع وحيوي في الأوقات السلمية والهادئة وعند الاستثمار الايجابي لعناصر الواقع المتنوعة. لكنه يغدو نقمة عند اضطراب البنيان الأساسي للمجتمع، وفي ظروف الاضطراب السياسي. وهنا تكمن الجريمة المحورية والقاتلة وطنيا، التي "اقترحتها" وارتضتها المعارضة العراقية: حل الجيش العراقي وتحطيم أسس الدولة العراقية. أي وضع المجتمع العراقي بتكوينه المضطرب في وجه العاصفة، وتجريده من أسواره الخارجية، بصرف النظر عن كون هذه الأسوار صالحة أو طالحة، سيئة أو حسنة البناء. بهذا الهدم المدروس، الربحي والانتقامي الدوافع، غدا المجتمع العراقي كله، الضعيف والمفكك أصلا، مكشوف اللحم، ومادة سهلة للنهش والافتراس المجاني، العلني.
يليه الجزء الثاني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام