الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
فيلم - رشيدة - للمخرجة الجزائرية يامينا شويخ وآلية التعاطي مع إرهاب الدين والدولة
عدنان حسين أحمد
2004 / 12 / 3الادب والفن
لا تستطع التجارب الفنية أن تصمد طويلاً أمام تقادم السنوات ما لم ترتكز على مبدأ الصدق الفني الذي يستمد شروطه الخاصة من الرؤية الواضحة التي تسمّي الأشياء بمسمياتها، وترّد النتائج " المروّعة " إلى أسبابها الحقيقية التي أدّت إلى تفشّيها بين شرائح خاصة من الناس، وتفجّرها في زمان ومكان مُحَددين. وغالباً ما تلعب الرؤية القاصرة لكاتب السيناريو ومخرج الفيلم دوراً كبيراً في تشويش المتلقي، المصدوم أصلاً بسبب بعض الظواهر السلبية التي تنهش في عقل المواطن العربي، وذاكرته المُضببة. فحينما يقرر أحد المخرجين العرب أن ينجز فيلماً سينمائياً عن ظاهرة الإرهاب فإنه يجد نفسه مُحاطاً بخلاصات غير أمينة، ومراوغة، أو مفبركة أحياناً، بحيث تختزل هذه الظاهرة الخطيرة بالتطرّف الديني المتشدد، وتنسى إرهاب الدولة المنظّم، والذي تمارسه الحكومات في أغلب بلدان العالم الثالث ضد أبناء جلدتها، كما تتفادى الإشارة إلى العوامل الأخرى المشجعة على الإرهاب مثل تفشي البطالة، وغياب الحريات الشخصية والسياسية، وهيمنة التأويلات الغيبية التي تستلب من الإنسان قدرته في التفكير، والاجتهاد، وإعمال الذهن. وجدير ذكره أن السينما العربية قد تعاطت مع ظاهرة الإرهاب لكنها ظلت بمنأى عن التحرش بأجهزة الدولة القمعية بحيث باتت هذه الأفلام تصّب في مصلحة الدولة أكثر مما تتصدى لظاهرة الإرهاب نفسها. ومع ذلك فقد ظهرت بعض الأفلام الجادة التي تصدت لفكرة الإرهاب، وأشارت من دون وجل إلى دور الدولة في تغذية هذه الظاهرة المقيتة التي روّعت الناس الآمنين في عدد من الدول العربية لعل الجزائر أبرزها، مناط بحثنا في هذه الدراسة النقدية التي ترصد، وتحلل الرؤيتين الفنية والفكرية لفيلم " رشيدة " للمخرجة الجزائرية يامينا بشير شويخ. لابد من الإشارة إلى أن " رشيدة " هو الفيلم الروائي الطويل الأول ليامينا شويخ، كما أنها كتبت سيناريو الفيلم كي تعبّر عن وجهة نظرها الحقيقية، والشجاعة، والتي لا يعتورها اللبس، والغموض، والارتباك.
جرأة الثيمة وبنية الإدانة الصريحة
إن ما يميّز هذا الفيلم عن سواه من الأفلام العربية التي تعاطت مع فكرة الإرهاب هو وضوح رؤيته، وتشخيص الأسباب الحقيقية التي دفعت باتجاه تغذية هذه الظاهرة، وتصعيدها. فهناك العديد من الأفلام الروائية التي اتخذت من الإرهاب محوراً لها، ويكفي أن نشير إلى فيلم " الإرهاب والكباب " و " طيور الظلام " لشريف عرفة، و " الإرهابي " لنادر جلال، و " الناجون من النار " لعلي عبد الخالق و " الآخر " ليوسف شاهين، و " الصحفيون " للمخرج الجزائري كريم طرايديه، و " العالم الآخر " للجزائري مرزاق علواش. وبغض النظر عن طريقة تعاطيهم مع موضوعة الإرهاب من وجهة نظرهم الخاصة التي تدين جانباً محدداً، وتهمل عن قصد أو قصور في الفهم جانباً آخر قد يكون أشد خطورة، وهو إرهاب الدولة المنظّم، إلا أن يامينا شويخ تصر على تناول الجانبين في آن معاً على رغم خطورة هذا الموقف الذي قد يفضي إلى ما لا تُحمد عقباه. قصة الفيلم بسيطة، وليس فيها تعقيدات في البناء الدرامي، لكنها لا تخلو من عناصر الشد، والترّقب، والتشويق، والرعب الحقيقي الذي يتلبّس المشاهد أيضاً. وقبل الخوض في تفاصيل القصة السينمائية لابد من القول إن المخرجة لم تختر أسماء مشهورة في عالم السينما الجزائرية، بل اختارت عن قصد أسماء غير معروفة. وحتى دور البطولة أُسندته إلى " ابتسام جوادي " وهي ما تزال طالبة في المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية في الجزائر. وقد أفادتها خبرتها الأكاديمية في التمثيل على إتقان دورها الذي تألقت فيه ونالت عليه جوائز كثيرة تشهد على تمكّنها في تقمّص هذه الشخصية الإشكالية التي تنطوي على الإصرار، والعناد، والتحدي، والشجاعة الفائقة. قصة الفيلم تدور حول " رشيدة " معلمة شابة، تزاول عملها في إحدى المدارس الابتدائية في العاصمة الجزائر. وقد بدت هذه المعلمة متحررة، لها آراؤها وقناعاتها الخاصة فيما يتعلق بالحجاب، والحرية الشخصية. وفي أثناء ذهابها إلى المدرسة يعترضها شابان يرتديان زياً أوروبياً، كنّا نتصور أنهما يغازلانها أو يتحرشان بها، لكن صراخها الحاد والمفاجئ أوحى لنا بشيء أكثر حساسية من موضوعة التحرش أو الغزل العابر. الغريب أن هذين الشابين اللذين يرتديان الجينز قد طلبا منها أن تضع قنبلة في حقيبتها اليدوية كي يكون ضحيتها الأطفال هذه المرة. وحينما أصرّت رشيدة على موقفها الرافض أطلق أحدهما النار عليها وتركها تتخبط بدمائها وسط حيرة الناس الذين صعقهم هذا المشهد الإرهابي بحيث لم يحرّك أحد منهم ساكناً، فأصحاب المحلات أغلقوا أبوابهم، بينما كنا نسمع وقع خطى هاربة. فالرعب يبدو جماعياً، والعجز قد امتد ليشمل جميع من في الحارة، لولا أن تقدّم رجل كبير منها ليتأكد إن كانت الرصاصة أصابت منها مقتلاً أم أن قلبها ما يزال ينبض بالحياة. وحينما اكتشف أنها غائبة عن الوعي بفعل الطلق الناري وهول الصدمة التي تعرضت لها غطاها بشرشف ألقته امرأة كانت تراقب المشهد من طابق علوي، ثم جاءت الإسعاف لتقلها إلى المستشفى حيث يأتي لزيارتها كل من أمها وحبيبها على وجه السرعة. وحينما تتماثل للشفاء وتكتشف أن الحياة قد باتت مستحيلة بالنسبة لها في العاصمة، تقرر هي وأمها أن تغادر العاصمة إلى الريف علّها تكون في منأى عن هؤلاء الإرهابيين الذين أخذوا أشكالاً متعددة مثل الطلبة المُغرر بهم، والعاطلين عن العمل، والمجرمين الذين يفرزهم العنف الاجتماعي، ورجال الدين الأصوليين الذين لم نرّهم بالزي التقليدي، ولكننا كنا نشعر بأياديهم الخفية التي تطلق على زناد أسلحة الغدر والإرهاب. في تلك القرية النائية يلاحقها الإرهابيون المجرمون أيضاً، ويقضون مضجعها، وتزداد الأحداث درامية حينما نكتشف أن أباها رفض عودة أبنته التي اغتصبها الإرهابيون، وأراد أن يقتلها غسلاً للعار كما هو شأن التقاليد الاجتماعية في أغلب المدن والقرى العربية. ثم تبلغ الأحداث ذروتها حينما يفجر الإرهابيون المدرسة الابتدائية في القرية الصغيرة النائية، لكن رشيدة تضع سماعات " الوكمان " في أذنيها، وتخرج بزيها المعتاد ذاهبة إلى المدرسة وسط مخلفات الجريمة النكراء في إشارة إلى أن نافذة الأمل تظل مفتوحة بالرغم من جرائم الإرهابيين، وفي لقطات فنية أخاذة نراها تتهادى في طريقها إلى المدرسة حيث بدأ الأطفال يتوافدون تباعاً، ثم تستأنف رشيدة درسها في حب الوطن الذي لا يركع أمام هذه الضغوطات الشاذة التي حصدت أرواح الكثير من المواطنين الجزائريين الأبرياء. هذا الفيلم ينطوي على إدانة صريحة لكل مصادر الإرهاب، ومنابعه، ومسبباته. فالمخرجة لا تستثني أحداً، ولا تلقي اللوم على الأصولية الدينية المتشددة فقط، بل أنها تتحدث عن إرهاب الدولة، وتواطئها مع الحركات الدينية في ظروف معينة، وتشير من طرف غير خفي إلى البطالة المتفشية، والفقر المدقع، واحتكار السلطة، وسواها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تنعش ظاهرة الإرهاب، وتدفع بها إلى مشارف الهاوية.
أبعاد الرؤية النقدية
تعرّض فيلم " رشيدة " إلى انتقادات متنوعة، بعضها اصطف إلى جانب المخرجة، وبعضها الآخر وقف ضد الفيلم جملة وتفصيلاً. فالناقدة المصرية علا الشافعي ترى في هذا الفيلم " عملاً يضج بالحساسية والموهبة، ويضع أيدينا علي مكمن الألم والجراح في الجزائر. " خلافاً لما يوحي به الفيلم أول وهلة وكأنه يحاول أن " يفتح أبواب التمويل الأجنبي " أو يغازل الذهنية الأمريكية والأوروبية من خلال التصدي لموضوعة الإرهاب، أو تقديم صورة سلبية عن المواطن العربي أو الإسلامي، أو التركيز على عناصر التخلف، والأصولية المتشددة، ولكن لو دققنا النظر جيداً لوجدنا أن هذا الفيلم يعبّر عن وجهة نظر امرأة عربية مثقفة ثقافة عميقة، إضافة إلى كونها فنانة معروفة عملت في حقل المونتاج لمدة طويلة من الزمن، وبالذات مع زوجها المخرج المعروف محمد شويخ، لكنها تخلّت عن المونتاج لكي تُخرج فيلمها الروائي الأول الذي حصد العديد من الجوائز، ورُشح للأوسكار في مهرجان " كان " ذائع الصيت في دورته الخامسة والخمسين. ومن الأطروحات القوية التي تدافع عنها يامينا شويخ هي أن الفيلم يقف ضد العنف الموّجه ليس على المرأة غير المحجبّة، والتي تخرج من دون محرم حسب، وإنما هي تقف ضد العنف الموجّه الذي يستهدف الإنسان الجزائري بعامة، سواء أكان رجلاً أو امرأة أو طفلاً صغيراً. وعلى رغم هذه الرؤية الواضحة فإن البعض يعيب عليها أنها وضعت يدها على الجرح فقط، كما فعل سينمائيون آخرون، وهم يطالبونها بتقديم الحلول لهذه المشكلة العويصة، متناسين أن الفنان لا يقدم حلولاً، فهو ليس مصلحاً اجتماعياً، أو مفكراً، أو مؤرخاً، أنه ببساطة شديدة فنان له القدرة على رصد مثل هذه الظواهر الخطيرة، وتأشيرها، وعلى المتخصصين والمسؤولين في الدولة إيجاد الحلول الناجعة لها. الشاب الذي قدّمته يشكو من البطالة، والتهميش، والنسيان، والمرأة الأم تعرب عن يأسها المطلق في هذا الظرف الذي لم تسهم في صناعته، والمرأة " رشيدة " أو النساء بعامة مطاردات لأسباب غير منطقية. فالمخرجة تعتقد أن توفير الحياة الآمنة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ أسس المجتمع الديمقراطي، وإتاحة المجال أمام الحرية الشخصية والسياسية كفيلة بإنهاء ظاهرة الإرهاب والإجهاز عليها في بؤرها الشريرة. كما أنها تعلن صراحة خشيتها من مجيء الإسلاميين إلى السلطة لأنهم، بحسب تصوّرها، سيفرضون مشروعهم الديني المتشدد، وسيحرمون الناس من كل أشكال الحياة العصرية المتحضرة. وتعتقد أن السبب الرئيس في ضعف المواطن العربي، وهشاشته الفكرية هو خضوعه الكامل منذ مرحلة الدراسة الابتدائية إلى التلقين الفكري الفادح للحزب الواحد الذي يمتلك مقاليد الأمور في أي بلد عربي، وليس في الجزائر وحدها. فالإملاء الفكري، والببغائية الآيديولجية لا يصنعان مواطناً قوياً مُحصّناً، بل على العكس سيكون هذا الكائن البشري المُدجّن ضعيفاً، وواهناً، قابلاً للانكسار والهزيمة، ولا يرى من هذه الحياة المتنوعة، الثرية إلا جانباً نمطياً واحداً. أغلب التغطيات والدراسات النقدية التي كُتبت غِب مشاهدة الفيلم ركزّت على الجانب السياسي في الفيلم، وتعاطت معه وكأنه وثيقة رسمية لإدانة هذه الممارسات الإرهابية، في حين كان الفيلم يتوافر على مواصفات فنية ناجحة جداً، ولعل الجائزة التي أسندها مهرجان الإسكندرية السينمائي لابتسام جوادي التي برعت في تأدية دورها الأول، وتألقت فيه وكأنها فنانة محترفة لها خبرة متراكمة في التمثيل، هي اعتراف بموهبتها الفنية الفذة، وتتويج لأدائها المتقن الذي شدَّ المتلقين، وحبس أنفاسهم.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مصطفى كامل وعدد من الفنانين يقدمون واجب العزاء لأسرة الفنان
.. لقاء حواري ضمن سلسلة : -جسور الترجمة: نحو فكر عربي متجدد ومع
.. عاجل .. 7 ديسمبر الحكم على الفنان عمرو دياب بتهمة التعدى ع
.. لوحات للفنانة الأميركية هيلين زغيب تعرض في أبوظبي
.. كيف أصبحت المانغا مهووسة بالنازيين والجيش؟ | واحة الثقافة