الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الكتّاب النجوم: بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير

سعد محمد رحيم

2011 / 8 / 28
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


بعد أن ينجز علي بدر مجموعة من المقالات عن كتّاب وكاتبات عالميين معروفين، يتهيأ لوضعها بين دفتي كتاب. وهنا يفكر بطريقة طريفة لإخراج ذلك الكتاب، فيتخيل كرنفالاً باذخاً على غرار الكرنفالات التي تُقام للاحتفاء بنجوم الغناء والسينما، حيث القاعة الكبيرة المترفة، والسجاجيد الحمر، والأضواء الساطعة، وفلاشات الكاميرات التي تنهال كالشرر في أثناء مرور نجوم الكتابة.
يدخل أولئك الكتّاب تباعاً، ومع دخول كل واحد منهم يشرع علي بدر بالتحدث عنه. وحديثه يلخص قبسات عن حياة الكاتب، وخلاصات عن أفكاره وكتبه وإبداعه. وإذا به، أخيراً، يخرج بكتاب ممتع، غزير المعلومات، عنوانه: بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير.
تُقام حفلة علي بدر على شرف روائيين وشعراء عظام ينتمون إلى بلدان وأجيال مختلفة، يقبلون في سيارات أو عربات تخص كل منها زمناً معيناً. وثمة "نساء يسرن صامتات، متوردات الخدود، بشعر معطر بالدهان، وقفازات بيض".. يعود المؤلف ويصف حفلته وكأنها تقليد للحفلة التي دخلتها إيما بوفاري بطلة رواية ( مدام بوفاري ) لفلوبير، في قريتها. فارضاً على المدعوين ارتداء "بزات من الصوف السميك، وقلنسوات أحيطت حوافها بإطارات من نحاس". ولأن المؤلف يعد كتاب سارتر عن فلوبير: معتوه العائلة، الأجمل من ضمن ما قرأ، فإنه يجعل سارتر أول الداخلين إلى الصالة قبل أن يلحق به أقرانه.
مع تغير وسائل الإتصال وقنوات الإعلام وأشكال الثقافة في القرن العشرين قياساً لما كان عليه الأمر في القرون السابقة تغيرت معايير الشهرة والنجومية، وصارت الأضواء تُسلّط على لاعبي الرياضة، وممثلي السينما والتلفزيون، والمغنين، والساسة، أكثر بكثير مما تُسلّط على مبدعي الأدب. ونادراً ما نلقى الكاتب النجم الذي يضاهي بشهرته شهرة بعض نجوم الرياضة والسياسة والسينما.
كان سارتر خلال العقد التالي للحرب العالمية الثانية نجماً أطبقت شهرته الآفاق، هو الذي أنزل الفلسفة من سماوات التعقيد والتجريد إلى الشارع مانحاً إياها صبغة شعبية. ولم يكن سارتر الوحيد الذي نال مثل هذه الشهرة في تلك الحقبة، وإنما كان إلى جانبه صديقه اللدود ألبير كامي، ورفيقته الحميمة سيمون دي بوفوار. وهؤلاء الثلاثة مع غيرهم كانوا يتنقلون بين مقاهي المونمارتر والسان جيرمان يحيط بهم مريدوهم والمعجبون بهم.. يخوضون نقاشات حامية حول قضايا الأدب والفلسفة والمجتمع والسياسة. وكان انشغالهم بالسياسة، في تلك المرحلة الفارقة، أحد أسباب نجوميتهم.
بعد انتهاء حقبة الستينيات ما عادت النجومية تشمل كتّاب الأدب إلاّ في القليل النادر. والكاتب النجم، اليوم، هو الذي يكون موضع اهتمام وتقدير في الوسط الأدبي والثقافي، وبين مجتمع النخبة فضلاً عن بعض جمهور القراء الذي هو محدود جداً بالقياس إلى جمهور مباريات كرة القدم والسينما والتلفزيون.
لعل غابريل غارسيا ماركيز يتمتع في بلاده كولومبيا بشهرة تقترب من شهرة مواطنته المغنية والراقصة ذات القوام الأسطوري الفاتن: شاكيرا. ولكن هل يتعرف على ماركيز بالمصادفة قارئ لرواياته إذا ما دخل العراق سراً وأخذ يتمشى في شوارع مدنها وأسواقها. مثلما فعل الكاتب البنمي فارغاس يوسا لمّا زار العراق مع ابنته بعد أحداث 2003 مباشرة، وجال في مدن عراقية، منها بغداد، والتقط صوراً، وتكلم مع مواطنيين عراقيين، وكتب انطباعاته وآراءه، من غير أن يتنبه لوجوده أحد حتى في نطاق الوسط الثقافي العراقي؟!.
