الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باي باي إصلاحات

فيصل القاسم

2004 / 11 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


استبشر الكثير من العرب في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق والإعلان بعده عن مشاريع إصلاحية كبيرة كمشروع "الشرق الأوسط الكبير" استبشروا خيراً بأن الإصلاح سيجتاح المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج كالطوفان الهادر. لا بل إن المبشرين بالمخططات الأمريكية الإصلاحية من أمثال "الليبراليين العرب الجدد" راحوا يهددون الأنظمة العربية والشعوب بعظائم الأمور إذا هي لم تقبل بالإصلاحات الأمريكية المزمعة. وقد ارتفعت معنويات هؤلاء المتفائلين والمبشرين أكثر بعد فوز الرئيس الأمريكي جورج بوش بولاية رئاسية جديدة. لا بل إنهم ناشدوه على الفور من على منابرهم الالكترونية "الغراء" بأن "يكمل المهمة" دون أن يعلموا بأنهم سيكونون في انتظار غودو الذي لن يأتي مهما طال الرجاء. وأرجو أن لا يفهمني أحدهم خطأً، فأنا، كغيري من ملايين العرب الحالمين بالإصلاح والتغيير الحقيقيين، لسنا شامتين أبداً بأفول ربيع الإصلاحات العربية الموعودة أمريكياً ولا ساخرين من أولئك الذين هللوا لها وبشروا بها، بل نتألم كثيراً من حالة الجمود والعفن التي تسيطر على عالمنا العربي منذ عقود وندعو الله قبل أنظمتنا أن يرأف بحال هذه الأوطان المتخلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وأن ينهض بها من سباتها العميق. لكن، مع كامل الأسف، فإن آمالنا بالتغيير لم تعمر طويلاً تماماً كأزهار الربيع الغضة. لقد كانت مجرد أضغاث أحلام.

لا أدري ما الذي يجعل رافعي شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" يتفاءلون بعهد الرئيس بوش الجديد وإمكانية إقدامه على التغيير والإصلاح في العالم العربي. إما أنهم رومانسيون حالمون أو أنهم أغبياء ساذجون أو أنهم شركاء موظفون في حملة الكذب والتدليس والتظليل والتزييف الأمريكية التي تحاول التغطية على فشلها وأخطائها وأهدافها. لست أبداً ضد الضغط الأمريكي ولا حتى الشيطاني على الدول العربية لإصلاح نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، لا بل إن أمريكا مطالبة بأن تزيد من ضغوطها وتهديداتها للحكومات العربية كي تفعل شيئاً إذا كانت صادقة وجادة فعلاً في إصلاح العالم العربي، فالدعوة الي الحرية والعدل والديمقراطية جديرة بالتقدير والاحترام "وإن من أي فضاء تهبط، ومن أي نفق أو ثقب تخرج حتي لو كان ذلك الثقب للثعابين، بشرط أن تكون هذه الدعوة مصحوبة بممارسة عملية وبإلحاح على التطبيق وليس لهدف سياسي، قريب أو بعيد، أو لتغطية جريمة بشعة". إذن ليس صحيحاً أبداً أن التغيير الحقيقي يجب أن يأتي فقط من الداخل في عصر العولمة، فهذه كذبة تاريخية كبيرة يستخدمها المدافعون عن الأنظمة زوراً وبهتاناً ليس من منطلق وطني بل للحفاظ على الكراسي. بعبارة أخرى فإن رفض الاستعانة بالدعم الخارجي من أجل التغيير والإصلاح هو حق يُراد منه باطل في أحيان كثيرة. فما العيب أن يتظافر العاملان الداخلي والخارجي لإحداث التغيير إذا كانت الأنظمة الحاكمة ليست مستعدة للإصلاح إلا بالعصا وإذا كان عالمنا المعولم قد أصبح مترابطاً ومتداخلاً بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. لكن ليس مطلوباً بأي حال من الأحوال أن يأتي المؤيدون للدعم الخارجي على ظهور الدبابات الأمريكية كما حدث في العراق فحصل الدمار الشامل بدلاً من الإصلاح. ألم تستخدم أمريكا أساليب أخرى للمساعدة في التغيير في أوروبا ونجحت؟

ليس صحيحاً أبداً أن شعوب أوروبا الشرقية سابقاً تحررت من الطغيان الشيوعي بمفردها. فقد عملت أمريكا وأوروبا لعقود على إضعاف الأنظمة الشيوعية سياسياً واقتصادياً وإعلامياً. وكلنا يتذكر ما قامت به إذاعة (أوروبا الحرة) على مدى سنوات من تحريض وتنوير وكذلك أيضاً الإذاعات البريطانية الموجهة التي كان يستمع إليها ملايين الناس في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق. لقد كانت عملية تراكمية. وعندما بدأت شعوب أوروبا الشرقية وقواها الحية تتحرك لهز أركان النظم الشيوعية ومن ثم إسقاطها لم تفعل ذلك من دون دعم من القوى الغربية.

ليس صحيحاً أبداً أن منظمة (التضامن) هي التي أسقطت نظام يروزالسكي في بولندا، بل كانت مجرد واجهة للتحركات الأمريكية والأوروبية وحتى البابوبة. فقد ساهم الفاتيكان بقسط هائل في إسقاط النظام البولندي بالتعاون مع الأنظمة الغربية الحليفة. وينطبق الأمر نفسه على تشيكوسلوفاكيا السابقة، فالبلاد لم تتحرر من النير الشيوعي الشمولي بفضل مسرحيات الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل الذي أصبح فيما بعد رئيساً لبلاده. ومن الخطأ الكبير تضخيم دور جماعات المجتمع المدني في إسقاط النظام هناك. فالأيادي الغربية كانت هي التي تحرك خيوط لعبة التغيير من الداخل والخارج على حد سواء في كل أوروبا الشرقية تقريباً وحتى داخل الاتحاد السوفياتي ذاته.

وليس صحيحاً أيضاً أن الشعب اليوغسلافي بمفرده هو الذي أطاح قبل سنوات قليلة بنظام سلوبودان ميلوسوفيتش من خلال مظاهراته السلمية وتحركاته المدنية المنظمة. لقد سقط ميلوسوفيتش بدعم أمريكي لا يخفى على أحد خاصة وأن أمريكا هي التي دفعت به فيما بعد إلى أحضان المحكمة الدولية. وحتى ما سُمي بثورة جورجيا البيضاء قبل فترة لم يكن ثورة شعبية داخلية بأي حال من الأحول. لقد لعب الخارج الأمريكي دوراً كبيراً في إزاحة الرئيس الجورجي إيدوارد شفرنادزا ونظامه، فقادة "الثورة" لم ينقلبوا على النظام ولم يعبئوا الشارع ضده إلا بإيعاز ودعم أمريكي هائلين، فسقط شفرنادزا. لقد كانت التحولات في أوروبا الشرقية أشبه بانقلابات على مراحل مغلفة بغطاء إصلاحي توجت بها أمريكا انتصارها في الحرب الباردة، وهو انتصار هائل. وكي لا نبدو ساذجين لا بد من الاعتراف بإن المساعدة الأمريكية لأوروبا الشرقية لم تكن لوجه الله، فلا عمل خيرياً في السياسة، لكن الشعوب استفادت أيضاً، وها هي الدول المتحررة من الاستبداد الشيوعي قد دخلت الاتحاد الأوروبي الذي راح ينافس أمريكا ذاتها.

لكن الدعم الأمريكي للإصلاح أوالتغيير أو الانقلابات قد لا ينجح دائماً لأسباب كثيرة أولاً لأن أمريكا قد لا تكون جادة تماماً في الإصلاح كما هو الحال في موقفها من الأنظمة العربية. فلو كان الأمريكيون يريدون التغيير فعلاً في العالم العربي لفعلوا ما فعلوه في أوروبا الشرقية بتشجييع الثورات الشعبية المخملية البيضاء على أقل تقدير ودعمها بكل السبل. ولا أعتقد أنهم سيفشلون في مسعاهم لأن الأنظمة العربية ليست أقوى من الأنظمة الشيوعية إن لم تكن أكثر هشاشة بسبب عزلتها الشعبية وفسادها الذي يزكم الأنوف وهي بالتالي أسهل على الإسقاط. لكن أمريكا لم تجرب مع الحكومات العربية الأسلوب الأوروبي الشرقي لأنها بحاجة إلى أنظمة فاسدة لا ديموقراطية رشيدة تلبي رغباتها وتزيد في خراب بلدانها. وثانياً قد يخفق الأمريكيون أحياناً في الإطاحة بأنظمة بسبب المواقف الشعبية القوية كما حصل لانقلابهم الفاشل في فنزويلا، وفي أحيان أخرى لأنهم ربما يسيئون التقدير والتصرف كما فعلوا من قبل في فيتنام ويفعلون الآن في العراق على مبدأ " لا بد من تدمير البلاد من أجل إصلاحها" كما علق ضابط أمريكي أثناء حرب فيتنام وهو ينظر إلى قرية فيتنامية دمرها الجيش الأمريكي عن بكرة أبيها فقال وقتها جملته المشهورة: "لقد دمرنا القرية من أجل إنقاذها".

لا أدري بالضبط إذا كانت أمريكا جادة فعلاً في الإصلاح والتغيير الحقيقيين عندما غزت العراق ثم جنت على نفسها براقش من خلال أخطائها الفادحة في التعامل مع الشأن العراقي. يؤكد بعض المقربين العراقيين من الإدارة الأمريكية ومؤسساتها أن أمريكا كانت تريد فعلاً تحويل العراق إلى منارة للإصلاح في الشرق الأوسط، لكنها لم تتوقع أن يثور العراقيون في وجهها ويدمروا مشروعها في المنطقة عن بكرة أبيه ومن ثم تقوم هي بالرد عليهم بكل أنواع الأسلحة. وقد أخبرني أحد حلفاء أمريكا في العراق قبل فترة بأن الأمريكيين يشعرون بإحباط كبير للغاية بسبب تحطم مخططاتهم ومعنوياتهم على صخرة المقاومة العراقية التي أصابتهم باليأس وجعلتهم يعيدون النظر تماماً في مشاريعهم المعدة للشرق الأوسط. وإذا صدّقنا مثل هذا الكلام فلا بد أن نقول "لليبراليين العرب الجدد" المبشرين بالمشروع الإصلاحي الأمريكي في العالم العربي: "عظـّم الله أجركم، رحمة الله على فقيدكم الذي قضى نحبه وشبع موتاً في بلاد الرافدين".

إن كل ذي عقل بات مقتنعاً بأن الأمريكيين لن يكرروا تجربتي أفغانستان والعراق الكارثيتين في أي مكان من العالم حتى لو فاز الرئيس بوش بستعة وتسعين بالمائة من أصوات الشعب الأمريكي. وبما أن مشروع (الشرق الأوسط الكبير) للإصلاح والتغيير في العالم العربي كان يستمد قوته وتاثيره المزمعين من التدخل العسكري الأمريكي في كل من بغداد وكابول فإن الفشل العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان لا بد وأن يكون قد أضعف المشروع الشرق أوسطي إن لم يكن قد قضى عليه تماماً. فالأنظمة العربية التي سارعت إلى الإصلاح الصوري أو رحبت به على مضض بعد أن شاهدت تماثيل الرئيس العراقي تتهاوى تحت أقدام الجنود الأمريكيين وبعض فئات الشعب العراقي لم تعد خائفة من الغزو الأمريكي، لا بل إنها أصبحت في وضع يمكنها من المساومة مع الأمركيين على بقائها بقوة. ألا تحاول أمريكا الآن استجداء بعض الدول العربية كي تساعدها في الخروج من المأزق العراقي بدلاً من الضغط عليها من أجل الإصلاح؟ ألا يصب مؤتمر شرم الشيخ في هذا الإطار؟ لقد قال لي مسؤول عراقي مقرب من الأمريكيين بنوع من المرارة: " لقد جاء الاحتلال الأمريكي للعراق ليـُكسب الأنظمة العربية المجاورة بعض الشرعية التي كانت تفتقدها قبل الغزو". فبسبب الفشل والتخبط والجرائم الأمريكية في العراق غدت بقية الشعوب العربية أكثر تعلقاً بأنظمتها التي كانت تأمل يوماً بأن يطيح بها الأمريكان. لقد جاء الأمريكيون "ليكحلوها فأعموها". وبما أن الحكومات العربية لم تعد تجشم تحت ضغط التهديدات الأمريكية الهادفة للإصلاح فإنها ستتباطأ من الآن فصاعداً في إصلاحاتها وربما ستقاوم بطرقها الخاصة أو قد "تلحس" الكثير منها "واللي مش عاجبو يشرب من مية الأطلسي".

ونظراً لتهاوي وتغير أولويات الإدارة الأمريكية التي أصبح شعارها الحالي "لنخرج من العراق أولاً ولكل حادث حديث" فإنه من المتوقع أن تعود واشنطن إلى سياساتها التقليدية القديمة في التعامل مع الأنظمة العربية المتمثلة بالضغط السياسي والدبلوماسي المبطـّن والابتزاز المخفي والتخويف والتهديد وإثارة نعرات داخلية وتحقيق بعض الإصلاحات التي تهم أمريكا فقط كتغيير المناهج الدراسية وتقليم أظافر الإسلاميين بحجة مكافحة الإرهاب. وهذا يعنى غض الطرف الأمريكي عن مفاسد الأنظمة والإصلاحات الجوهرية المفترضة أو تناسيها. وقد سمعت أحدهم قبل أيام يلوم الزعيم الليبي الذي، حسب رأيه، تسرع كثيراً في تقديم تنازلات هائلة لأمريكا، فلو صبر قليلاً لوفر الكثير إلى إشعار آخر.

وعلى ضوء ما آلت إليه الأوضاع في العراق فإن النموذج الليبي سيكون أكثر جاذبية للأمريكيين، هذا إن لم يكن أصلاً الأسلوب الأول والأخير للإصلاح الأمريكي الموعود في العالم العربي، مع العلم طبعاً أنه لا يمت للإصلاح بصلة بل هو نوع من الابتزاز الواضح. لقد سحب التعامل الأمريكي المبني على المصلحة أولاً وأخيراً مع ليبيا البساط تماماً من تحت كل المزاعم والأكاذيب الأمريكية المتعلقة بالإصلاح في الشرق الأوسط، فالقصة وما فيها لا علاقة لها لا بالتغيير ولا بترميم ما أفسدته الأنظمة العربية ولا بزعامات ديكتاتورية وانتهاكات حقوق إنسان بل هو لعبة مصالح مفضوحة لا تنطلي حتى على المغفلين. وإذا أضفنا الفشل "الإصلاحي" الأمريكي المزعوم في العراق إلى الانكشاف المصلحي الأمريكي المفضوح في ليبيا فننتهي إلى مقولة يرددها الناس عند الفـُراق: "باي باي إصلاحات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف ستؤثر شهادة مايكل كوهين في مسار قضية ترامب؟| #أميركا_الي


.. العضو المنتدب في شركة ألفا أدفايسوري: طرح ألف للتعليم في سو




.. بعد مجزرة رفح.. محللون إسرائيليون يحددون ثلاث سيناريوهات محت


.. شركة تركية للطاقة تبيع حصصها في إسرائيل تحت ضغط شعبي




.. الأهم منذ 30 عاما.. بدء عملية الاقتراع في الانتخابات البرلما