الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية 5 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية ( 1)

عبد المجيد حمدان

2011 / 9 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
6
مخاطر على الديموقراطية 5 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية ( 1 )
وهكذا نواصل ما بدأناه في الحلقات السابقة ، محاولين الإجابة على بعض الأسئلة التي سبق طرحها . وسنتوقف ، في هذه الحلقة ، عند موضوع العلمانية ، التي نراها مدخلا لا بديل له ، في مناقشة الموضوعات اللاحقة .
وكان الجدل ، حول العلمانية ، قد احتدم في مصر ، عقب الظهور المفاجئ ، والقوي ، للجماعات السلفية ، في جمعة تفريق الصف 29 يوليو الماضي . قلت قد احتدم لأنه كان قائما قبل ذلك ، ولكن ليس بذات الحدة التي صبغته بعدها . الجماعات أعلنت بوضوح ، وبصورة قاطعة ، رفضها لمصطلح مدنية الدولة ، واعتبرته غطاءا لعلمانية الدولة ، العلمانية التي تعني ، عند هذه الجماعات ، الكفر وإشاعة الإلحاد ، ومن ثم الإطاحة بالمادة الثانية في الدستور ، التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع . وهددت الجماعات ، ومعها الإخوان المسلمون ، وحزب الحرية والعدالة ، واجهتم السياسية ، المجلس العسكري والحكومة ، بمليونيات ، قد تتجاوز وسائل التعبير السلمي ، لمواجهة وإحباط مشروع إعلان دستوري ، بمبادئ أساسية ، البعض سماها حاكمة ، وآخرون فوق دستورية ، لتكون جزءا من الدستور القادم ، لا تتجاوزها اللجنة الدستورية ، المقرر قيامها بعد الانتخابات البرلمانية . والحجة أن المبادئ الدستورية هذه ستشكل الدولة المدنية ، التي هي في نظرهم علمانية معادية للدين ، ملحدة وكافرة ، وبما يهدد هوية مصر الإسلامية ، حسب قولهم .
من الجانب الآخر يبرر المطالبون بمدنية الدولة ، مقولة فصل الدين عن الدولة ، أو الفصل بين السياسة والدين ، بضرورة تنزيه الدين عن الغرق في ، أو حتى التماس مع ، وحول السياسة ، التي هي قذرة بطبيعتها . قذرة لأن السياسة تقتضي استخدام جملة من الألاعيب والحيل ، وتبديل المواقف . و وفي حين أن هذا التبديل لا تقضي وسائله الاتصاف بالنزاهة أو النظافة ، فإن قدسية الدين ونزاهته توجب الابتعاد عن كل ذلك .
وإلى جانب ذلك يجتهد كل من طرفي هذه المشاحنة ، أو المناظرة ، في تطمين الآخر ، بعدم توفر النية للمساس بالأساسيات : الحريات والحقوق والمساواة والعدالة الاجتماعية وحتى المواطنة . لكن كل طرف يواصل إبداء شكوكه ، وعدم اطمئنانه ، تجاه ما يضمره الآخر . مستندا في هذه الشكوك ، وانعدام الطمأنينة ، إلى التجربة التاريخية الطويلة والمعاشة لكل من طرفي المعادلة . والمراقب يرى ، ويا للعجب ، أن كلا الطرفين محق في طرحه ، كما ويملك الحق في عرض شكوكه وإعلان عدم طمأنينته . كلاهما يعرض جزءا من حقيقة رؤيته . ذلك الجزء الباعث على الطمأنينة وإزالة الشكوك ، ويخفي الجزء الأكبر من حقيقة رؤيته ، وهو الجزء المثير للشكوك ، والباعث على إثارة أعمق مشاعر انعدام الطمأنينة ، وبالتالي استعادة المواقف الثابتة من انعدام الثقة المتبادل . كيف ؟
مواقف متباينة :
الإخوان المسلمون ، وفي اللقاءات المخصصة لنقاش وثائق المبادئ الأساسية المقترحة للدستور ، كوثيقة الأزهر مثلا ، وعلى عكس بعض التيارات السلفية ، يقولون باتفاقهم مع ما ورد فيها ، مع تحفظات شكلية ، تخص الصياغة ، هنا وهناك . ورغم ذلك يرفضون التوقيع عليها ، إلا إذا اتفق الجميع على نزع الصفة الملزمة لها ، والتأكيد على أنها استرشادية . يعلل الإخوان وحزبهم ، حزب الحرية والعدالة ، بالحرص أولا على الإرادة الشعبية ، وثانيا برفض إلزام البرلمان القادم ، واللجنة الدستورية القادمة ، بنصوص مفروضة مسبقا ، وبما يعني ، حسب زعمهم ، مصادرة الإرادة الشعبية ، وقبل أن تبدأ عملها . حجة الإخوان تتمثل بما يصفونه بالحرص على تقييد أيدي هذا البرلمان الذي لا يعرف أحد الآن من هي القوى التي ستكون صاحبة الأغلبية فيه . والمرء يفترض ، وهو يسمع هذا الكلام ، وكأن قوى من خارج مصر ، تنزل من المريخ ، وليس قوى من ساحة السياسة المصرية ، وعلى رأسهم الإخوان ، واحتمال تشكيل هذه القوى القادمة من المريخ ، للكتلة الأكبر في البرلمان القادم . ولما كانت جميع القوى السياسية ، التي ستشكل البرلمان القادم ، أو ستكون جزءا منه ، تعلن من الآن التزامها بهذه المبادئ الحاكمة والمتفق عليها ، وتضمينها في الدستور القادم ، يصبح من غير المفهوم رفض الإخوان إعلان مثل هذا الالتزام . والتفسير الوحيد لموقفهم هذا ، أنهم يضمرون نوايا فرض ما يناقض موقفهم المعلن من الاتفاقات على المبادئ . وبعبارة أخرى يضمرون مصادرة الإرادة الشعبية التي يدعون الحرص عليها .
وفي الوقت الذي تجاهر فيه جماعات سلفية برفضها للديموقراطية ، وسعيها لإقامة دولة دينية ، لا يسمع أحد معارضة من الإخوان لهذه الأقوال ، كما يفعلون مع الغير من التيارات القومية واليسارية والليبرالية . ولأن الإخوان يواصلون السعي للتحالف مع هذه الجماعات في الانتخابات القادمة ، فذلك يعني نوعا من التوافق مع طروحاتهم ، ضد مدنية الدولة ، ومن أجل إقامة الدولة الدينية ، أو على الأقل نوعا من عدم الممانعة تجاه هذه الطروحات .
المسألة الثانية تتمثل في ذلك الحديث المبهم عن النظام الإسلامي . الحقيقة الثابتة تقول أن التاريخ لم يعرف شيئا اسمه النظام الإسلامي ، بسمات ، بصفات ، بأسس محددة للحكم ، بنظم إدارية ، وأخرى سياسية وقضائية محددة ، ثابتة وواضحة المعالم . فعلى مر التاريخ الإسلامي ، نشأت وحكمت عشرات النظم ، في بلدان الإسلام المختلفة ، قالت أنها إسلامية ، لكنها ظلت متباينة ، وشديدة التنوع . والحقيقة التاريخية تقول بوجود نظم إسلامية ، وليس نظاما واحدا . ولا أظن أن أحدا في التيارات الإسلامية ، يمكنه أن يزعم أن نظام الخلافة الأموية يحمل قرابة شبه بالخلافة الراشدية . والمصريون عرفوا نظما عدة ، منها غير الخلافات الخمس ، الدولة الطولونية ، والإخشيدية ، والأيوبية والمماليك ، بنظم حكمهم المتعددة ، والعلوية – أسرة محمد علي - ...الخ . ومن حق المواطن ، قبل الممارسين للشأن السياسي ، أن يسأل : أي من هذه النظم تراه تيارات الإسلام السياسي الأنسب ، وبالتالي تستهدف تطبيقه على مصر ؟ وأن يسأل : أي هذه النظم احترم الإرادة الشعبية يوما ، هذه الإرادة التي نصبت هذه التيارات نفسها حامية لها ، ومن ثم استغلالها والاختباء تحت عباءتها ؟ أم أن المقصود استلهام مثال أحد نظم الإسلام الحديثة : السعودية ، أفغانستان طالبان ، السودان أم إيران ؟
وإلى غير هذا نرى دعاة سلفيين يعلنون مواقف من بعض ملامح المستقبل الذي يريدون لمصر . مواقف من الاقتصاد والتنمية ، وفي مقدمتها السياحة ، ومن الفنون والأدب وسائر مكونات الثقافة . وأبسط ما يقال فيما يعلن من آراء أنها مدمرة ، ليس لاقتصاد مصر فقط ، وليس لسائر أنماط ومكونات حياته ، وإنما أيضا لتاريخه ولتراثه ولجميع مكونات حضارته . ولا تعليق أو رد من الإخوان والتيارات التي تظهر في المقابلات ، ما يمكن وصفه ببعض الانفتاح . فماذا يعني هذا ؟ أليس من حق المواطن أن يفهم أن هؤلاء جميعا متفقون ، وأن هذا ما يعدون الناس به ، وحقيقة ما يبطنون ، وهو النقيض لما يظهرون ؟
على الجانب الآخر فإن تشكك التيارات الإسلامية ، في حقيقة نوايا القوى الليبرالية والقومية واليسارية ، له ما يبرره . فهم أيضا لا يعلنون كل ما يضمرون ، أو ما يعرفون عن الديموقراطية والعلمانية . فحين يقولون بأن رؤيتهم لفصل الدين عن السياسة ، تتمثل في أنهم يريدون تنزيه الدين ، وإبعاده عن دنس السياسة ، فهو ينطقون بجزء من كل . والتيارات الإسلامية تعرف وتعي ذلك . وحين يكتب مفكر وكاتب إسلامي بأن النظم الإسلامية لم تعرف ، في تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنا ، الفصل بين السياسة والدين ، فإن هذا المفكر الكاتب لا يتجاوز على الحقيقة قيد أنملة . وعليه يكون تنزيه الدين عن دنس السياسة لا محل له ، وغير مقبول على الإسلاميين . وعلى العكس قد يرون فيه تعريضا بالمقدس . فالنبي ، كما الخلفاء الراشدون ، مارس الجمع بين الدين والسياسة ، ومارس من الفعل السياسي ما لا يرضى الإسلاميون بإطلاق التوصيفات الحديثة عليه . فالنبي مثلا لم يأمر فقط بتصفية خصوم سياسيين ، بل وشارك في التخطيط ، وأشرف على تنفيذ ثماني عمليات ، فشلت اثنتان منها ، وطالت ثلاثة منها كهلا أعمى وامرأتين ، اغتيلت واحدة وهي نائمة ، وطفلها يرضع من صدرها ، وشقت الثانية ، وهي عجوز في الثمانين من العمر ، إلى نصفين ، بعد ربط رجليها بحبلين إلى جملين . وليس أقل من ذلك حادث غدر خالد بن الوليد في بني جذيمة . وحين بلغ النبي الخبر لم يفعل غير أن قام واستقبل القبلة ، ثم رفع يديه حتى بان إبطاه ، وهو يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاثا . ولم يعزل خالد . وعلى العكس سماه ، بعد مؤتة ، بسيف الله المسلول . وكرر خالد في عهد أبي بكر وفي حروب الردة ، خروجه على توجيهات أبي بكر . وطالب عمر مرارا بتنحيته ومحاسبته . ورفض أبو بكر معللا رفضه بالقول : لا أشيم سيفا سله الله . ,وعزله عمر . وتعمد إذلاله ورسوله يحصي أمواله ويحاسبه . وبعد ذلك صرح عمر بأنه ما فعل بخالد ما فعله ، لأنه يمسك على خالد ما يعيبه ، بل لأنه خاف أن يفتتن به الناس ، وأن يفتن بهم . وفيما بعد صار موقف عمر هذا وكأنه القانون . أغلبية قادة الفتح الإسلامي ، ومنهم محمد بن القاسم ، وقتيبة بن مسلم ، وطارق بن زياد ، وموسى بن نصير ، كأمثلة فقط ،لقوا مصائر مفجعة . منهم من قتل ، ومنهم من قضى في السجن ، ومنهم من نفي ....الخ ، لا لشيء إلا لأن الخليفة خاف من المجد الذي حققوه ، ومن أن يفتتن بهم الناس ، فيشكلوا للخليفة منافسا محتملا . وعلى مدى التاريخ الإسلامي تكررت هذه الأفعال السياسية آلاف المرات . ولم ير الفقهاء ما يصيب الدين من دنسها . فهل يتوقعن أحد أن يفعلوا ذلك الآن ؟
ولا يكشف الليبراليون واليساريون عن بعض ما يخيف الإسلاميين من الديموقراطية . ذلك أن ضمان الحريات ، على تنوعها ، ركن أساسي من أركان الديموقراطية . وحرية الاعتقاد عمود مركزي في هذا الركن من أركان الديموقراطية . وتطبيق حرية الاعتقاد يشمل ضمان حق المواطن في اختيار دينه . ضمان وكفالة المفاضلة بين خيارات ثلاث : البقاء على الدين الذي ورثه بحكم ولادته . التغيير والانتقال إلى اعتناق دين جديد ، وليس بالضرورة واحدا من الأديان السماوية . وأخيرا لا هذا ولا ذاك ، أي لا دين . وكفالة حرية الاعتقاد هذه تتصادم بقوة مع فهم التيارات الإسلامية لمسألة الإيمان ، وحظر مجرد مناقشة القضايا الإيمانية .
ورغم أن الجميع الآن في مصر يتحدث عن إعلاء شأن العلم ، وهو جوهر مسألة العلمانية كما سنبين لاحقا ، فإن الجميع يسكت على حقيقة أن رفع شأن العلم يقوم على دعامات رفع شأن العقل ، كما تطرحه العلمانية . والعودة لرفع شأن العقل يعني ، من وجهة نظر الإسلاميين ، العودة لإحياء وبعث ذلك الصراع ، الذي حسم لصالح أهل النقل ، قبل ثمانية قرون . والعودة لإحياء شأن العقل يعني العودة لإخضاع المسلمات الإيمانية للجدل والنقاش ، وبما يعني خطر دحر هذه الإيمانيات ، كما جرى في بلدان العلمانية . وهو ما دونه جز الرقاب عند التيارات السلفية وحلفائهم الإخوان .
من وحي التجربة :
وجريا على عادتنا ، كنت وصديقي معاوية نتبادل المعلومات والرأي ، في أطروحات جانبي المعادلة السالفة . وفجأة سألني : لماذا في رأيك قبلت أمم أوروبا العلمانية ، تجاوبت معها وطبقتها على سائر مجالات حياتها ، فيما يبقى شرقنا ، العربي والإسلامي ، على موقفه الرافض لها ؟ وقبل أن أبدأ محاولة الإجابة ، كان لا بد أن أدرك حقيقة أن سؤال صديقي ، يستند إلى ، وينطلق من ، معرفة تاريخية مؤكدة ، لحقيقة حال الأمم الأوروبية ، وقت أن بدأت معركتها ، فمسيرتها ، مع العلمانية . آنذاك ، وعلى طول مسار المعركة ، اتصفت الأمم الأوروبية ، جميع الأمم والشعوب ، بتعلقها واعتزازها الشديد ، بتمسكها وحتى درجة التعصب الأعمى ، بهويتها المسيحية ، الكاثوليكية منها والأرثوذوكسية ، والبروتوستنتية بكل تفرعاتها . اعتزاز وفخر وتعصب فاق إلى حد بعيد أمثاله ، مما نراه الآن في شرقنا العربي .
قلت لصديقي معاوية : ليست هناك ، في رأيي ، ولا أملك ، إجابة مبسطة على سؤالك . وأظن أن الكثير من أسباب سوء الفهم المحيط الآن بمسألة العلمانية ، راجع إلى محاولات التبسيط ، حتى التسطيح ، الجارية ، سواء فيما يتعلق بعرضها ، أو بفهمها . وهكذا وقبل البدء في الإجابة دعني أطرح بعض ما أراه ذا صلة بالموضوع ، من واقع تجربتي ، ومن الواقع المحيط ، وأخيرا مما يطرحه مثقفون مصريون ، يقولون أن قلبهم على مصر وثورتها .
قلت : لعلك تذكر أن مسيرتي العملية بدأت أوائل الستينات من القرن الماضي . بدأتها معلما لمادتي الرياضيات والفيزياء ، للصفين الحادي والثاني عشر . ولعلك ما زلت تذكر أن مادة الرياضيات كانت تحوي مباحث عدة ، منها الميكانيكا والهندسة . المهم أنني دأبت ، في الامتحانات الشهرية ، على طرح سؤال من خارج المنهاج . أي من غير الأسئلة الموجودة في الكتاب المقرر . كنت أضع السؤال مستلهما أحد التطبيقات الموجودة في الشارع ، والمألوفة للطالب ، ومما تقع عليه عيناه باستمرار ، إن لم يكن في كل لحظة . وظللت أفاجأ ، مع تكرار التجربة سنة بعد أخرى ، ومع اختيار السؤال من المستوى المتوسط ، من حيث الصعوبة والسهولة ، أن نسبة الإجابة الصحيحة ، ظلت تنحصر بين 10 و15 % فقط . وفي النقاش ، وحين أشير لموضوع السؤال ، الماثل أمام الطلاب في الشارع ، ظل الجواب يتكرر سنة بعد أخرى : ولكن ما علاقة هذا بذاك ؟ ما علاقة العلم بالتطبيق ؟ وظللت أسأل : لماذا إذن ندرس العلوم ؟ أمن أجل رياضة ذهنية ؟ وإن كانت كذلك ، فما هي إذن فوائد هذه الرياضة الذهنية ؟