أتساءل لو كان الزائر هو اللاعب زين الدين زيدان أو الممثل فاندام، أكان يستطيع أي منهما السير في شوارعنا من غير أن يلفت الانتباه، ومن غير أن يتبعه، في مشهد شبيه بمظاهرة، المئات والآلاف.
أذكر أننا ذهبنا إلى السليمانية قادمين من أربيل بعد انتهاء مهرجان المدى الثقافي/ ربيع 2006. وفي مساء وصولنا أقامت لنا الفرقة السمفونية للمدينة حفلة موسيقية رائعة. وكان هناك جمهور أنيق ومتذوق من شباب المدينة وشاباتها. وكان كتّاب عراقيون وعرب يدخلون القاعة الواحد تلو الآخر من غير أن يثيروا انتباه أحد. وحين أطل الممثل المصري القدير محمود حميدة، وكان أحد ضيوف المهرجان، بوسامته ومشيته المميزة، صدرت شهقة إعجاب ومفاجأة من ذلك الجمهور: آآآآآه.
حفلة لمشاهير الكتابة:
يعوِّل علي بدر على مخياله السردي في اختلاق حفلة تُقام على شرف مشاهير الكتابة، فيقدّم عن كل منهم مروية خاصة لا تخلو، أحياناً، من مقاطع إنشائية فضفاضة. لكن المعلومات الدسمة التي يضخها، وتعقيباته الثاقبة حولها، تعكس عمق ثقافة المؤلف وتشعبها، وتمنح متعة في القراءة، مع فائدة معرفية واسعة.
إن معظم نجوم هذه الحفلة هم من الكتّاب الفرنسيين، أو الذين يكتبون بالفرنسية. باستثناء بضعة أسماء ينتمون للثقافة الإنجليزية. وأعتقد أن هذا الأمر يعود إلى ثقافة المؤلف الفرنسية، واطلاعه الممتاز على أدبها.. وإذن لن يلج هذه الحفلة المتخيلة الضاجة بالموسيقى والأنوار كاتب ( عربي ) قديم أو معاصر واحد يكتب بالعربية. فحظ الكاتب العربي سيء حتى في الدعوة لاحتفال افتراضي تجري وقائعه في عالم الخيال، وعلى الورق.
في البدء، وبمراسيم مهيبة تستقبل الحفلة سارتر؛ "كانت الأضواء شديدة السطوع والجمهور ضاجاً وصاخباً، نساء ورجال بشعور طويلة وملابس غريبة، وأصوات عديدة متداخلة، موسيقى وغناء قادمان من مكان بعيد". وسارتر، بحسب علي بدر هو ممثل الثقافة الحسية والشعبية في باريس الخمسينيات من القرن الماضي، العاكس لأسلوب الحياة في الحي اللاتيني والسان جرمان دوبريه.. هناك إذ تشيع تقاليد وعلاقات من نمط فريد، تتجلى في لقاءات المقاهي والملاهي ودور النشر والمكتبات. وذلك كله على إيقاع موسيقى الجاز والشانسون الفرنسي والأصوات الساحرة لأديث بياف وشارلز آزنافور. وحيث يعيش المجتمع الأدبي حياة بوهيمية صارخة.
يدخل سارتر، مثلما نراه نحن بعيوننا العربية، مثلما فهمناه، أو مثلما أردناه أن يكون، الموزع بين سارتر "البوهيمي الذي يشكّل خطراً على القيم الأخلاقية" وسارتر "المناضل السياسي المؤمن بالاشتراكية، والمتعاطف مع الشيوعيين" وسارتر "معادي الستالينية وقاهر الشيوعيين" وسارتر المفكر الأوروبي والآخر العالمثالثي، فضلاً عن سارتر الدوغمائي وسارتر المتمرد، الخ.
هذه الحفلة الناهضة في مخيلة علي بدر تجري بلا نظام واضح في ترتيب حالات الوصول والدخول والتعريف بالحضور الذين يقبلون من حقب زمنية مختلفة، ومن أماكن متعددة، ومن حقول إبداعية وفكرية متباينة.
