الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبل المحرقة

صبحي حديدي

2004 / 11 / 30
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


كنت، الأسبوع الماضي، في هولندا للمشاركة في ندوة عن "حوار الشرق والغرب"، الموضوع الذي لا يلوح البتة أنه سوف يستنفد قديمه أو جديده أو مختلف جوانبه وتفاصيله وتطوّراته. وكما بات مألوفاً تماماً، ولعله أضحى حاجة ماسّة دائمة أيضاً، انقلب الأمر إلى نقاش حول الأصولية... الإسلامية، بالطبع، ودون سواها. مدير الندوة بدا مندهشاً حين سألني كيف أعرّف التيّار الأصولي، فسألته: أيّهم؟ ولو كنّا نتحدث بالعربية، لأجبته باقتباس من أبي فراس الحمداني: أيّهم، فهم كثر؟
والحال أنني تفهّمت تماماً حرص الهولنديين، أو بالأحرى توجّسهم، من هذا "الفرع" الأصولي بالذات. وفي لاهاي وأمستردام ولايدن، ورغم استمرار الحياة الهولندية على جري عاداتها في مظاهر التعدّد الثقافي والتسامح الديني والتنوّع الكوزموبوليتي، كانت الظلال الأثقل هي تلك التي تلقيها الأحداث العنصرية التي شهدتها البلاد في أعقاب اغتيال المخرج السينمائي ثيو فان غوغ. تلك كانت جريمة نكراء بكلّ المقاييس، والطعنات التي استهدفت جسد القتيل كانت في الآن ذاته تصيب جاليات المهاجرين المسلمين كافّة، وتلحق بجهود الاندماج التربوي والثقافي ضرراً ليس من اليسير مواجهة عواقبه الوخيمة.
والمرء قد يختلف، في العمق والجوهر أيضاً، مع آراء ثيو فان غوغ حول الإسلام والمسلمين والنبيّ والشريعة، خصوصاً حين تنقلب تلك الآراء إلى تنميطات سطحية أقرب إلى الشتائم المقذعة منها إلى المواقف الفكرية. ولا حاجة إلى التشديد على أنّ هذا الاختلاف شيء، والردّ على الرجل بوسائل عنيفة شيء آخر نقيض وغير ذي صلة، فكيف بمساجلته عن طريق الرصاصة والخنجر. ولقد قرأت رأياً ثاقباً للصحافي والإذاعي الهولندي المعروف هنك سبان، في الـ "غارديان" البريطانية وبعد أيّام معدودات على اغتيال ثيو فان غوغ، يشير فيه إلى أنّ أفلام القتيل وبرامجه على التلفزة كانت "لا تُشاهد إلا نادراً، ومقالاته لا تظهر إلا على الإنترنت أو الصحافة المجّانية". ومع ذلك فقد تابع مراسم إحراق جثمانه، التي نُقلت على الهواء مباشرة، أكثر من نصف العدد الكلّي لمشاهدي التلفزة، وهذا بدوره أمر مفهوم تماماً.
كان هوس ثيو فان غوغ بالتعبير الحرّ وحرّية التعبير هو الوجه الأقصى من تعطّش الشارع الهولندي ذاته، وإنْ على نحو أكثر اعتدالاً وأهدأ أسلوباً وأشدّ احتراماً للآخر الثقافي، فكيف بالآخر العقائدي والديني. ومن الإنصاف البحث عن جذور ذلك الهوس في منطقة أخرى غير تلك التي تخصّ الطبيعة الاستفزازية والإنتهاكية لشخصية القتيل، كأنّ نذهب إلى ما قاله أبوه في خطبة متلفزة، عن ثيو آخر هو عمّ القتيل، اغتاله الألمان بسبب انخراطه في مقاومة الاحتلال النازي قبل نصف قرن!
كاتب غربي ثانٍ علّق على الجريمة، ولكن من موقع يهودي هذه المرّة. وفي الـ "غارديان"، وبعد أن شاهد شريط ثيو فان غوغ "إذعان"، أقرّ دافيد آرونوفيتش أنّ التلفزة البريطانية ما كانت ستتجاسر على عرض الشريط ذاته كما فعلت التلفزة الهولندية. ولقد عقد مقارنة ذات مغزى في الواقع، إذْ اقترح أن نفترض ظهور شريط يصوّر اعترافات طفلة يهودية من طائفة اللوبافيتش (نسبة إلى المفردة الروسية التي تعني "مدينة الحبّ الأخوي")، حول الزنا بالأطفال، وكتابة مقاطع من التوراة على جسد طفلة، في مدرسة داخلية يهودية، وغير بعيد عن الشمعدان السباعي. ثمّ لنفترض، يتابع آرونوفيتش، أنّ صانع الشريط لم يكن يهودياً بل عضواً في حزب المحافظين البريطاني، تجرّأ على وصف اليهودي بـ "قاتل المسيح"، قياساً على وصف ثيو فان غوغ للمسلم بـ "ناكح المعزاة"... ما الذي كان سيحدث في بريطانيا؟
ما يقلق يهودياً مثل آرونوفيتش هو أنّ قاتل ثيو المسلم تحوّل فجأة إلى اختزال تامّ ومطلق لكلّ المسلمين، تماماً كما حدث ذات يوم مع اليهود. هؤلاء اتقلبوا في الوعي الشعبي الغربي إلى مجموعة دينية منغلقة متعصّبة تسخّر مواهب وأموال ونفوذ أبنائها للسيطرة على العالم، والآخرون المسلمون ينقلبون اليوم إلى مجموعة دينية متخلفة متعصّبة تسيء معاملة المرأة وتضطهد المنشقّين، يتابع آرونوفيتش قبل أن يختم بما يشبه النبوءة الرهيبة: "هذا تنميط شبيه بذاك الذي يخصّ اليهود، وإذا تابعنا تكرار سرده هكذا فإننا سوف نصل إلى مكان مماثل".
المحرقة الثانية، غنيّ عن القول! وفي الوسع أن يفهم المرء، ويتفهم، حرص آرونوفيتش على دفع الأمر إلى حدوده القصوى، التي إذا كانت تنطوي على مبالغة من نوع ما، فإنها في المحصلة الختامية لا تناقض القياس المنطقي البسيط الذي يحكم مبدأ السببية. لكن أمستردام، على سبيل المثال، كانت تنبض بالحياة والحيوية والتعدّد في المهرجان السينمائي العالمي الذي تحتضنه هذه الأيام، ويضمّ حفنة أفلام عربية وإسلامية و"عالمثالثية". ومن جهة أخري، ورغم الحملة الشعواء التي تشنّها أوساط صهيونية ضدّ "هذا الشاعر المعادي للسامية" و"صاحب القصيدة التي تحثّ على إلقاء اليهود في البحر"، فإنّ محمود درويش سوف يتسلّم بعد غد جائزة الأمير كلاوس الهولندية الرفيعة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقعات بتسليم واشنطن قنابل نوعية للجيش الإسرائيلي قريبا


.. غالانت: لا نسعى إلى الحرب مع حزب الله لكننا مستعدون لخوضها




.. حشود في مسيرة شعبية بصنعاء للمطالبة بدعم المقاومة الفلسطينية


.. فايز الدويري: الاحتلال فشل استخباراتيا على المستوى الاستراتي




.. ساري عرابي: رؤية سموتريتش هي نتاج مسار استيطاني طويل