وأضفت لصديقي : ولكي أضعك في الصورة أسرد لك حادثة التصقت بذهني ، لغرابتها كما رأيت . وضعت في أحد الامتحانات سؤالا عن مكوى كهربائي . وبعد المعطيات سألتهم أن يحسبوا كلفة كي بضعة قمصان . وكان أن إجابة أحد الطلبة أذهلتني . اقتربت الكلفة ، في إجابته ، من الأربعة آلاف دينار ، بالضبط 3764 دينارا . وفي النقاش سألته : كيف يمكن كي قميص ثمنه ربع دينار بمئات الدنانير؟ ورد علي ، ولم يستغرب البقية الرد : وما علاقة هذا بذاك ؟
وأنتقل لمسألة أخرى يعرفها مزارعونا . الكل يعرف أن موسم الزيتون يتقرر في الفترة ما بين بداية شهر مايو – أيار ، الشهر الخامس ، ومنتصفه . هذه فترة الرياح الخماسينية . وإذا تصادف وجاءت موجة منها بدرجة حرارة تزيد على 35 درجة ، مصحوبة برياح قوية ، يطير الموسم ، ولا يعقد على الشجر إلا أقل القليل من الثمر . وسنة شلتونة ، كما يصفها المزارعون . واعتدت تبادل المعلومات عن الموسم مع بعض المعارف من قريتي . سألني أحدهم : كيف زيتونك ؟ قلت له أن الموسم طار ، مرفقا إجابتي بإشارة إلى حالة الطقس . قال : هذه إرادة الله . قلت : ولكن طيران الموسم شر ، والله لا يريد لعباده غير الخير ، فهل أراد .... قاطعني قائلا : أنا إيماني مطلق ، وأقفل النقاش . وخرجت من عنده وأنا أردد كلماته ، إيماني مطلق ...إيماني مطلق ... ولو أن محدثي كان جاهلا لما صدمتني إجابته ، ولكنه كان متعلما . متعلم ويحمل شهادة جامعية . والكل مثله .
وقلت لمعاوية ، لنترك التعليق للقارئ ، ولننتقل من الخاص إلى ما يمكن وصفه بالعام . فقد دأبت وسائل الإعلام الفلسطينية ، المسموعة والمرئية ، على تقديم نشرة عن الأحوال الجوية ، عقب انتهاء النشرة الإخبارية . ويصر مقدم النشرة على اختتام النشرة الجوية بترديد عبارة : والله تعالى أعلى وأعلم . وإذا كان مقدم النشرة يعرضها بناءا على طلب مقدم البرنامج ، فإن الأخير يردد خلفه : والله تعالى أعلى وأعلم . ولما كان من غير المرجح أن أحدا من السامعين يشك ، أو يظن ، أو يشكك ، أو ينكر ، على الله علوه وسمو علمه ، فلا بد أن يراود البعض التساؤل عن سر ، أو سبب ، إصرار مقدم النشرة الجوية على اختتامها بهذه العبارة . قال صديقي : الأكثرية من المستمعين لا يتساءلون ، يعتبرونها أمرا طبيعيا ، وهذه لا أتركها للقارئ وأجيب : لأن النشرة الجوية هي واحدة من التطبيقات القليلة لعلم هو مبحث من مباحث علم الفيزياء . فيه يستقرئ المتنبئ جملة من المعلومات ، يستخلص منها ، بعد تطبيقه لقوانين خاصة بالموضوع ، الحالة الجوية ، درجات الحرارة المتوقعة ، نسبة الرطوبة ، حركة الرياح ....الخ . والغرض من إضافة العبارة واضح ولا يحتاج إلى تفصيل . قوانين ما وراء الطبيعة ، وليس قوانين الطبيعة هي الحاكمة .
وننتقل إلى المسألة الأخيرة ، وفيها ، قلت له ، سأعرض عليك اقتباسا مطولا من مقالة لكاتب إسلامي اسمه خالد الشريف ، بعنوان :"ماذا يريد العلمانيون من مصر " نشرته اليوم السابع المصرية عدد 14 / 8 . كتب " .....ومصر – رائدة العالم الإسلامي – لا تصلح معها هذه العلمانية ، لأن الإسلام متجذر فيها ، فهؤلاء المتغربون المفتونون بأوروبا يجهلون علاقة الإسلام بالدولة والسياسة ، لأن هذه العلاقة كانت قضية محسوسة وموضع إجماع ، فالإسلام عقيدة وشريعة وسياسة وجهادا وقانونا على امتداد ثلاثة عشر قرنا من عمر الحضارة الإسلامية لم يعرف الناس حديثا عن الفصل بين الدين والدولة ، إلا مع طلائع الغزو الفكري الغربي لبلادنا في العصر الحديث " . وبعد كيل ما فيه النصيب للشيخ علي عبد الرازق مؤلف كتاب " أصول الحكم في الإسلام " ، يعود ليقول : " .....لكن الجدل يشعله العلمانيون اليوم بعد ثورة 25 يناير مخافة تكرار الدولة الكنسية التي عرفتها أوروبا ، والأمر مختلف تماما للدولة التي ينشدها التيار الإسلامي ، والتي تمثل نمطا متميزا ، وضعت قيما وأخلاقا وأحكاما وحدودا يتحركون في ظلالها ، وتركت للناس حرية كاملة في اختيار الحاكم ، وجعلت بينه وبين الرعية عقدا يمكن أن يفسخ في أي وقت ، إذا طرأ فساد على العقد ..وتركت لهم حرية تدبير شؤونهم وحياتهم ، ويكفي أن أوروبا تجرعت كأس العلمانية المسمومة حتى أصبح الإنسان في الغرب بلا روح ولا قيم ولا أخلاق ، وتفسخت في ظلها الروابط الاجتماعية والدينية ...وأصبح الرجل يصاحب خليلات ويحرم عليه الزواج ، والمرأة لها أصدقاء خارج نطاق الزوجية ، وانتشر العقوق والعلاقات المحرمة ، وأصبح الإنسان الغربي يشعر بأنه بلا روح مما أدى إلى شيوع حالات الانتحار وهجر الناس دور العبادة والكنائس ..." . قلت لصديقي : بعد سماعك هذه الاقتباسات المطولة ، هل فهمت من هذا الداعية شيئا ؟ ضحك وقال : طبعا . وبعدها سألت : هل الدعاية لأمر كبير كالدين تحتاج لهذا الكم من المغالطات ، من التزوير ، وحتى من الكذب المفضوح ؟ وهل فعلا يتصور هذا الداعية وأمثاله ، أن كل الناس على هذه الدرجة من الجهل ، فلا يميزون بين وقائع التاريخ ، وما يفرزه هذا النوع من الخيال المريض ؟ وأضفت : والأمر الطريف أن هذا الكاتب ، وفي مقاله التالي ، عدد21 / 8 عاب على العلمانيين عدم ردهم عليه ، معتبرا عدم الرد دليلا على إفلاس هؤلاء العلمانيين . وأنهيت بالقول : وبعد ما سلف ألا ترى معي أن التبسيط ، كما يفعل كثيرون ، لا يخدم الموضوع ، ولا يقدم نفعا ، وإنما ضررا محققا ؟
واستدراك :
قلت لصديقي : وإذن وقبل المتابعة ، اسمح لي بوقفة استدراك . استدراك بغرض التذكير بحقائق ، ذات صلة هامة ببحثنا ،عادة ما يتم تجاوزها . مثلا حين يذكر الماضي غالبا ما يضفى الحاضر عليه ، فيرى هذا الماضي بعين هذا الحاضر . فلو أنك مثلا طلبت من أحدهم أن يصف لك حال المدينة أيام الخلافة الراشدية ، لأتحفك بوصف ترى فيه رام الله الآن ، بشبكات للمياه وللصرف الصحي ، وحتى للإنارة . ويسري هذا الأمر على رؤية الناس لأحوال الدول في الماضي ، التي يرونها صورة للدولة الحديثة . وكنا قد سبق وأشرنا كيف قدم لنا مخرجو المسلسلات التلفزيونية
لباس نساء الجاهلية ، نسخة من لباس ممثلات هوليوود . بسبب ذلك توجب تقديم الملاحظات التالية .
أولاها أنه لا توجد أوجه شبه بين نظم وإدارات دول العالم القديم ، ما قبل القرن التاسع عشر ، وبين نظم وإدارات الدول الحديثة . ينطبق هذا القول على النظم الإسلامية ، على تعددها وتنوعها ، ومنذ نشأة الخلافة الراشدية ، وحتى سقوط السلطان عبد الحميد ، آخر الخلفاء العثمانيين . كما ينطبق على سائر نظم الدول الأوروبية ، منذ دول المدن اليونانية ، مرورا بالإمبراطورية الرومانية ، وممالك بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا ....الخ . وهذا القول ينطبق أيضا على دول الشرق ، الصينية والهندية والمغولية ...الخ . الدول القديمة ، ومنها الإسلامية ، لم تعرف هذه الإدارات المتعددة للدولة . وظل الخليفة ، أو السلطان ، أو الملك يجمع في يديه كل السلطات . ونظام الوزارة الذي دخل متأخرا ، لم يجمعه شبه بالنظام الوزاري القائم . ولعل القارئ يتذكر أن كتب التاريخ الإسلامي لم تسم وزيرا واحدا لأي من الخلفاء الأمويين ، ولا للعباسيين قبل الرشيد ، الذي أدخل هذا النظام ، بتعيين وزير واحد هو يحيى البرمكي . ومعروفة قصة غضبه على البرامكة والبطش بهم . وبعده لم يتطور نظام الوزارة هذا . وإذا عرفت بلدان الإمبراطوريات ، والخلافات الإسلامية ، مترامية الأطراف ، نظام الولاة ، فإن الشبه بين هذا النظام ، ونظام المحافظين الحالي غير كبير .
ثانيها أن ضعف وسائل الاتصالات والمواصلات ، انعكس ضعفا على العلاقة بين المركز والأطراف . بمعنى أن سيطرة المركز الإدارية ، ناهيك عن السياسية والفكرية ، لا تماثل نظيرتها في عالمنا المعاصر . ولعل القارئ يتخيل كيفية معالجة بغداد ، لمشكلة تتعلق بأمن الدولة ، وقعت في أفغانستان . ذلك أن توصيل المعلومة ، والرد عليها ، يحتاج شهور طويلة ، يجعلها تتفاقم ، وحلها غالبا لا يعتمد الحوار وسيلة . والأمر ذاته في قضايا الفكر والدين ...الخ .
ثالثها أنه ومنذ نشأة الدولة ، وحتى القرن التاسع عشر ، بصورة ما ، رافق النشأة تحالف السياسة والدين . وظل هذا التحالف يخدم مصالح طرفيه ، وضد مصلحة الأغلبية من المواطنين . كان هذا قبل الأديان السماوية واستمر بعدها . ومثل أية ظاهرة إنسانية ، عرف هذا التحالف تغيرات أو تطورات ، أو تلاوين ، عدة . عرف غلبة أحد طرفيه كما عرف التوازن . وفي الأعم الأغلب تسيدت السياسة وتبع الدين . ففي العصور القديمة جمع الملك القيادة الدينية إلى جانب السياسة ، فهو إما إله ، الفراعنة مثلا ، أو نصف إله ، كملوك وادي الرافدين ، السومريين والبابليين والآشوريين ، وملوك الإغريق ، والإسكندر مثالهم الأشهر . وفي النظم الإسلامية جميعا ، جمع الخلفاء والسلاطين بين القيادتين السياسية والدينية – إمامة الصلاة – وظل أئمة المساجد يدعون له عقب انتهاء الصلاة ، إقرارا بجمعه للإمامتين . وصحيح ما يقوله خالد الشريف أن الناس في شرقنا العربي لم يعرفوا ، وعلى مدى ثلاثة عشر قرنا ، حديثا عن الفصل بين الدين والدولة . لكنه نسي ربما ، أو تجاهل ربما ، أن الأوروبيين ، ولفترة أطول بكثير ، لم يعرفوا مثل هذا الحديث أيضا، وذلك لأن التحالف بين حكامهم ورجال الدين كان كل ما عرفوه وعايشوه . وعلى الجانب الآخر ظلت قصيرة الفترات التي تسيد فيها الدين على السياسة . بمعنى أن اليد العليا ، في تحالف السياسة والدين ، كانت لرجل الدين ، وليس للملك . حدث هذا الأمر في جنوب وغرب أوروبا ، عقب سقوط الامبراطورية الرومانية ، وتمزق أراضيها بين ممالك وإمارات . ومع ذلك ، ورغم ذلك ، ظهر ، في ظل هذا الوضع ، ملوك أقوياء ، في بريطانيا وفرنسا ، قلبوا هذه المعادلة . لكن هذا الحال استشرى في إيطاليا ، لدرجة ظهور عدد من الدويلات التي حكمها رجال دين بصورة مباشرة . وفي التاريخ القديم ، والعهدة على التوراة ، عرف بنو إسرائيل مثل هذه الظاهرة ، حيث حكمهم اثنا عشر قاضيا ، بينهم أنبياء ، قبل أن يتحول الحكم إلى الملكية ، وليحكم الملوك الأنبياء ، شاءول وداود وسليمان وأولادهم من بعدهم . وفي عصرنا الحديث تقدم نظم الحكم في السعودية ، السودان وإيران ، نماذج لتحالف السياسة والدين . ولا أظن إلا أن القارئ يعرف أن السياسة في السعودية والسودان هي صاحبة اليد العليا في هذا التحالف ، والحال معكوس في إيران . وأيضا لا أظن إلا أن قارئا ، بإلمام بسيط بالتاريخ ، يعرف أن الفصل بين طرفي هذا التحالف ، ظل هدفا مركزيا للثورات ، قديمها وحديثها ، وإن كانت مركزية هذا الهدف قد تجلت بوضوح كبير في الثورة الفرنسية ، والأخرى التي أعقبتها .
ورابعها أن دول عالم ما قبل القرن التاسع عشر، لم تعرف مثل هذا الوضع من العلاقات الدولية . لم تعرف ، ولم تقيد نفسها ، بالمعاهدات والارتباطات ، أو القواعد والقوانين والمواثيق الدولية . وظل أمر السلم والحرب ، مطامع التوسع أو الانكماش ، رهنا بمشيئة رأس الدولة ، الممثل لتحالف السياسة والدين ، وتقرره موازين القوة على الأرض . القوة اللازمة للغزو والاستيلاء ، وقوة الردع المضادة ، التي قد تلجأ إلى تحالفات مع الجيران ، لمواجهة خطر أطماع جار يستشعر القوة . والتاريخ ، وفي المقدمة التاريخ الإسلامي ، لم يعرف مبررات للغزو ، فتوسع دولة ناشئة ، وانكماش ، فتلاشي دولة قائمة ، ولكن شائخة . ولم تكن هناك مواثيق مقيدة لتعامل المنتصرين مع أهالي الأرض المفتوحة ، الذين يتحول قسم منهم ، ممن لهم علاقة مباشرة بالحرب والمقاومة ، إلى عبيد ، فيما يُسلب الآخرون من الكثير من حقوقهم ، وفي المقدمة ملكياتهم الخاصة . والحديث الحاضر عن مثل هذه الحقوق في الماضي ، لا تعدو أن تكون مجرد لغو فارغ ، يستهدف التدليل على أن الماضي ، في نظام بعينه وفي مساحة محددة ، أفضل من ، أو على الأقل يماثل ، الحاضر .
وخامسها أن ما جرت تسميته بعصور الظلام في أوروبا ، لا ينطبق على كل أوروبا ، وإنما على جنوبها وغربها وجزء من وسطها . أي على تلك الأجزاء التي كانت أملاكا للإمبراطورية الرومانية . فبتفكك هذه الإمبراطورية تحولت أملاكها إلى دويلات صغيرة ، كانت الكنيسة الكاثوليكية هي القوة المسيطرة فيها . وكان بديهيا ، بعد سقوط الحضارة الرومانية ، أن تتقدم الكنيسة الكاثوليكية لملء الفراغ . والذين يتباهون منا بالحديث عن هذه الفترة ، التي امتدت قرابة العشرة قرون ، لا يتذكرون أن التسمية ، عصور الظلام ، جاءت من حلول الغيبيات والخرافات الدينية محل العلم ، وبسبب مصادرة الكنيسة الكاثوليكية للعقل ، وهو ذات ما تفعله جماعات الإسلام السياسي اليوم . لكن ذلك كان النصف الفارغ من الكأس . وعلى أي حال ظل الجزء الآخر من أوروبا ، نصفها الشرقي والشمالي ، تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية ، وتحالف السياسة فيها مع الكنيسة الأرثوذوكسية . ولأن الكنيسة الأرثوذوكسية لا تأخذ بطقوس الاعتراف ، لم يعرف هذا الجزء من أوروبا شيئا عن صكوك الغفران ، ولم يصب بمرض محاكم التفتيش الذي ساد في الجزء الآخر ، أي في اسبانيا ، فرنسا وألمانيا وجوارها . وبالمناسبة ولأن الكنسية القبطية ، والكنائس الشرقية الأخرى ، الأرمنية والسريانية ، لا تأخذ بطقس الاعتراف ، لم تعرف هي الأخرى صكوك الغفران هذه .
واستراحة :
عند هذا الحد من حديثنا قلت للصديق معاوية : أظن أنني بما تقدم ، قد قطعت نصف الطريق في الإجابة على سؤالك . وأستسمحك هنا في وقفة لاستراحة قصيرة ، نكمل بعدها قطع النصف الثاني من الطريق إلى الإجابة ، بادئين الحديث عن النصف الثاني من الكأس ، الذي أشرنا له قبل قليل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث وسط الضباب.. إليكم ما نعرفه حتى الآن عن تحطم مروح


.. استنفار في إيران بحثا عن رئيسي.. حياة الرئيس ووزير الخارجية




.. جهود أميركية لاتمام تطبيع السعودية وإسرائيل في إطار اتفاق اس


.. التلفزيون الإيراني: سقوط طائرة الرئيس الإيراني ناجم عن سوء ا




.. الباحث في مركز الإمارات للسياسات محمد زغول: إيران تواجه أزمة