يدخل ديريدا الصالة، ولكن إدوارد سعيد يكون قد سبقه إلى هناك، فهل سيتبادلان التحية؟ يبدو أن هذا الأمر يشغل ذهن المؤلف الذي يخبرنا أن "نرجسية الكاتبين الكبيرين والكارزميين على نحو ما لا تسمحان ـ كذا ـ لهما بصداقة طويلة الأمد". ولا يُقدّم إدوارد سعيد في حفلة علي بدر بوصفه مفكراً كونياً، له مشاريع كبرى، ويسعى إلى تدمير السرديات الكبرى في التاريخ. ( أهو تفكيك أم تدمير؟ ). وكذلك تفكيك "فكرة اختراع الهوية المضلل والمحبوك، وتفكيك الذاكرة التخييلية" والتي "تسير بمحاذاة الكشف عن العلاقات المنتجة بين السلطة والمعرفة".
على حين فجأة، بعد حضور أقطاب الفكر والفلسفة ( سارتر وديريدا وسعيد ) تطل أغاثا كريستي؛ الروائية التي كتبت أكثر روايات الجريمة إثارة وتشويقاً فتلفت الانتباه بقوة.. يرتفع العزف ويرقص الجمهور، ويتزاحم الكتّاب حول الكاتبة "يحاولون التعرّف على أسرار كتابتها"!. فيما كؤوس النبيذ تدور بين المدعوين، والجو كله مضمخ بالعطور.. ونعرف أن اغاثا كريستي جاءت إلى بغداد مع زوجها عالم الآثار ماكس مالوان، فسكنا فيها أواخر الأربعينيات، وكتبت فيها وفي المواقع الآثارية التي تنقلت بينها عدداً من أعمالها منها؛ ( موعد في بغداد ).
بعد كريستي يهل على الحضور كاتب آخر هو باسكال كينيار بشخصيته الصامتة "وحركته البطيئة ووجهه الذي يشبه وجه المطرود من الجنة". أعقبه أبولنير؛ الباريسي الملعون، شاعر النساء مثلما يصفه المؤلف، "يدخل بجثته الضخمة وهو يعصّب رأسه بالنجوم كما رسمه بيكاسو".. ينشد قصيدة بهية، أنقلها بنصها الكامل، وقد ترجمها علي بدر حين كان جندياً في خندق الحرب:
"أعبدك يا ( لو )، والكل يعبدك/ الخيول التي تحمحم عند الضفاف/ ضمادات التماثيل اللاتينية التي تتأملني/ رجال المدفعية الشجعان الذين يعودون إلى ثكناتهم/ الشمس التي تهبط على مهل خلف الزرقة الشاحبة/ آه، يا كثيفة الشعر المصنوع من نار/ أنت سراجي الذي يضيء لي هذا العالم/ واللهب الذي هو قوتي".
رامبو، ساغان، بورخس، وآخرون:
كان يمكن لعلي بدر في كتابه ( بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير ) أن يجعل من حفلته أكثر إثارة ومتعة بتوسيع وصفه لها، وتحديد كيفية توزع مشاهير الكتابة المشاركين في أرجاء الصالة، وبتخيل حوارات ساخنة تدور بينهم، أو حصول مفارقات وحوادث صغيرة ذات دلالة يكونون أبطالها مستلة من أفكارهم ومواقفهم وسيرهم. وعدم الاقتصار على إيراد إشارات مقتضبة عن الحفلة في بدء دخول كل كاتب ( أو كاتبة ) كما في الكتاب، حيث يشرع المؤلف بعد تلك الإشارة بالاسترسال في التحدث عن ذلك الكاتب ( أو الكاتبة ) باستخدام أسلوب المقالة المشبعة بلغتها اللماحة الطرية وأسلوبها الرشيق الدافق، وكأن كل واحد منهم يقف أو يجلس بعيداً عن صاحبه. وكان هذا بحاجة إلى جهد لم يشأ علي بدر أن يبذله على الرغم من براعته في السرد وسعة خياله. وحتى هذه الإشارة العابرة، والتي ستبدو فيما بعد مقحمة، سيتخلى عنها في منتصف الكتاب لنكون حينئذ مع مقالات متتابعة، لا يربطها رابط منهجي أو موضوعي، عن كتّاب وكاتبات تركوا بصماتهم في تاريخ الأدب العالمي واستحقوا الشهرة التي حظوا بها.
