الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مثقفون مقدسيون، في رحاب القدس عاصمة الثقافة لعام ‏2009‏‏: إدوارد سعيد

محمد صوان

2011 / 9 / 8
القضية الفلسطينية


في عام (القدس عاصمة الثقافة العربية) ستكون بعض مقالات هذه الصفحة مكرسة لمفكرين من مدينة القدس في العصر الحديث، لهم دور مؤثر في الحياة الفكرية. وستلقي المقالات الضوء على حياة هؤلاء المفكرين وما هو جوهري وأساسي في فكرهم.
إدوارد سعيد
ربما يكون المفكر الراحل إدوارد سعيد، هو المثقف الفلسطيني المقدسي الأكثر أهمية، والأكثر إثارة للجدل، في المرحلة التي تلت (نكبة عام 48 وهزيمة 67)، رغم أنه لم يعش في مدينة القدس التي تحتفل هذا العام باختيارها عاصمة للثقافة العربية، وإنما عاش في المنفى، فأنهى تعليمه الثانوي في القاهرة، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة ليمضي فيها بقية عمره دارساً وباحثاً وموسيقياً ومدرساً حول فضاءات وموضوعات لسكنى جماعية بديلة قوامها: التعايش والتلاقي والحوار والاعتماد المتبادل وحق الاختلاف. وإذا كان قارئ إدوارد سعيد لا يمكن إلا أن يتأثر بالنبرة القلقة التي تطبع جل كتاباته حول الموضوعات التي فكر فيها، وفي طليعتها تجربة المنفى، فلأنه كان يلاحق فوضى الحياة وقسوتها، من خلال البشر الذين أبصر في منفاهم شيئاً يسعفه على فهم شرطه الخاص، وفي مقدمتهم الراحل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.
من هنا يبدو كتابه (الإنسانية والنقد الديمقراطي) أشبه بتلخيص لأفكاره ورؤيته النظرية، وكذلك العملية، للنقد، إنه نوع من الوداع الأخير والتشديد على أفكار ورؤى عزيزة على نفس إدوارد سعيد، ونتاج سنوات طويلة من التدريس في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. وينبغي التنبيه إلى أن هذا الكتاب أنجز في الفترة التي وقعت فيها أحداث 11 أيلول 2001، وما أحدثته من تغيير في المناخ السياسي في الولايات المتحدة والعالم، وقادت إلى غزو أفغانستان، واحتلال العراق، وشن حرب بلا هوادة على ما يسمى بـ (الإرهاب). ويرى سعيد أن هذا الوضع قد (ألهب العلاقة بين الغرب والإسلام)، مما جعل العالم برمته ينوء تحت ثقل الضغط الجيوـ استراتيجي المحتشد بالمتناقضات والعداء المتصاعد بين العالم الغربي، والعالم الإسلامي.
ورغم أن إدوارد سعيد يرى أن الثقافات والحضارات تتفاعل وتتشارك بدلاً من أن تتصارع، فإن الواقع الراهن يدخل هذه الثقافات والحضارات في جدل حاد حول أطروحة هنتنغتون التي تقول (بصدام الحضارات) وهي أطروحة يمقتها إدوارد سعيد، ويصفها بالجهل والانطلاق من رؤية عنصرية عرقية للعلاقة بين الذات الغربية والآخرين من الشعوب والأقوام والأعراق المختلفة، كما أنها تنبني على مصادر ثانوية وضحلة من المعارف، وتستند إلى التقارير الصحفية والتحليلات السطحية والدعائية، ما يجعلها بعيدة كل البعد عن الرؤية المعرفية للباحثين الكبار وأصحاب الرؤى الاستراتيجية النبيلة.
انطلاقاً من هذا التصور الإنساني للثقافة والعلاقة بين الحضارات، يقر إدوارد سعيد أنه عاش معظم سني حياته ونضجه في الولايات المتحدة، وانه عمل طوال العقود الأربعة الأخيرة من حياته كمدرس، وناقد، وموسيقي، وباحث، بوصفه إنسانياً ممارساً.كما أنه يحدد موضوع كتابه الأخير بالعلاقة التي تربط المذهب الإنساني والممارسة النقدية في وقت تمر البشرية فيه بحالة من انعدام التوازن والحروب وكل أنواع الاغتراب والاستلاب والقهر والعنف.
في هذا المنحى من المواجهة والتوتر المشحون في المحيط السياسي والثقافي الأمريكي والكوني، الذي يكتب ويفكر إدوارد سعيد انطلاقاً منه، يموضع المفكر الكبير رؤيته لضرورة تأهيل التيار الإنساني في النقد والإنسانيات، وإعادة النظر فيما دمرته (الثورة البنيوية) وما بعد البنيوية في العلوم الإنسانية الغربية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ففي تلك السنوات التي ازدهر فيها (الفكر البنيوي)، في الجامعات الأمريكية والبريطانية، على أنقاض الفكر الإنساني التقليدي، جرى التشديد على موت الإنسان والتاريخ والأيديولوجيا، وبروز تيار معاد للنزعة الإنسانية في أعمال وكتابات ليفي شتراوس وميشيل فوكو.
يتناقض هذا المشروع بالطبع مع مشروع التنوير الأوربي وفلسفته الإنسانية التي تضع في مركز اهتمامها وبحثها الإنسان ككائن وقيمة عليا، ويصبح الإنسان موضوعاً للقوة وآليات عملها، كما تظهر كتابات شتراوس وفوكو اللذين استفاد سعيد من عملهما على الخطاب وآلياته في كتابه (الاستشراق). لكن على الرغم من التأثير الواضح لهذين على عمل إدوارد سعيد، خصوصاً في كتابيه (بدايات) و(الاستشراق)، إلا أن سعيداً نأى بنفسه عن الرؤية الكلية المناهضة للنزعة الإنسانية، وآثر أن يأخذ من فكر الكاتبين الجوانب التقنية دون المنظور الكلي لعلاقة الإنسان بالسلطة وطرائق عملها، وظل سعيد مؤمناً بالنزعة الإنسانية وأفكار التنوير التي تدعو إلى العدالة والمساواة والتحرر والحوار والتعلم. وإن مثل هذه الأفكار قد ساعدت البشرية على مقاومة الحروب غير العادلة، والاحتلال بكل أشكاله، والظلم والاستبداد بكل أنواعه.
لقد جرى توجيه النقد إلى إدوارد سعيد بسبب هذا التعارض القائم في عمله، وللشرخ الذي يشق (الاستشراق) وكذلك (الثقافة والإمبريالية) من الداخل. ففي هذين الكتابين يدرس سعيد أشكال التشوه وآلياته، ويشير إلى كيفية تحول المستشرق أو الكاتب في ظل الإمبراطورية، إلى حامل للخطاب ومتفوه باسمه، بصورة قسرية، ربما هي جزء من طبيعة الخطاب نفسه كما عاينها فوكو. لكن صاحب كتاب (الاستشراق) سرعان ما يشدد على النزعة الإنسانية طارحاً جانباً رؤية فوكو المتشائمة للتاريخ الإنساني، وعدم قدرته على تمييز أية إمكانية للمقاومة في غابة علاقات القوة والمعرفة المتشابكة التي يصعب شق طريق للخروج منها.
يكتب إدوارد سعيد في كتاب (الإنسانية والنقد الديمقراطي) مدافعاً عن علاقته بالنزعة الإنسانية في النقد، ومبرراً كون هذه النزعة ما زالت صالحة للاعتناق في بداية قرن يشهد حروباً مذهبية وعرقية وإثنية وصداماً مزيفاً بين الحضارات والثقافات. وبغض النظر عن التعارضات الموجودة في عمل إدوارد سعيد، فيما يتعلق باستئناسه بالمذهب الإنساني، أو خطاب التنوير الغربي، فإننا بصدد رؤية مثالية، كونية، لتلاقح الثقافات وتفاعلها وتمحورها حول أفكار محددة خاصة بالتسامح والعدالة ونبذ الاستبداد والدعوة إلى مقاومة الهيمنة والاحتلال، والاستعمار والكولونيالية، في زمن يعود فيه الاستعمار العسكري والاحتلال المباشر إلى إملاء الإرادة على الشعوب المستضعفة. إن النسخة الإنسانية التي يطالب بها سعيد هي تلك التي يتحدث عنها المفكر شبيتزر الذي حدّد المختص بالإنسانيات بأنه ذلك الشخص (الذي يؤمن بقوة العقل البشري على فحص العقل البشري).
وينفي إدوارد سعيد عن النزعة الإنسانية في النقد والتفكير أن تكون ذات طبيعة إقصائية، لأن عملية التفحص النقدي للعمل والطاقات البشرية الخاصة بالتحرر والتنوير، وحتى للقراءات الخاطئة للماضي والحاضر الجمعيين، هي غاية هذه الرؤية الإنسانية النبيلة.
يدعو إدوارد سعيد إلى الخروج من (دائرة المركزية الغربية الجهنمية) التي جعلت مناضل الحرية فرانز فانون يعلن قائلاً: (إن نصب المذهب الإنساني الإغريقي ـ الروماني يتداعى في المستعمرات) كما يدعو سعيد إلى نقد النزعة الإنسانية الغربية من الداخل، بوصف ذلك النقد شكلاً للحرية والديمقراطية، ونوعاً متصلاً من المساءلة ومراكمة المعرفة حول الوقائع التاريخية لعالم ما بعد الحرب الباردة، وتشكيلاتها الكولونيالية، والامتدادات الكونية للولايات المتحدة في عالم اليوم. إنه نوع من الانقضاض على تركة المذهب الإنساني بتواطؤاته الإمبراطورية، وعلاقة المعرفة فيه بالقوة والخطاب الإمبريالي في القرن العشرين، واستبدال نقد ديمقراطي ومعرفة إنسانية ذات طبيعة كونية بذلك المذهب، ولا يتم ذلك إلا عبر الاستعانة بميراث الأمم الأخرى وتجاربها. ويدعو إدوارد سعيد إلى الاستعانة المعرفية، بمبدأ الإسناد والاجتهاد في (المعرفة العربية الإسلامية)، إذ يمكن للناقد أن يعد القراءة عملية مفتوحة قائمة على تراكم المعرفة. وهو يربط هذا النوع من القراءة، بقراءة النقاد الأوربيين الجدد الرصينة وميراث التأويل (الذي يمثله كل من شبيتزر وأورباخ) والاستقراء والعناية بالجزئيات التي توصلنا إلى الكليات. لكن القراءة النقدية هنا لا تكتمل، فعلى الناقد الإنساني أن يواجه قوى العولمة، والطموحات الإمبريالية، والليبراليين الجدد الذين يشنون حرباً شعواء على قيم الديمقراطية والمساواة، ويخربون البيئة، انطلاقاً من جشعهم الاقتصادي وسيطرتهم على المؤسسات الضخمة، الاقتصاديةو الإعلامية.
لقد رهن المفكر الفلسطيني المقدسي إدوارد سعيد دور الناقد، والمثقف، بالمهمة النبيلة للمقاوم الأبدي، للمعارض الذي ينبغي عليه أن يقول الحقيقة في مواجهة المتسلطين والمستبدين، مهما كان الثمن.
محمد صوان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح