الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادات من الفلوجة

يونس الخشاب

2004 / 12 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


شهادات رهيبة ،قاسية بدأت الان تظهر للملأ من داخل الفلوجة . واذا كانت القوات الامريكية
قد منعت مراسلي الصحافة المستقلة من تغطية الاحداث ،واذا كانت الحكومة العراقية قد فرضت
تعتيما اعلاميا على الاحداث هناك فان ذلك لن يمنع سيل الشهادات التي بدأت بالتدفق لتكون
جزءاً من ثقافة المقاومةالعراقية . وما احرانا بان نجمع كافة تلك الشهادات الموثقة لتبقى اثراً يتركه
هذا الجيل من العراقيين للاجيال القادمة .
الشهادة التالية دونها الطبيب " حكيم ميرزوييف " ممثل البعثة الانسانية الى العراق ، وسبق له
ان قدم خدمات مماثلة في كوسوفو و الشيشان وهو روسي الجنسية من اصول تركية .

وكنتيجة للنقص الحاد جداً في المياه داخل المدينة فضلاً عن شحة المخزون منها فانه يبدأ
شهادته كالتالي:

"سويةً مع الامريكان بدأ الذباب بغزو المدينة .انه بالملايين ، ويبدو و كأن المدينة باسرها قد
سقطت تحت سيطرته . الذباب يغطي الجثث. وكلما كانت الجثة اكثر قدماً كلما ازدادت اعداد الذباب
عليها.فهو اولاً يغطي الجثة باصرار غريب ، بعدئذٍ يقوم بالحوم فوقها وآنذاك يمكن مشاهدة حجاب
رمادي متحرك يغطي الجثة. ويتحرك الذباب باعداد كبيرة بين الخرائب وكأنه ظلال لوحش هائل.
اما نتانة الرائحة فقد كانت شنيعة .
انها ازمة مياه عمت المدينة ، فببساطة ليس هناك من مصدر نظيف للماء .فاهل الفلوجة يجلبون
الماء من النهر مباشرة ،رصاصي اللون ، مخلوطاً بالطين ، يحمل الموت معه . وبامكانك
ان تقايض اي شئ مقابل الماء . فنظام تصريف المياه قد دمر ، كما تم تدمير خزانات تجهيز
الماء كذلك ، اما الكهرباء فهي غائبة عن المدينة .
انني اخشى التفكير فيما سيؤول اليه الحال في الاسبوعين القادمين . فمرض التهاب الكبد
سوف يحصد آلاف الارواح . ويقال ان سكان ضواحي الفلوجة بدأوا يعانون من حمى
واعراض مرض التيفوس . ولكن لا احد يمكنه التحقق من ذلك ، فهم يمنعون الحركة في
المدينة .
كان الجميع يعرف انهم سوف يجتاحون المدينة ، لكن لا احد يعرف كيف سيتم ذلك . ولأكن
صريحاً ، حتى أنا لم أستطع تخيل رؤية الجحيم مرة ثانية وذلك منذ الجحيم الذي عشته في
كروزني حيث اعتقدت انني لن ارى حدثاً شبيهاً في المستقبل ، حيث العاصفة على كروزني
كانت ماسوشية قومية روسية ، عودة الى العصور الوسطى ، الغباء الممزوج بالجريمة .
وبغداد التي استسلمت من دون مقاومة تجعل المرء يعتقد ان هذه العاصفة لن تدوم طويلاً ،
حيث سيطلقون بضع قذائف على محيط المدينة ويهدموا بعض البنايات وينتهي الامر .
اما المقاتلون فأنهم سيختبأون وسيخبر الامريكيون رؤوسائهم : أنجزت المهمة .

صديقي ، المقاتل ، عبد الله ،والذي يصر بعناد على مخاطبتي ب "حكيم " قال لي انه
يجب ان اغادر المكان " اذهب من هنا ، هناك معركة كبيرة قادمة واهل الفلوجة لن
يتركوا مدينتهم ، نريد ان نبين لهؤلاء المرتزقة كيف يقاتل العراقيون "
في البداية لم أصدق كلامه ، كنت اعتقد انه يتفاخر .

بدأ الامريكان باطلاق النار على المقاتلين في الجانب الذي تقع فيه المستشفى . وحينما
وصل الجنود بدأوا بتفتيش المستشفى ، دققوا في وثائق الجميع . كان المترجمون العراقيون
في حالة اهتياج . ان هؤلاء يمثلون الصنف الاقذر من الناس ، انهم تجسيد لكل ما هو سئ.
فهم يتذللون و يتملقون أسيادهم الامريكان بشكل لا يحسنه سوى هذا الصنف من العرب،
وقحون بلا خجل ومتغطرسون على ابناء جلدتهم . وهم يعقدون صفقات ترجمتهم طيلة الوقت.
فاذا ما طلب الامريكان تهيئة البيت للتفتيش ، فان المترجم سيضيف بكل تاكيد " ان البيت
سوف يفتش ، وانه ـ اي المترجم ـ يحتاج الى رشوة كي لا يدخل الجنود الى مخادع النساء
في البيت ، رغم ان الاوامر تقول ان مثل هذه الاماكن يجري تفتيشها من قبل البوليس العراقي
، غير انه يضيف قائلاً " ولكن هؤلاء الامريكان لا يلتزمون بالاوامر .
في اليوم التالي بدأوا بتدمير المدينة. فقد بدأت الانفجارات تهز الارض من تحت الاقدام ، وبدأ
الجص يتساقط من السقف ، وتحطم زجاج النوافذ ، ولم يعد بالامكان تبادل الكلام بل الصراخ
بسبب اصوات الانفجارات المستمرة . ولكن ما هو فظيع كان قد بدأ منذ اليوم الاول . فقد بدأت
الاعداد الاولى من الجرحى بالوصول الى المستشفى على شكل افواج . احد الاطباء ادار مفتاح
المذياع الصغير الذي يحمله في جيبه على اذاعة البي بي سي ، مذيع النشرة كان يتمتم
شيئاً ما حول الاسلحة التي تصيب هدفها بدقة وعن المستوى الاحترافي العالي للجنود وحول
تقليص الاصابات العرضية الى ادنى حد ممكن .ولا اعرف في اي مكان كانوا يستخدمون
اسلحتهم الدقيقة هذه ، ولكن كان لدينا سيل لا ينتهي من الجرحى ، اطفال ، نساء ، شيوخ.
ليس بالعشرات ، بل بالمئات .
في اليوم الثالث بدأ مخزون الادوية يقترب من النضوب .خاصة عقاقير التخدير و المضادات
الحيوية. ولكن افواج الجرحى لم ينقطع .
وانا اراقب الجنود الامريكان بدأت افكر بالشبه الكبير الذي لا يكاد يصدق ،بينهم وبين الجنود
الروس والذي سبق وان رأيتهم في غروزني في كانون الثاني من عام 1994 .نفس الاجهاد
الازلي ،العيون الخاوية ،ونفس الملامح البليدة على الوجوه عندما يكون الوعي منهكاً لا
يستطيع التعامل مع اي حافز خارجي . نفس القرف من العالم الخارجي ، انه " التوحد " .
ففي العالم كله الآن ، لم يبق سواهم ، اما البقية فانهم اشرار كريهون .. نعم ان اجتياح
المدن امر يبعث على الغثيان . مثل ستالينغراد ، مثل غروزني ، مثل الفلوجة .
أحضر الدكتور أحمد البارحة من مكان ما ، نصف لتر من مادة " اليود " معبأة في قنينة كحول
ووضعها في الثلاجة ، وكان الثلج قد ذاب عنها منذ أمد بعيد . أحد الجنود فتح باب الثلاجة ، أبصر
القنينة ثم نظر الى جانبيه و خطفها بسرعة ، ويبدو انه لاحظ ان القنينة مفتوحة ، فازاح الغطاء
وبدأ يشم السائل داخلها ، بعد ذلك جفل وقذفها بقوة على الجدار وهو يصرخ بكلمتهم البذيئة
( ف ) .انتشر رذاذ اليود ليغطي غرفة العلاج بزخة حمراء ، ورائحته عبقت الغرفة اشبه
برائحة البحر والكحول . وغادر الجنود بدون كلمة . ولم ننطق نحن بشئ ايضاً .ذلك اليود
كان آخر ما نملكه .
في المساء تسلمنا شابا جريحا ، لم يكن قد تجاوز العشرين . كان مصاباً بطلقين في الصدر.
بجانبه كانت هناك امرأة ـ امه ـ ورجل كبير السن . كانوا يصرخون محاولين شرح شئ ما .
اسمعهم يقولون " من فضلك ، ساعدني " . أخذ الشاب الى غرفة العمليات . لم يكن له فرصة
في النجاة . فنحن ، عملياً من دون أدوية ، وحتى لو نجحت العملية ، فلا امكانيات علاجية لدينا
لما بعد العملية . زميلي الطبيب العراقي " عبد الكريم "قال ، بعد ان استمع الى ما قاله الشيخ
الفلوجي :
ـ بعد استجواب الامريكان للمعتقلين ، يقوم هؤلاء بتسليمهم الى خونتنا(ما يسمى بالجيش العراقي
الجديد) وهؤلاء ينفذون فيهم حكم الاعدام. وهذا الشاب الصغيرنفذوا فيه حكم الاعدام مع ثلاثة

آخرين . القتلة .
ان الشائعات حول تنفيذ الاعدام بدون محاكمة قد اصبحت حقيقة. فالكثير من الجرحى يقولون
ان شخصاً ما قد نفذ فيه حكم الاعدام امام عيونهم ، وبعد كل ما رأيته اليوم ، بدأت بتصديقها.
كان من الواضح ان الجيش الامريكي هنا قد تحرر من كل رادع فيما يفعله .
وخلال الايام الخمسة الاولى وبينما كان احصاء الجرحى لا يزال جارياً تلقى اكثر من ثلاث آلاف
جريح علاجاً لدينا ، وهؤلاء كانوا الناس الذين عايشناهم عن قرب ، او الاشخاص الذين استطاعوا
الوصول الينا. ولا أحد يعرف بالضبط كم هم الناس الذين ماتوا في المدينة .ولن يعرف احداً ذلك.

وها انذا الان أغادر المدينة ، ولا استطيع النطق بكلمة من هول الصدمة. لا استطيع التعرف على
المدينة. فقبل عشرة ايام فقط ، كانت هذه مدينة عراقية بديمومتها لمئات السنين كمدينة عربية،
باسواق مكتظة ، و شوارع صاخبة.و ها انذا الان اتجول في مدينة قتيلة مهجورة. ومن بين
اكوام حجارة المباني المهدمة والشوارع المقطعة والاحياء الكاملة التي مسحت عن وجه الارض
كأن وحش مخبول قد ضربها ، ارفع عيناي الى السماء مثل ما فعلت قبل خمس سنوات في
كوسوفو المهدمة . هل سوف يسائل احد عن هذه البربرية ؟ ولكن السماء لا تجيب ، فقط بضع
طائرات هيلوكبتر امريكية تقطع طريقي وهي تتجه الى خرائب المدينة.
فالقتل لا يزال مستمراً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيع دراجة استخدمها الرئيس الفرنسي السابق لزيارة عشيقته


.. المتحدث باسم الصليب الأحمر للجزيرة: نظام الرعاية الصحية بغزة




.. قصف إسرائيلي يشعل النيران بمخيم في رفح ويصيب الأهالي بحروق


.. بالخريطة التفاعلية.. توضيح لمنطقة مجزرة رفح التي ادعى جيش ال




.. هيئة البث الإسرائيلية: المنظومة الأمنية قد تتعامل مع طلب حما