بعد أبولنير الذي يحتفي به المؤلف، ويخصه بإعجابه، يفاجئ رامبو ضيوف الحفلة وهو يظهر أمامهم بحذاء مثقوب وقدم متهرئة، محدثاً صدمة بينهم "كما صدم معاصريه بشفافيته التي لا حد لها، بالقوة البروميثية التي لا تنضب، بعنفه وقوته التي لا تدجّن، بخياله الذي اتسع حتى لم تعد مدينته قادرة على تحمله".
في بواكير حياته الشعرية، وهو مراهق، مارس رامبو أشد أنواع الموبقات، مصادقاً الشحاذين واللصوص وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق.. كان فظاً متغطرساً منبوذاً في هذه الآونة.. كان يلعب باللغة، مقوِّضاً ما تيبس في شجرتها، ناحتاً لغة أخرى مدهشة، حادة كالشفرة، جارحة ورائية، تضيئ أعماق النفس المظلمة وتكشف هول الوجود. وكان ثمة اتساق بين حياته وشعره حتى إذا بلغ العشرين ضاق ذرعاً بأوروبا، وبالشعر، ليغادرهما معاً في رحلة مغامرة شيقة وقاسية ومميتة إلى الشرق ليغدو بتوصيف علي بدر "التاجر الملعون في عدن والحبشة وهرر، أصبح الكولونيالي الذي يسوق الرعايا الملونين في البلاد البعيدة ويخدم مصالح المستعمرين".
يسبغ المؤلف على ضيوف حفلته صفات عظمة مبهرجة، رنانة، تجعلهم شخصيات لها قوتها وفرادتها كما لو أنهم سحرة مهيبين، أو أبطال معارك ملحمية قدموا، مغبرين، عليهم آثار جروح، ويحملون رايات انتصارات كبرى.. إنها شخصيات لها حضورها الإبداعي اللافت. وهكذا بعد إدوارد سعيد "يدخل حكواتي الغشاشين وجندي طريق فلاندر.. بعد سعيد يدخل كلود سيمون... هو كاتب النصوص المدهشة ذات القوة الخارقة، والروايات الطويلة ذات العظمة شبه الملحمية. روائي العنف الذي حوّل الحدث الطارئ في التاريخ الفرنسي إلى مشهدية كرنفالية". وعند الحديث عن فرانسوا ساغان يبدأ المؤلف من لحظة رحيلها عن هذا العالم بعد حياة متمردة، مبرقشة بالأضواء والفضائح: "ماتت الصغيرة التي خلخلت بصراحتها الجارحة وإنشائها المغري معايير الآباء وأخلاقهم، ماتت التي هزت بكلماتها الماجنة ذات المعنى المزدوج جيلاً من المتطهرين".
وبالصخب ذاته يدخل خورخه لويس بورخس الحفلة "لقد دخل الحفلة أبو الهول العجوز: ناسج الحكايات، وصانع الأحلام، وفاضح غرور البشر، دخل وهو يقول: عمري 84 عاماً، وقد توفي أصدقائي جميعهم. عندما أفكر بهم أتخيلهم كأشباح. جميعنا أشباح، أليس كذلك؟".
سيقبل أيضاً سولجنستن العالق بين تولستوي وديستويفسكي، وأليوت الآتي "من العقم العاطفي إلى الأرض الخراب"، وكامو الذي طبع "العصر الحديث بنزعته العدمية المتشككة".. سيقتحم الحفلة البوهيمي الملعون هنري ميللر، وكاتب "المهمشين والمعذبين والمقصيين والمغيبين" تشارلس بوكوفسكي. والصعلوك اللص خريج السجون، الشاذ، ذو البلاغة العالية جان جينيه، والتركي الذي مزج التاريخ بالسياسة بالسيرة الذاتية بالخيال السردي الخلاق أورهان باموق.. سيتقاطر على الصالة الباذخة آخرون وآخرون من غير أن يأبه بهم أحد، بعد أن يكون علي بدر قد نسي أمر حفلته، لكنه يهبنا مع حضور كل كاتب ( أو كاتبة ) منهم قدراً غير قليل من نشوة القراءة وعافيتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات