الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مانهاتن .. مدينة المرايا

سهير المصادفة

2011 / 9 / 8
الادب والفن


كنت أعرف مسبقاً أننى سأحلِّقُ فوق مالطا ثم سألقى التحيةَ على تونس الخضراء التى انتثر منها ياسمين الربيع العربى، وقد لا أشعر متى سأطير فوق مدريد ومتى سأكون تحديداً فوق لشبونة قبل أن أعوم فى سحب المحيط الأطلنطى لأعبره كله لكى أصل إلى مطار جون كيندى بـ نيويورك .

أتأمل من علٍ القاهرة الهادئة الآن بمبانيها المتناثرة أوالملتفة حول بعضها البعض فى حالة عناقٍ طالما ما وجدته جميلاً حول نيلها الممتد ومأذنها الشامخة وقباب كنائسها بصلبانها المذهبة، تغلفها شبورة صباحية فتخفى عن عينىَّ أجزاءً من مشاهدها، كانت وكأنها تغفو ببراءة قائدٍ عظيمٍ انتصر فى كبرى معاركه وأسند رأسه كيفما اتفق ليحظى باستراحة محارب قبل أن يواصل النضال للانطلاق إلى آفاق أرحب .. مَن يصدّق أن القاهرة المستريحة الآن هى المدينة نفسها التى أجبرت العالم كله منذ ثلاثة أشهرأن يتفرج عليها عبر وسائل الميديا المختلفة وألا يُدير مؤشر قناة الجزيرة طوال ثمانية عشر يوماً لكى لا يفوته مشهدٌ واحدٌ من مشاهد أعظم ثورة رُأيت على مرّ التاريخ !

تستغرق الرحلة من القاهرة إلى نيويورك إثنتى عشرة ساعة، لم أر فيها الليل أو حتى غبشة المساء على الإطلاق فقط الشمس التى كانت تخترق نافذتى طوال الوقت، طرت فى الثانية عشرة ظهراً وعندما وصلت إلى مطار جون كيندى فى الثالثة بعد الظهر فى اليوم نفسه فرحتُ كما الأطفال لأننى ربحت من الزمن يوماً كاملاً .

أتجه وحيدة بـ "سيارة أجرة" إلى مانهاتن التى أعرف أنها أهم وأشهر جزيرة من الجزر الخمس المكونة لـ "نيويورك" .. بروكلين وستاتن أيلاند وكوينز، وأنها أكبر مراكز الصناعة والتجارة والمال على الرغم من أنها أصغرها على الإطلاق.

فى مانهاتن تستطيع أن ترى ناطحات السحاب وقد خرجت مغسولة ومضيئة وبراقة بزجاجها المصقول من سلسلة أفلام "الرجل الوطواط "، أقف فى أشهر ميادينها "التايم سكوير" وأشعر بصغر حجمى أمام الشاشات العملاقة التى تغطى بعض جوانب ناطحات السحاب والتى تتناوب عليها الاعلانات .. فتيات جميلات وشبه عاريات بحجم البناية تكاد أيديهن تُمسك بالسحاب .. تفاحة ضخمة تحتل نصف البناية وكأنها ما يُحكى عنه فى الحكايات القديمة ببساطة تستطيع إطعام نصف سكان مانهاتن .. موديل جديد من السيارات يكاد يدهمك وهو يحاول الانفلات من شاشته، وعندما تستريح الإعلانات من لهاثها ستجد بالضرورة صورتك أكبر من حجمك على إحدى الشاشات وستستطيع فى هذا الزحام التعرف إلى نفسك والتى هى أكبر على الشاشة من حجمها الطبيعى بأن ترفع يدك لتشير إليها أو أن تكون مرتدياً شيئاً مميزاً للغاية يشير إليك فى هذا الزحام، ربما لهذا يتسابق الأمريكيون فى عرض أزياء شديد الثراء والتنوع يبدأ من السارى الهندى ولا ينتهى عند المينى جيب الأمريكى، يشترك فيه الرجال والأطفال والعجائز والأجانب فهم على أية حالٍ يعلمون جيداً أن عدداً لا نهائياً من الشاشات والمرايا وزجاج ناطحات السحاب المصقول سيعكس صورهم .. فى الحقيقة هم يعلمون تماماً أنهم فى سباقٍ محموم ٍ أمام مرايا لا نهائية .

فى مانهاتن تستطيع أن ترى الحلم الأمريكى الطوباوى مجسداً أمام عينيك، تسير فى ميادينها وحدائقها وشوارعها ووقت ذروة الذهاب والإياب من العمل جميعُ الجنسيات بألوانها المتدرجة من أقصى الأسود إلى الأبيض الشفيف مروراً بالأصفر، يتحاورون بلكنةٍ بالكاد أفهمها وأتساءل تُرى هل لأنها خليطٌ من طريقة نطق الأعراق والشعوب المختلفة للغة الإنجليزية ؟ أكاد أمسك بالتسامح وهو يعوم فوق تجاور المتضادات ولا أرى مَن يجرؤ من المارة أن يُطيل التحديق فى الآخر المختلف عنه تمام الإختلاف، أسمع صرخة فرحٍ أمريكية فأعرف أن امرأة شقراء قد قابلت صديقتها الزنجية بعد طول غياب أو أن رجلاً زنجياً قد وجد أخيراً فى الزحام صديقته الأسيوية، يقولون أن مانهاتن تعانى من التفرقة العنصرية والجريمة والمخدرات والفقر.. قد أستطيع كزائرة لبضعة أيام رؤية الفقرحين أرى الـ"هوم ليس" أو الذين بدون مأوى فى أنفاق المترو مع عدد من الفئران تشتهر به نيويورك وحدها أو عندما أستشعر الأسعار الفلكية للسكن وبالطبع إيجاراً فقط ففى مانهاتن نادراً ما تستمع إلى كلمة تمليك، ولكننى أجد صعوبة فى أن أرى مظهراً واحداً من مظاهر التفرقة العنصرية، ويبدو أن أمريكا قادرة على إخفاء معالم هذه التفرقة من شوارعها المزينة باحتضان جنسيات لجنسيات طوال الوقت، كما أنها أيضاً بارعة فى محاولة إخفاء الفقر فالغنى فيها يستطيع تناول طعامه فى صحن من الذهب الخالص بأسعارٍ فلكية ولكن الفقير قد يستطيع الحصول على ما يحتويه هذا الصحن فى لفافة على الرصيف بأسعارٍ زهيدة .

ما زلت أعانى من انجذاب جسدى لتوقيته المصرى، أقرر أن أبدأ بصعود مبنى " الإمباير ستيت" .. قلت أنه أعلى ناطحة سحاب فى مانهاتن الآن دون منافس على الإطلاق بعد انهيار برجى التجارة العالمى، يتكون البرج من 102 طابقاً، أصعد فى أحد مصاعده التى يتجاوز عددها السبعين مصعداً وأنا أفكر فى أنه ظل المبنى الأعلى فى العالم لمدة تجاوزت الأربعين عاماً، وكنت قد رأيته آخر مرةٍ فى "كينج كونج "والوحش العملاق يُمسك فى يده الفتاة الجميلة التى أحبها ويحاول التغلب على الطائرات التى تحوم حوله مهاجمة إياه .. أشعر برهبة حقيقية وأنا أحاول محاصرة المشهد البانورامى لـ مدينة نيويورك من علٍ .. ياالله كل هذه ناطحات سحاب ! كل هذا قد تم بناؤه فيما يقل قليلاً عن أربعة قرون ! أراجع معلوماتى التاريخية غير مصدقة أن عمرها بالفعل أقل من أربعمائة عام، أو لم يشتر حاكم مستعمرة هولندا الجديدة جزيرة مانهاتن من الهنود الذين كانوا يسكنونها عام 1626 ودفع قيمتها حفنة من الخرز الملون والعقود والقماش المحلى بما يعادل 24 دولاراً أمريكياً آنذاك !! أكاد أصيح كل هذا تم بناؤه على ما يعادل 24 دولاراً أمريكياً ؟ أستطيع رؤية خطوطاً أستطيع بصعوبة تحديد أنها نهر إيست ريفر ونهر هديسون ونهر هارلم وسبايتين ديونيك كريك بينما أرى بوضوح خليج إير نيويورك .

يخفت صوت المرشد السياحى أمام ما (كانا) برجى التجارة العالمى، حولهما سواتر وإشعارات ومعدات عملٍ وعبارات تحذيرٍمن الاقتراب، يزداد صوته حزناً وتكاد تدمعُ عيناه وهو يرددُ ما شاهده العالم لحظة بلحظةٍ عام 2001 وينهى سرد كلَّ ما نعرف بأن البرجين سيظلان جرحاً عميقاً بروح أمريكا وأنه كان يود أن يطلعنا على آثار آلاف المدنيين الذين راحوا بطعنةٍ غادرةٍ فى ظهر الحضارة الأمريكية، يأخذنا إلى ركنٍ خالٍ محاط بأسلاكٍ شائكةٍ عُلقت عليها لوحاتٌ صغيرةٌ أو فردة حذاء مكتوبٌ عليها اسم صاحبها أو مجرد أوراق كرتونية بسيطة كتبها ذوى مَن راحوا فى أشهر وأكبر عملية إرهابية عرفها العالم حتى الآن، كنت مع الجميع صامتة أمام جلال الموت حتى أننا امتد صمتنا ونحن نمر مروراً يكاد يكون عابراً على الحىّ الصينى الذى يستخدم العالم كله وليست أمريكا وحدها سلعه، ولكننا نستعيد ابتسامتنا وأصواتنا عندما نستمع إلى نبرة الغرور التى يذكربها الرجل اسم شارع "الوول ستريت" عندما يردد بزهو منقطع النظير .. هنا يتحدد مصير العالم اقتصادياً . أنظر بإمعان إلى الثورالمائل دلالة على السقوط الذى قد يفاجئ البورصة فتهاجمنى الكوارث الإقتصادية التى مرت على العالم منذ ثلاثينات القرن العشرين وحتى الآن دفعة واحدة .

فى مانهاتن تستطيع مواجهة ناطحات السحاب صباحاً وهى هادئة ومتخلّصة من صخب نيون شاشتها الضخمة فتراها تعوم بالفعل بين السحاب، ويمكنك إذا أطلت النظر أن ترى "نيكولاس كيدج" وهو يلقى بنفسه من فوق إحداها ليتحول إلى بشر يمتلك الحواس الخمس مضحياً بخلوده كملاكٍ من ملائكة الموت ..يبدو أن مانهاتن تعرف قدر الحياة جيدا ًوتحتفى بها منذ الصباح وحتى الصباح بل تحتسى الحياة على مهلٍ وباستمتاعٍ مثير للدهشة دون أن تنام على الإطلاق .. يبدو أن أمريكا ليست فقط موسيقى الهارد روك أو سياستها الخارجية الفاشلة منذ عقود، بل هى فكرة طوباوية تجسد حلم الشعوب بالتعايش فى سلام مع الإختلاف الحاد شكلاً ومضموناً لكى يكون الإنسان خليفة فعلياً لله على أرضه يمجد كلَّ لحظة نعمة الحياة ويحتفى بجمال الجسد البشرى وجمال الطبيعة وتشكيل فراغ الكون بفرشاة وإزميلٍ وإذا ما ضاقت به الأرض فهو يبنى فى اتجاه الفضاء وقد يكون هذا سبيلاً من سُبل الوصول إلى دَرَجِ روحى أسمى .

علىَّ أن أنهض من النوم مبكراً جداً لألحق بسفينة من السفن المجانية التى تقل السائحين من ميدان البطارية لزيارة تمثال الحرية .. أفكر وأنا أقترب منه كم من المهاجرين والحالمين والزوار نظروا إليه هكذا من بعيدٍ وهو يهم باستقبالهم ؟ تكبر شعلته كلما اقتربت من قاعدته بأغلالها المكسورة وتكبر أصابع يده التى تحمل الشعلة العملاقة ويتضح وجه المرأة التوّاقة للحرية فيخايلنى كلما اقتربت أكثر مشهد نهاية فيلم "اسكندرية ليه" للعبقرى "يوسف شاهين" حين يجعل الوجه ينبسط بالتدريج ويتحول إلى وجه امرأة لعوب تغمز بعينها بغواية وتضحك ضحكةً ماجنةً منتصرةً، أتأمل الوجه الشامخ بتاجه وشعلته الشهيرة التى لن أراها من علٍ وألمح الطائرات السياحية المحلقة فوقه لإتاحة رؤيتها عن كثبٍ للأمريكيين فقط فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 تم منع الأجانب وحتى حاملى "الجرين كارت" أو الإقامة الدائمة من التحليق فوقه .

قبل أن أغادر نيو يورك أحاول أن أتجول تحت وطأة يوم حار فى الـ"سنترال بارك" أشهر وأكبر حديقة فى العالم وتهمس لى رفيقتى العربية التى تدرس فى "بروكلين" : إذا كانت لديك أيامٌ أخرٌ تستطيعين رؤية نجوم هوليود وهم يصورون بعض مشاهد أفلامهم فيها، هل تتذكرين عدد الأفلام الذى رأيتِ فيه هذه الحديقة ؟ أقول لها وكأننى أفكر بصوت عالٍ .. ألا تُعتبر السينما الأمريكية هى برديات الحضارة الأمريكية ؟ هى التجلى الأمثل لهذه الحضارة ؟ هى مدوناتها ورسائلها للعالم ؟ مثلما كانت الأهرامات والنحت والمسلات للحضارة الفرعونية والفن التشكيلى للحضارة الرومانية . تهز رأسها بينما أفكر أنا فى كم يلزمنى من الوقت حتى أتعلم أسماء النباتات والأزهار والأشجار التى لم أرها من قبل ؟

فى مانهاتن يقولون أنك لا تضمن ثلاثة أشياء .. الطقس ، والمرأة ، والعمل . أغلق عينىَّ وأنا أتأمل ما تحقق من هذه الأمثولة الأمريكية، وألملم أشيائى وأنا أدعوألا يتحطم تمثال الحرية الأخضر الشهيرفى حقيبتى، أعيدُ عشرات المرات قراءة مواعيد إقلاع الطائرة من مطار "جون كيندى" إلى مطار القاهرة لأتأكد أننى سأطير فى السادسة مساء 28 مايو ولن أصل إلى قاهرتى إلا فى الحادية عشرة صباح 29 مايو، وهكذا لا أستطيع مغادرة مانهاتن قبل أن تستعيد منى اليوم الذى ربحته فى بداية رحلتى .



مانهاتن
مايو 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل