الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين ابن خلدون ولسان الدّين بن الخطيب: الصّداقةُ وبصماتُ الوهم

محمد عبد الرضا شياع

2011 / 9 / 7
الادب والفن


لن أتحدّث عن الطّرف الأوّل من المعادلة - وأقصد ابن خلدون - في الإشارة التّاريخيّة، مكتفياً بالأضواء الدّائمة التي يلقيها الباحثون في مختلف الاختصاصات على نتاجات هذا الباحث الكلّيّاني، وسأشير إلى الطّرف الثّاني - وأعني ابنَ الخطيب - ثمّ أحاول تقريب طرفي المعادلة بقدر ما يتعلّق بموضوع هذه الوقفة من خلال لمسات شعريّة حملت عنوان " معاتبة خلدونيّة " للشّاعر سعيد سالم فاندي الذي أومئ له من هنا بتحيّة الصّداقة والإبداع..
يُعدُّ لسان الدّين بن الخطيب أكبر كتّاب غرناطة والأندلس في أزمنتها الأخيرة، وهو أبو عبدالله محمّد بن عبدالله بن سعيد، ولد سنة ( 713 هـ ) لأسرة يمنيّة على نهر شنيل بالقرب من غرناطة، وكان أبوه من أهل العلم والأدب، فعُيّن بدواوين غرناطة عند أمرائها بني الأحمر، وبها نشأ لسان الدّين، وعُني أبوه بتربيته، فبعد حفظه القرآن الكريم ألحقه بحلقات علماء العربيّة والدّراسات الإسلاميّة، وطمحت نفسه لمعرفة علوم الأوائل فكان له ذلك.. وقد تفتّحت موهبته الشّعريّة مبكرة، وأخذ في مديح السّلطان أبي الحجّاج يوسف ( 733_755هـ) وهو أهمّ سلاطين بني الأحمر في القرن الثّامن الهجري، ويُعدّ مؤسّس قصر الحمراء المشهور بما أضاف إليه من غرفه وأبهائه الفخمة. وأُعجب السّلطان بأشعار لسان الدّين فألحقه بدواوينه ثمّ تولّى رياسة ديوان الكتّاب. وتوفّي السّلطان سنة ( 755 هـ ) وخلفه ابنه الغني بالله، فازدادت حظوتُه عنده ورفعه إلى مرتبة الوزارة، ونشبت ثورة ضدّ سلطانه فاضطرّا إلى اللجوء عند السّلطان المريني بفاس سنة ( 760 هـ ) فطاف ابن الخطيب بلاد المغرب إلى أن عاد مع سلطانه إلى غرناطة سنة ( 763 هـ ) فألقى إليه السّلطان بمقاليد الحكم، ولقّبه بذي الوزارتين: السّيف والقلم، وانفرد بالحلّ والعقد فترة حتّى بدأت رحلة الغَيْرة والعذاب. حيث أخذ يشعر بدسائس كثيرة من حوله، الأمر الذي جعله يجمع حقائبه سنة ( 772 هـ ) ويتوجّه إلى فاس فأكرم المريني وفادته ولم يسلّمه إلى خصومه، بيد أنّ الدّسائس ظلّت تطارده، وقد أصابت هدفها بعد وفاة المريني واستلام السّلطان من قبل أبي سالم المريني سنة ( 776 هـ ) حين أجّج الصّراع وقاد الحرب المعلنة هذه المرّة الشّاعر ابن زَمْرَك تلميذ ابن الخطيب وقاضي غرناطة أبو الحسن النّباهي فأُودع ابن الخطيب السّجنَ لتتسلّل إليه يد عبر الظّلام فتودي به خنقاً؛ لتظلّ أصابع الاتّهام مشيرة إلى الصّديق اللدود ابن خلدون الذي لم يحفظ لابن الخطيب علاقة ودّ واستشارة حبٍّ وصداقة ذبلت سريعاً، وكأنّ كلمة الصّديق لفظ بلا معنى كما قال ابن زنباع عندما سئل عن معنى الصّديق، الأمر الذي دفع هلال بن العلاء الرقي لينشد قصيدته الملبّدة بغيوم النّفاق، أو المترعة بالتّناقض الظّاهري:
لمّا عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ أرحتُ نفسي من غمِّ العـداواتِ
إنّي أحيّي عدوّي عند رؤيتـه لأدفعَ الشّرَّ عنّي بالتّحيّـــاتِ
وأُظهر البِشْرَ للإنسان أبغضُهُ كأنّه قد ملا قلبي محبّـــاتِ
والنّاسُ داءٌ، وداءُ النّاسِ قربُهُم وفي الجفـاء لهم قطع الأُخوَّاتِ
فلستُ أسلم ممّن لستُ أعرفه فكيـف أسلمُ من أهل المودّاتِ
ألقى العدوَّ بوجه لا قُطوبَ به يكاد يقطر من ماء البشـاشاتِ
وأحزمُ النّاسِ من يلقى أعادِيَهُ في جسمِ حقدٍ وثوبٍ من مودّاتِ
لكن ابن الخطيب حقّق رحلة زمانيّة ومكانيّة، من الزّمن الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي القريب إلى الماضي البعيد، رحلة تنفصم فيها الرّوح عن الجسد، ويتحقّق فيها ما لا يتحقّق، ويربط فيها بين ما لا يرتبط، حيث تتقاطع الأزمنة كتقاطع الضّوء والظّلّ في مكان لا تُدرَك حدوده. ولعلّ هذا ما نلمسه في قوله:
سَرَى وَالدُّجَى قَدْ آنَ مِنْهُ رَحِيلُ نَسِيمٌ يُتِيحُ الْبُرْءَ وَهْوَ عَلِيلُ
وقف ابن الخطيب كثيراً متأمّلاً حمرةَ الغروب، منتظراً رجعَ الجواب عن سؤال الزّمن المفجع، سؤال الزّمن الحزين الذي تتّقدُ جذوة الأشواق فيه للإفصاح عمّا جرى وصار، وها هو الجواب يأتي سريعاً على لسان الشّاعر الدّكتور سعيد سالم فاندي الذي قرأ الزّمن بمكر الشّاعر ودُربة الباحث في: ( معاتبة خلدونيّة ):
لكَ يا ابن خلدون تحيّةُ مَنْ أضأتَ له الدّروبْ
تأتيك خلف الحُجُب والأزمان تخترقُ الغيوبْ
فيها عتـاب والعتـاب دليـل ودٍّ في القلوبْ
كيف انقلبتَ على الصّداقة ملقياً بابن الخطيبْ
في قبضة الشّكّ الذي ألقاه في السّجنِ الرّهيبْ
خنقتْه كفُّ الجَوْر والكفّ التي تُهدي الطّيوبْ
أرديتَه وهو الصّديق المخلص البَرّ الحبيـبْ
وهو المؤرّخ والمشاورُ في العظائم والأديبْ
أولاكَ من حُلَلِ الوفاء وقد أغاثك في الكروبْ
فرميتَه متغـافلاً عن عهـد إنعـامٍ خصيبْ

غرناطة شهدتْ بأنّك كنتَ في وهم عجيـبْ
أغراك برق خلّب حتّى تغشّـــاك الغروبْ
وقضيتَ عمرك لاهثاً تستشرف الأمل الكذوبْ
بين الكتـابة والسّيـاسة والتّقـرّب والهروبْ
وفقدتَ أهلَكَ والمناصرَ والمصاحبَ والقريـبْ
ورماك دهرُك بالتّغرّبِ والكآبةِ والخطــوبْ
هذا جزاءُ العالِمِ المفتون بالمجدِ المــريـبْ
لقد وحّد الشّاعر في هذه ( المعاتبة ) بين ما هو واقعي تاريخي وما هو رمزي مطلق.. وهذه إشكاليّة تحياها القصيدة كما يحياها الإنسان.. وكأنّها نتيجة حتميّة للصّيرورة الزّمنيّة وللسّيرورة الإنسانيّة معاً؛ لتظلّ يدُ الغدر عالقة في شباك التّيه تبحث عن طهرانيّتها في بصماتِ الوهم.
تأخذنا معاتبة فاندي الخلدونيّة إلى الصّداقة والصّديق حيث الهمّ الذي شغل أبا حيّان التّوحيدي طويلاً فقال:(( وأمّا الكتّاب وأهل العلم فإنّهم إذا خلوا من التّنافس، والتّحاسد، والتّماري، والتّماحك فربّما صحّتْ لهم الصّداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل )).
هكذا نستطيع القول: إنّ المعاتبة الخلدونيّة لم تكن معاتبة بقدر ما هي قراءة تاريخيّة لا تخلو من مَكْرِ شعريّةِ العنوان الذي يدعونا إلى القبض على " الظّلّ الذي اختفى في الظّلّ " بتعبير بول إيلوار، وعليه في ظلّ هاته المقاربة أقول لابن خلدون:
أنت مثلُ حاصدٍ في حقول القمح
يقف فوق خيراتِ العالم..
وأقول لابن الخطيب:
أنا لا أملكُ لك دموعاً وإنّما هي آهات لعلّها تضيءُ شمعتكَ التي أطفأتها يدُ الصّداقةِ.
ثمّ أقول لابن الخطيب أيضاً:
ستبقى حيّاً في قصائد بابلو نيرودا الذي كان يحلم بأن يكتبَ التّاريخ شاعر..
وستبقى حيّاً في أغاني غارثيا لوركا الذي كان مثلَ وعاء بلّوري انصهر فيه التّراث الأندلسي الذي لك فيه بصمات صائتة.
وستبقى حيّاً في أجنحة حمامة بابلو رويث بيكاسو البيضاء المرفرفة في سماء غرناطة.
وستبقى حيّاً في كلمات سعيد فاندي المشاكسة الباحثة عن قدّاسِ الصّداقة المضاءة بالحبّ والسّؤال...

تونس 27 / 08 / 2011 م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال